عبدالباري طاهر
أقام برنامج الشرق الأوسط التابع لمنحة “كارنيجي للسلام” ندوة تحت عنوان “الحرب في اليمن: هل من نهاية تلوح في الأفق؟”. أدار الحوار فريدريك ووري مساعد أول البرنامج، وشارك في الندوة الحوارية الايف الآتي من اليمن، الطالب غير المقيم في برنامج “كارنيجي للسلام” في العالم، الباحث فارع المسلمي، والسفيرة باربارا بودين، السفيرة الأمريكية السابقة في اليمن، وحالياً مديرة “معهد الدراسات الدبلوماسية” في جامعة جورج تاون.
طلب إليها السيد فريدريك في البدء تحديد حيثيات النقاش، والكشف عن الورطة السياسية للولايات المتحدة في الصراع اليمني. لكن مداخلة السيد فريدرك قد تضمنت الإشارة إلى الخسائر البشرية لهذه الحرب، وحدد بداية الصراع بعام 2015، معتقداً أنه يمكن أن يعود إلى ما قبل ذلك، ويعتقد أن جذور الصراع محلية خالصة. يرى أن البعد الطائفي جرى النفخ فيه، وأن الصراع قد ترك آثاراً عميقة في كيان الدولة التي يتساءل إن كانت لا تزال موجودة؟ ويرى أن ظهور المتطرفين معطى من معطيات هذه الحرب، وينتهي إلى مأزق السياسة الخارجية الأمريكية، والواقع أن أطروحات المشاركين، فارع وبودين، قد غطت هذه المحاور.
ترى بودين أن الحرب ليست منسية، وإنما يعود خفوتها إلى حملة الإنتخابات الأمريكية والصراع الحقيقي (هكذا) في سوريا والعراق. تتفق مع فريدرك أن أساس الأزمة داخلية، وتقرر أن الولايات المتحدة طرف رئيس في الصراع، وأنها متورطة في حرب العراق.
توافق أن البداية كانت في مارس 2015 عند انطلاق الحملة السعودية الجوية، وتربط التدخل السعودي بنظرة السعودية “أن ما يجري في اليمن شأن داخلي، وبوجود تنافس بين محمد بن سلمان وولي العهد محمد بن نايف، وطموح الأول لإثبات الوجود ولا سلطان عليه”.
ترى أن اليمن “ضربت” بالربيع العربي كغيرها من الدول العربية، وتشيد بسلمية الثورة اليمنية، وانتهت بتنحية الرئيس، ونقل السلطة تفاوضياً، مشيدة بالحوار الوطني. تحدد بداية الإنحراف بسبتمبر 2013، مخطئة قرارات هادي غير الحاسمة، الإقتصاد بدأ بالتراجع، وانحدر كل شيء.
تصف الجماعة (الحوثيين) بأنهم “ليسوا قبيلة أو جماعة عرقية أو ثقافية أو دينية (مجموعة من الرجال) تجمعهم رؤية، ليس لديهم أي أيديولوجية سياسية، ليسوا متطرفين دينيين، لا يمكنك بسهولة وضعهم في طيف سياسي معين، ببساطة لم يعجبهم أداء الحكومة، كانوا جزءاً من ميدان التغيير السياسي، وجزءاً من الحوار الوطني”. تسرد تحرك الحوثيين والوصول إلى عدن، تصف التدخل السعودي بالمتأخر، تشير مجدداً إلى تنافس الأميرين ابن سلمان وابن نايف، وأن السعودية بواسطة الطيران المتفوق كانت تظن أنها تستطيع خلال أسابيع حسم المعركة؛ لأن الحوثيين مجرد أفراد سينهارون، وسيعود هادي.
تصف التحالف العشري بالحلف على الورق، وأن السعوديين والإماراتيين هم من خاض المعركة، مشيرة إلى ما تقوله السعودية بأنها في معركة مع إيران، ودعم إيران ضئيل جداً، وأن هناك تحالفات متناقضة، مؤكدة أن الأمريكان جزء من الحرب وتفاصيل الحرب، وأن القرار الأممي غير منطقي؛ لأنه يجرد الحوثيين من سلاحهم بدون تفاوض، والأمريكيون مشاركون في القيادة الجوية، وهم في نفس الوقت يسعون لوقف إطلاق النار، وتبرر دعم أمريكا للسعودية بأنها صفقة مقابل النووي الإيراني، وأن الاتفاق النووي أهم إنجازات أوباما، وتنتهي بطرح الأسئلة: ما الذي سترضى به السعودية بالنسبة لحدودها؟ مادور هادي؟ من الذي سيقوم بتعمير البلد؟، وضع صالح؟ تصفه بالذكي الذي لن يقبل النفي.
