في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، أصدر تنظيم الدولة (داعش) بياناً عبر قنواته الإعلامية على شبكة الإنترنت دعا فيه القاعدة وزعيمها في جزيرة العرب (قاسم الريمي) إلى مبايعة البغدادي كخليفة للمسلمين، وإلى قتال 3 أطراف حددها البيان، وهي نظام هادي، وقوات التحالف، والمقاومة الشعبية. وكان ذلك لافتاً، كون تلك الأطراف جميعا تقف ضد خصوم داعش الطائفيين، والذين اعتبرهم في بيانات أخرى الخصم الأول في اليمن، أي جماعة الحوثيين. فالرئيس هادي والموالون له وداعموه من قوات “التحالف العربي” الذي تقوده السعودية في اليمن ضد مسلحي الحوثيين وحليفهم صالح (الرئيس اليمني السابق)، والمقاومة الشعبية التي تُسمّى بها الجماعات المسلحة التي تقاتل إلى جانب قوات الرئيس هادي وذلك التحالف، هي قوى تقاتل جماعة الحوثيين التي سبق لداعش تدشين وجوده في اليمن باستهداف مساجد محسوبة عليها بصنعاء، وتوعدها بالمزيد من الضربات الموجعة.
صراع القاعدة وداعش؟
في الوقت نفسه، اتهم البيان تنظيم “القاعدة في جزيرة العرب” الذي يتخذ اليمن مركزاً لأنشطته بتسليم المناطق “المحررة”، أي تلك التي يسيطر عليها، كمدينة المكلا جنوب اليمن، إلى “الطواغيت” (وهي لا زالت تحت سيطرة القاعدة ولم يسلمها لأحد)، واتهمته بأنه لا يحكم المناطق التي يسيطر عليها وفقا لشرع الله (على حد تعبيره)، وأنه يقدم تنازلات “بغرض المصلحة” من دون أن يوضح طبيعتها. وهذا إعلان ضمني آخر باعتبار القاعدة في اليمن خصما له، ما يرجح احتمال نشوب صراع بينهما لاحقاً لأن مربعات استقطاباتهما مشتركة.
لكن، وعلى الرغم من تبنيه لعدد من العمليات الإرهابية دقيقة التنفيذ في كل من صنعاء وعدن، فلم يمتلك داعش الحاضنة الاجتماعية، لأن القبائل اليمنية قد تناصر القاعدة لاستيائها من أداء السلطة عموما – وهو ما تعززه القاعدة في خطابها المحلي – ولكن أهم من ذلك ، لأن القاعدة لا يستعرض عنفه بتلك الطريقة الوحشية التي يقوم بها داعش. بل وصل الأمر بالقاعدة لحد إدانة بشاعة داعش، ويسارع تنظيم القاعدة لنفي تورطه في عمليات من هذا النوع، كما حدث في عملية استهداف مشفى العرضي في صنعاء نهاية 2013.
.. وتداخلات
يحاول داعش إثبات وجوده ككيان على الأرض، وليس كأداة تنفيذية لعمليات مستقلة. فقد أعلن أواخر تشرين الثاني / نوفمبر الماضي عن تخريج 3 دفعات من منتسبيه في دورات تدريبية قتالية في محافظات يمنية جنوبية (أبين، عدن، حضرموت)، وكشف للمرة الأولى عن وجود عناصر مدربة له في اليمن، بعد تبني عمليات إرهابية عبر تويتر. ثم نفذ بعد ذلك أبرز عملية اغتيال استهدفت محافظ عدن جعفر سعد. وقبل إعلانه تخريج متدربيه من تلك الدورات، كان هناك تواجد لافت لقيادي شهير في أنصار الشريعة (قاعدة اليمن) هو جلال بلعيدي في محافظة أبين التي أجريت فيها إحدى الدورات. وبلعيدي سبق وأن كان وراء أبشع عملية تصفية لجنود يمنيين في محافظة حضرموت العام الماضي، حيث ذُبح 14 جنديا بالسكاكين وسجلت العملية صوتاً وصورةً، وهي أول عملية تشبه سلوك داعش، على الرغم من عدم تبني هذا الأخير لها، وقد قتل بلعيدي قبل أشهر بطائرة أمريكية من دون طيار.
