قبل وقت قصير من مقتل المقداد مجلي في غارة جوية، ذهب في رحلة إلى الأردن وأدرك حقيقة مقلقة. كان المقداد يعمل بلا كلل لتغطية الحرب التي دفعت بلاده من كارثة إنسانية إلى أخرى. ولم يتوان في تقديم أي تفاصيل في وصف الإصابات في صفوف المدنيين، ولا الناجين الذين لا يجدون ما يأكلونه لدرجة أنهم يأكلون صناديق القمامة.
ولكن في الأردن، اكتشف أن الحرب لا تكاد تشق طريقها إلى الأخبار. كان السكان هناك مصدومين لسماع ما يقول. كان المقداد يعي أنه من الصعب إيجاد جمهور من الناطقين باللغة الإنجليزية يهتم بما يدور في بلده، لكنه ظنّ أنه في مكان يتحدث فيه الناس لغة بلده ستتصدر بعض الأخبار على الأقل عناوين الصحف.
وقبل أن يسقط ضحية للحرب، التي أودت بحياة أكثر من 6,000 شخص منذ شهر مارس، كان الصحفي اليمني العنيد لا يزال يكافح لفهم الأسباب التي جعلت العالم يغمض عينيه بهذه السهولة على ما يجري في بلاده.
والخبراء يطرحون السؤال نفسه. يقول آدم بارون، الباحث الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية “إنه أمر غير منطقي … إنه أحد الصراعات الأكثر تدميراً في المنطقة، ولكن الناس على ما يبدو لا يستوعبون ذلك”.
ولهذا الغرض، سعت شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) لمعرفة الإجابة. وفيما يلي ما توصلنا إليه:
بلد مهمش
في عام 1996، عندما كانت السلسلة الكوميدية “أصدقاء” في ذروة نجاحها، حاول ماثيو بيري الذي لعب دور تشاندلر التهرب من صديقته بالقول لها أنه قد تم نقله إلى اليمن.
تنجح الدعابة لأنه المكان الأبعد والأكثر إثارة للضحك الذي يمكن أن يخطر على باله، حيثما لا تستطيع صديقته أن تذهب. لكن الشخصية الغبية في السلسلة، جوي (مات لوبلان)، لا تستوعب ذلك. ويقول جوي: “اليمن، يبدو ذلك في الواقع وكأنه بلد حقيقي”.
واليمن ليس مضرب المثل للمكان المنعزل في المسلسلات الأمريكية فحسب، بل إنه مشكلة إقليمية أيضاً– فالصورة النمطية عنه هي القبلية والتقليدية، ويفتقر إلى حد ما إلى المكانة الثقافية لبلدان مثل مصر وسوريا والعراق أو الأردن. كما لا يملك اليمن أية احتياطيات كبيرة في منطقة يؤثر فيها النفط على حياة الكثير من الناس. وحتى قبل الحرب، كان اليمن أفقر بلد في شبه الجزيرة العربية.
وبصرف النظر عن الفترة التي ارتبطت فيها مؤامرة “إرهابية” عارضة بمجموعة تعمل في مخابئه الجبلية وبراريه الشاسعة، فاليمن ببساطة لا يشكل أولوية، لا إقليمياً ولا دولياً. نشبت الحرب من جراء فشل الانتقال السياسي بعد الاحتجاجات المستوحاة من الربيع العربي، وهي الحركة التي أطلق عليها اسم “الثورة المنسيّة” قبل وقت طويل من أن يصبح القتال الحالي في اليمن “حرباً منسيّة”.
يرى فارع المسلمي من مركز كارنيغي للشرق الأوسط أن عزلة البلاد هي من صنع حكامه إلى حد ما.
فانخفاض إنفاق علي عبد الله صالح على التعليم، الذي حكم البلاد لمدة 33 عاماً، جعل الاتصال مع العالم الغربي أكثر محدودية.
وحتى بضع سنوات، “كان من الأسهل الحصول على بندقية من طراز إيه كيه-47 في اليمن من الحصول على قاموس إنجليزي،” كما قال لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين).
ويقول المسلمي أن افتقار اليمن إلى جالية مغتربة قوية مثل مصر أو سوريا، جعل اليمن “بلد الحكايات التي لم ترو”.
وقد استغرق الأمر عقدين من الزمن وهجومين فاشلين على الولايات المتحدة يعود مخططيها إلى اليمن – منهما الانتحاري الذي حاول إخفاء متفجرات في الملابس الداخلية – ليجلب مسؤول أمريكي رفيع المستوى، وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون آنذاك، إلى هذا البلد في عام 2011.
صراع معقد
ويواجه هؤلاء الذين يحاولون نشر أخبار اليمن عقبة تتمثل في حقيقة أن الصراع معقد بشكل لا يصدق. فهو يفتقر إلى الرواية السيئة الواضحة مقابل الرواية الجيدة الواضحة التي شاهدها كثيرون في الغرب في بداية الحرب السورية، على سبيل المثال.