سؤال الحرب في اليمن وفي المنطقة العربية: سوريا، العراق، ليبيا… من أهم وأخطر أسئلة العصر منذ حروب ما بعد الحروب الباردة. حروبٌ يتمازج فيها المحلي بالإقليمي بالدولي، وقد لا تتبين الحدود الفاصلة فيها، وإذا ما طالت فقد تفلت من أيدي أطراف التصارع الأساسية، وتتحول إلى حرب الكل ضد الكل وتدمر الكيان كله.
يدور النقاش حول بداية الحرب، وفي حين يعود بها فريدريك وبودين إلى مارس 2015، فإن الباحث فارع يعود بذلك إلى سبتمبر من العام 2014، ويربطه بيونيو 2013 حين رفعت الحكومة الدعم عن المشتقات النفطية وبمبادرة التعاون الخليجي، وكل التزمين منطقي، ويجد سنداً في الواقع، لكن إذا ما قرأنا تسلسل وتناسل الصراعات والحروب في اليمن الولودة كالأرنب، والمتكاثرة كالفطر في الليلة المطيرة الظلماء، وإذا ربطنا ذلك بالثورة الشعبية السلمية، ثورة الربيع العربي 2011، فإن الرؤية قد تتسع لتصل إلى الجذور الأساسية للحرب؛ فالتاريخ اليمني مكتوب بالدم.
الثورة الشعبية السلمية (ثورة الربيع العربي) كانت بداية القطع مع هذا المسلسل الدامي. أشادت السيدة بودين بالطبيعة السلمية لثورة الربيع العربي في اليمن؛ فعلى مدى أزمنة متطاولة كانت الصراعات والحروب هي الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة والمكوث فيها، وفي العصر الحديث تشارك اليمين واليسار: الماركسيون والقوميون والإسلاميون، هذه الجريرة الممتدة والمتوارثة.
نزول الآلاف والملايين في جل المدن اليمنية، والتحاق القبائل والأرياف بالاحتجاج المدني، والتخلي عن السلاح، وإسقاط النظام بالصدور العارية أمر غير مستساغ ولا مسبوق. إلغاء القوة العسكرية بالاحتجاج السلمي لا تعرفه الحياة السياسية وهو خطر – أي خطر- يفزع الحاكمين، وهم تجار حروب بامتياز، ويلغي وسيلتهم الوحيدة للوصول إلى الحكم والاستنقاع فيه.
المدججون بالسلاح حتى الأسنان، الإحتياطي النشط لقوى الغلبة والقوة على مدى عقود وقرون، يتخلون عن السلاح، وينزلون لساحات الإحتجاج المدني في طول اليمن وعرضها. اعتُبر ذلك تهديداً لوجود وبقاء “الأطراف المعنية”، وهي القوى الحاكمة. و”الأطراف المعنية” مصطلح أطلقه المفكر العربي، محمد نعمان، كبديل لمصطلح أهل “الحل والعقد”، وهم في اليمن شيوخ القبائل وعلماء الدين والنافذون والوجاهات، وانضاف إليهم اليوم العسكر وقادة الأحزاب وكبار رجال المال والأعمال.
التنافس بين الأميرين ابن سلمان وابن نايف غير مستبعد. أما التقليل من أهمية الصراع مع إيران، فإن الصراع الإيراني في المنطقة حاضر وقوي وفاعل، وعلاقة الحوثيين بإيران مباشرة وعبر قنوات عديدة.
قضية محلية الصراع ليست دقيقة؛ فالعام والخاص والمحلي والإقليمي والدولي قد يتمازجان حد الإندغام. وفي ظل الهيمنة المطلقة للقوى العظمى وإلغاء الحدود والسدود، وإلغاء السيادة والاستقلال، وابتلاع الأنظمة التابعة للمجتمعات المحلية، ودهس السياسة بالعنف، والحرب والنماذج كاثرة بحيث يصبح الحديث عن محلية الصراع في بلد كاليمن أو العراق وسوريا وليبيا مجرد وهم، والجذر الخاص غير معزول عن العام الكوني.
حديث الباحثة بودين عن النفخ في الجانب الطائفي صحيح. وفي اليمن فإن البعد الجهوي، ومنذ أمد طويل، ولأسباب عديدة أهمها: غياب الموحد الأعظم، ووجود بنى قبلية قوية، وهويات ما قبل الوطنية. وفي اليمن يعتبر العرف القبلي أقوى من الديني، والدولة تنزل على حكم العرف، وتحتكم إليه في أهم وأخطر القضايا.
قراءتها صائبة في ما يتعلق بتزكية الحرب للتطرف في كل الإتجاهات، وإذا ما استمرت الحرب وطالت – لا سمح الله – فإن البديل الأكيد هو تسيد الدواعش والمليشيات المتمذهبة في الجانبين: السني والشيعي، والبديل التفكك، والمزيد من التمزق، وحرب الكل ضد الكل.