وبشكل عام تتنافس القاعدة وداعش في اليمن والمنطقة، وكل منهما يحاول تبني ما يعتقده نقاط قوة لدى الآخر. فقد تغيرت سياسة القاعدة التي كانت تعتمد على “جهاد النكاية”، أي الاكتفاء بإلحاق الأذى بالخصوم، نحو “جهاد التمكين”، أي السيطرة على الأرض كمشروع دولة، وهذه كانت سمة خاصة بداعش. وعلى العكس، انتقل داعش من سياسته التوسعية على الأرض في العراق وسوريا إلى عمليات إرهابية متفرقة يقوم بتبنيها عبر تويتر غالبا، أي أنه ينتهج ما كان سلوكا خاصا بالقاعدة.
كما أن المال لم يعد ميزة لداعش لوحدها، بعد أن أصبح للقاعدة مواردها المالية الضخمة منذ سيطرتها على المكلا وما حولها (نيسان/ أبريل 2015)، بما فيه موانئ نفطية، وأصبحت إيرادات المكاتب الحكومية بالمكلا (عاصمة حضرموت) تصل إلى قبضة التنظيم.
داعش؟
وعلى الرغم من أن داعش كتنظيم هو انشقاق عن القاعدة التاريخية، وليس ناشئا مستقلا ولا جديدا من حيث الثقافة الأساسية، إلّا أن هناك فارقان أساسيان بينهما يتعلقان بآلية تنفيذ العمليات الإرهابية ودرجة عنفها، وأدبيات الجهاد التي أعطى فيها داعش الأولوية لقتال الخصم الطائفي بحكم نشأته بالعراق وصراع القوى السياسية المنقسمة مذهبيا هناك. وقد مثّل تمدد الحوثيين في اليمن (كخصم طائفي وموالٍ لإيران) فرصة سانحة لدخول الأرض التي سيخرج منها “جيش عدن أبين” كما ورد في الموروث الديني. وقد دشن داعش وجوده في اليمن بعمليات انتحارية استهدفت مساجد موالية للحوثيين بصنعاء (21 آذار/ مارس 2015) باعتبارهم خصمه الأساسي و”مساجدهم تتبع الروافض” (على الرغم من عدم وجود مساجد منفصلة لأي فئة دينية باليمن باستثناء الطائفة الإسماعيلية وبعدد محدود جدا). إلّا أن داعش نقل نشاطه الرئيسي لاحقا إلى العاصمة المؤقتة، عدن، التي يفترض أنّها مقر السلطة “الشرعية” صديقته وفقا لمبدأ “عدو عدوي صديقي” باعتبارها تقود الحرب ضد الحوثيين.
وحتى مصرع أبي أيوب الأنصاري في 29 آذار / مارس الماضي، الذي وصف كقائد لداعش في اليمن، لم يكن هناك اسم يمني يقترن بداعش أو يتحدث باسمه، وذلك على الرغم مما أعلنه مجهولون أطلقوا على أنفسهم اسم “مجاهدو اليمن” في تشرين الثاني/ 2014 نوفمبر من مبايعتهم تنظيم الدولة الإسلامية وزعيمه أبو بكر البغدادي. ولا يمكن حتى الآن تقدير قوة داعش كأفراد، كما لا يبدو أنه يضم أجانب كما اشتهر عنه بالعراق وسوريا، بل يمنيين فقط.
في تموز/ يوليو 2014، وبعد سيطرة جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) على مدينة عمران في طريقهم إلى صنعاء، وَصفت قيادات الجماعة، بمن فيها عبد الملك الحوثي، خصومها بالدواعش لأول مرة. كانت تلك دعاية تسويقية لداعش اليمني، قبل أن يكون له أي نشاط معلن، وقبل تبنيه لأي عمل إرهابي في اليمن، حيث اقتصر التوصيف سابقا على”التكفيريين” في إشارة إلى التيار السلفي المقّرب من السعودية، أو تنظيم الإخوان المسلمين المنضوي في حزب الإصلاح الإسلامي، وهم الخصم الإيديولوجي للحوثيين بسبب الصراع على أهداف ومصالح ذات طابع سياسي بالدرجة الأولى. لكن عموم اليمنيين تعاملوا مع ذلك التوصيف كمجرد تشبيه للخصوم بكيان إرهابي مشهور بالبشاعة والقتل، وكطريقة لرفض القبول بالآخر. حينها لم يكن هناك أيّ تواجد ولو رمزي لتنظيم داعش على الأرض اليمنية، وبدا تصريح الحوثي كتدشين علني لعملية صراع له منحى طائفي صريح، ويهدف لاستقطاب المقاتلين على أساس طائفي أيضا.
استغل داعش حالة الحرب المستمرة في اليمن للتواجد في البلاد. وساعدته عمليات التبشير المجاني بقدومه من قبل الحوثيين أو من قبل بعض المحللين الذين تحدثوا عن هجرة مقاتلي داعش من العراق وسوريا إلى اليمن، وهو ما لم يثبت، فهو ليس بحاجة حقيقية لاستقدام مقاتلين من خارج اليمن لأن العراق وسوريا هما ساحتاه الأساسيتان حاليا، ولأن اليمن يتميز بسهولة جذب وتجنيد المقاتلين المحليين بل وجاهزيتهم القتالية وعدم احتياجهم لتدريب طويل حتى يصبحوا مقاتلين محترفين، لاعتياد البلاد على الصراعات المتعاقبة وانتشار السلاح فيها بشكل كبير.
لكن هذه الحرب التي مهدت لقدوم داعش قامت بدور معاكس ومهم لعرقلة صعوده بشكل سريع أو تحوله إلى طرف مستقل له تمثيله وأهدافه الخاصة. ذلك أن السعودية و”التحالف” الموجود عسكريا في اليمن منذ 26 آذار/ مارس2015 قام بتوحيد أطياف المقاومة الشعبية ضد الحوثيين وحليفهم صالح تحت قيادته. على أن الأمر لم يستمر، إذ حولت أطراف المقاومة عدن بعد سيطرة التحالف و “الشرعية” عليها في تموز/ يوليو2015 إلى مدينة أشباح، تعيث فيها قوى منفلتة لم يتم ضبطها حتى الآن، لتتصدر المدن غير الآمنة وفقا لعدد عمليات الاغتيال والتفجيرات الانتحارية والسيطرة على مبان حكومية.. أي أنّ داعش يحاول الخروج من عباءة التحالف بعد أن استنفذ فائدته المرحلية منه، ويعمل لوجوده الدائم ضد وجود التحالف المؤقت.
هل هو داعش أم هي القاعدة؟
لقد حوّل داعش – ولا يزال – عدن إلى ثقب خطير في جدار الشرعية، وإلى فشل ذريع للرئيس هاديوللتحالف معاً، لعجزهما عن ضبط مدينة صغيرة كعدن وتخليصها من سيطرة الجماعات المسلحة المنفلتة، التي كانت أساسا جزءاً من مقاتليهم ضد الحوثيين وأنصار صالح، ثم تحولت إلى مجموعات إرهابية تستهدف السلطات الرسمية بشكل مباشر، واغتالت في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي أبرز قياداتها (اللواء جعفر سعد) الذي قاد هذه المجاميع ضد الحوثيين، ثم قتل على يدها، وقد تبنت اغتياله رسمياً في إعلان لها كفرع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، كما أعلنت من قبل استهداف رئيس الحكومة ونائب الرئيس السابق خالد بحاح وأعضاء في حكومته في مقر إقامتهم بعدن، وحاولت أكثر من مرة الاستيلاء على عدة مؤسسات حكومية كميناء الزيت بالبريقة.