وتؤكد على “مأزق السياسة الخارجية الأمريكية”. والتأكيد صحيح وله علاقة بإغراءات القطب الواحد، وضعف العوامل الداخلية، وليس مجرد استرضاء السعودية المزعوجة من الإتفاق النووي الإيراني، وإن كان الإرضاء جزءاً من لعبة الحرب، ولهذه الحرب أبعاد لها علاقة باستنزاف ثروات المنطقة، وتدمير كياناتها الوطنية، تمهيداً لإعادة الصياغة حسب المكونات الأولى شأن المنطقة كلها، وبما يخدم ويعزز تسيد إسرائيل، وخلق الشرق الأوسط الكبير.
قراءتها أن السعودية تنظر إلى التدخل في اليمن كشأن داخلي عميقة، وتستحضر نشأة الكيانين الحديثين: السعودي واليمني منذ حرب 34. والحقيقة أن الحاكم اليمني هو الذي أغرى الحكم السعودي ومعه زعامات بعض الأحزاب وتجار الحروب بهذا التدخل السافر. وكلنا نتذكر أن صالح قال حين ضرب الطيران السعودي صعدة في الحرب السادسة: إنها بداية الحرب الحقيقية.
توصيف الحوثيين بأنهم “ليسوا قبيلة أو جماعة عرقية أو ثقافية أو أدبية (مجموعة رجال) تجمعهم رؤية ليس لديهم أي أيديولوجية، ليسوا متطرفين دينيين، لا يمكنك بسهولة أن تضعهم في طيف سياسي معين، ببساطة لم يعجبهم أداء الحكومة …” كلام بعيد عن المنطق والعقل؛ فتجريدهم من انتماءاتهم الإجتماعية والفكرية والسياسية والأيديولوجية لا تجعل منهم بشراً، وإنما كائنات خرافية!
المصيبة أن الحوثيين مجموعة بشرية لها ارتباط بالقبيلة في اليمن، وتنتمي قياداتهم إلى اتجاهات معروفة: حزب الحق، الشباب المؤمن، ولديهم مليشيات مسلحة قاومت ست حروب جائرة. شاركت السعودية في الحرب السادسة بتدخل عسكري وقصف جوي، وخسرت السعودية وصالح هذه الحرب. الغريب أن الباحثة – شأن الأستاذ المسلمي – لايتحدثون في قراءتهم للحرب في اليمن عن التحالف بين صالح وجيشه وأمنه ومحازبيه وبين الحوثيين، وهو التحالف الذي قام على أسس قبلية ومليشاوية وجهوية أيضاً ترتدي التمذهب، وتتعكز على الطائفية؛ فكلاهما جزء من بنية قبلية، يفاخر صالح بقحطانيته، ويفاخر القادة الحوثيون بالانتماء الهاشمي، وكلاهما سلالي وقبلي وجهوي.
الإنتصارات التي تحققت وفي زمن قياسي ليس مردها إلى فساد حكومة الوفاق، وعجز عبد ربه المدقع، مع أن ذلك صحيح، ولكن السبب الأقوى والأفتك تحالف صالح وسلطته وجيشه وأمنه والقوى النافذة الموالية له، إضافة إلى فساد السلطة وهشاشتها، وهيمنة الإسلام السياسي الإخواني على حكومة الوفاق والكفاءات أيضاً. أما ما الذي تريده السعودية؛ فالباحثة تعرف أسرار الإجابة أكثر من حكامنا وزعماء مليشياتنا، وهادي لا يريد أكثر من التأبيد شأن الأطراف الأخرى.
تحدد بداية الإنحراف بسبتمبر 2013، وتقصد يوم 21 سبتبمر 2014 يوم دخول الحوثيين صنعاء، وتنتقد أداء عبد ربه منصور.
معروف أن اجتياح الحوثيين لصنعاء كان الإنقلاب الثاني على الثورة السلمية، في حين كان الإنقلاب الأول انضمام الفريق علي محسن إلى الساحة. فعسكرة ساحة التغيير بصنعاء، وضرب العديد من الساحات، وعسكرة الحياة العامة والمواجهة العسكرية في غير مكان، باختصار كان الهدف منه ضرب الإحتجاج المدني السلمي، والخلاص من رياح التغيير وثورة الربيع السلمي، وهو قاسم أعظم مشترك بين كل هذه الأطراف المتحاربة المحلية والإقليمية والدولية، وتبقى دعوات ومساعي وقف الحرب والجنوح للسلام هي الخيار الأفضل والوحيد سواء بالنسبة لليمن أو لشقيقاتها العربية.