في 22 كانون الأول / ديسمبر الماضي، وفي إحاطته لمجلس الأمن حول الوضع اليمني ، أبدى المبعوث الأممي اسماعيل ولد الشيخ قلقه من استمرار الحرب في اليمن لما تؤدي إليه من صعود القاعدة و “داعش”. لكن، وعلى الرغم من كل هذه المؤشرات على وجود داعش في اليمن، فإن قائمة الجماعات الإرهابية التي صدرت عن الاجتماع الموسع في الرياض منتصف كانون الأول / ديسمبر ذاك، الذي أعلن فيه عن “التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب” المكون من 34 دولة، خلت من أية إشارة إلى داعش اليمن، واكتفت بذكر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وجماعة الحوثيين، والإخوان المسلمين كثلاث جماعات مستهدفة، اثنتان منها يمنيتان جغرافيةً وقيادة (القاعدة والحوثيين)، والثالثة (الإخوان المسلمون) تتواجد ضمنيا في إطار حزب التجمع اليمني للإصلاح.
وباستثناء عملية قتل 27 أسيرا من الحوثيين (حسب إعلان “داعش”) بأكثر من طريقة، وبأساليب وحشية، كتفخيخ قارب حمل 7 منهم، فإن كل عمليات التفجيرات والاغتيالات التي تبناها “داعش” نفذت وفق أسلوب تنظيم القاعدة نفسه الذي ينتهج أساليب إرهابية بشعة أيضا، لكنها لا توحي بالتفاخر بتلك البشاعة كما هي حال داعش.
في أواخر كانون الأول / ديسمبر 2015 ، نشر أحد أعضاء تنظيم داعش في اليمن شريط فيديو يوضح طبيعة تنظيم الدولة الإسلامية في البلاد. لعل أهم ما كشف عنه الفيديو هو الصراع الشرس الذي يجري داخل التنظيم على القيادة والإدارة، وتنازع النفوذ بين مختلف قياداته، وطبيعة علاقتهم الملتبسة مع تنظيمات أخرى كتنظيم الشريعة، وعلاقة التنظيم قيد التكوين مع التنظيم الأم في العراق. إضافة إلى ذلك، فالفيديو الذي يبدو أن ناشره انشّق عن قيادة الدولة الإسلامية، جاء ضمن مسلسل صراع داخلي طويل، تتضح في بعض تفاصيله طبيعة بعض التمويلات التي حظي ويحظى بها التنظيم الذي يحاول أن يصعد مع أفول الدولة وأجهزتها في اليمن، وتنامي الميليشيات منذ إحكام الحوثيين قبضتهم على العاصمة صنعاء في أيلول / سبتمبر 2014. ودلالة هذا الفيديو الرئيسة تتمثل في التسلق السريع لأعضائه المستقطبين قبل ترسخ قناعاتهم بمبادئه وأهدافه وأساليبه، وعجزه عن تأسيس نواة صلبة تدير شؤونه في اليمن حتى الآن.
على أية حال ، سيخدم وجود داعش في اليمن كل الأطراف التي لا ترغب في عودة الاستقرار. وليست الهجمات المتكررة لداعش إلّا تسويقا مرحلياً للتنظيم في بيئة مضطربة وصانعة لقوى جديدة بحكم غياب الدولة، حيث بدأ مشروع داعش باستقطاب عناصر القاعدة الأكثر تشدداً ويطمحون بتأسيس كيان لهم . وهذا على الصعيد النظري ممكن، بعد سيطرة القاعدة على المكلا عاصمة أكبر المحافظات اليمنية مساحة (حضرموت) منذ نيسان/أبريل الماضي، وبالمقابل محدودية نشاطها العنيف هناك مقارنة بحجم الإنجاز الذي حققته، مما يثير حفيظة الأشد تطرفا من بينها.
هناك بيئة مثالية لنشوء تنظيمات إرهابية متعددة بأجندات مختلفة، كما لا تزال الظروف مثالية للأعمال الإرهابية في بلد يعاني حربا مزدوجة. ومع استمرار الحرب، هاجر عموم اليمنيين إلى دوائر أكثر ضيقا وتطرفا من دوائرهم السابقة، فغادر كثير من “الإصلاحيين” (أي إخوان اليمن) إلي السلفية، وغادر كثير من “المؤتمريين” (حزب الرئيس السابق صالح) للانضمام للحوثيين، وغادر بعض السلفيين للانضمام للقاعدة.. وفي السياق نفسه، ينتقل بعض أعضاء القاعدة إلى “داعش”.