في اليمن، الموضوع لم يكن يوماً بسيطاً أبداً. فهذا صراع أهلي معقد يضم تحالفات محلية ودولية قد لا تبدو ذات معنى هام للمشاهد العادي، بل وأحياناً المثقف.
بدأت المشكلة قبل وقت طويل من قيام التحالف الذي تقوده المملكة العربية السعودية بعمليات القصف في مارس 2015. كان صالح يكافح تمرد الحوثيين الشيعة منذ عام 2004، لكنه أُرغم على التنحي عن السلطة في عام 2011 في خضم صراع على السلطة مع زعماء المعارضة والمليشيات القبلية، في الوقت الذي مرت فيه البلاد بأشهر من المظاهرات الشعبية ضد حكمه.
ولا يزال خليفته، عبد ربه منصور هادي، الرئيس المعترف به دولياً لليمن، ولكن تمت الإطاحة به فعلياً عندما سيطر المتمردون الحوثيون على العاصمة في يناير العام الماضي، بعد هربه إلى المملكة العربية السعودية. ويتمثل ادعاؤه الرئيسي بالشرعية في كونه زعيم اليمن المتحد، إلا أنه يقف أيضاً إلى جانب الحلفاء الانفصاليين الجنوبيين وزعماء القبائل والإسلاميين السُنّة المناوئين للحوثيين.
وفي حين أنه غالباً ما يتم وصف الحوثيين كوكلاء لقوة إقليمية شيعية عظمى هي إيران، فإن لديهم مظالمهم الخاصة وقادتهم وصناع القرار. وما يزيد الوضع تشويشاً، هو أنهم الآن يحظون بدعم صالح، عدوهم السابق.
دخلت المملكة العربية السعودية المعركة في شهر مارس، متهمة إيران بدعم الحوثيين، وشكلت تحالفاً من 10 دول ذات أغلبية سنيّة، بما في ذلك جميع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، باستثناء سلطنة عُمان. وبالإضافة إلى الضربات الجوية التي لا تتوقف تقريباً، دعماً لقوات هادي، يفرض التحالف حصاراً بحرياً ونشر قوات على الأرض: بل إن هناك مقاتلين كولومبيين أرسلتهم دولة الإمارات العربية المتحدة.
في الوقت نفسه، استغلت الجماعات الإسلامية الفوضى للتمدد والاستيلاء على أراض جديدة. ويتواجد تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية وما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية حالياً في ميناء عدن ذو الأهمية الاستراتيجية.
وليس هناك على ما يبدو طرف أقرب للفوز في الحرب، ومن ثم من الصعب التكهن بنتائجها، لاسيما وأن أياً من الطرفين لم يقوم بأي تحرك حقيقي من أجل التفاوض، بل تم تأجيل محادثات السلام التي تقودها الأمم المتحدة.
وتعليقاً على ذلك، قال بارون أن “حقيقة أن البلد غارق منذ فترة طويلة في صراع يجعل من السهل على الناس تجاهله … إنهم يدركون أن اليمن في حالة حرب، ولكن يرون أنه كما الحال دائماً هو في حرب”.
المصالح الراسخة وفتور التعاطف مع الأزمة
بالتأكيد أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا – جميعهم إما يقدمون الدعم اللوجستي أو يبيعون أسلحة للسعوديين – لديهم سبب وجيه للاهتمام باليمن.
فقد خلص تقرير أعده فريق من خبراء الأمم المتحدة بشأن اليمن، تم تسريبه الشهر الماضي، أن التحالف الذي تقوده السعودية نفذ هجمات “واسعة ومنهجية” ضد أهداف مدنية منتهكاً بذلك القانون الدولي الإنساني.
من جانبها، تضغط جماعات حقوق الإنسان على المملكة المتحدة بشكل خاص لتحملها على إعادة النظر في مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية، التي سجلت في العام الماضي رقماً قياسياً، وصل إلى 2.8 مليار جنيه استرليني (4.2 مليار دولار) في الأرباع الثلاثة الأولى من العام فقط.
ويُعد هذا الرقم ضئيلاً أمام مبيعات السلاح الأمريكية. فمنذ سبتمبر 2014، أبلغت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الكونجرس بأن إجمالي مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية وصل إلى أكثر من 21 مليار دولار. وعلى الرغم من أن بعض أعضاء الكونجرس قد عارضوا صفقة الذخائر جو-أرض المقترحة بمبلغ 1.29 مليار دولار بسبب مخاوف من طريقة استخدامها في اليمن، إلا أن الصفقة على ما يبدو ستتم.
ودعا كريس ميرفي، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي مؤخراً بلاده للخروج من الحرب، لكنه لا يشكل في الغالب سوى صوت وحيد.
وفي هذا الصدد، قال ميرفي: “أنا لا أرى أي أدلة الآن على أن السعوديين يشنون تلك العملية العسكرية بطريقة مسؤولة. إنها تفاقم الأزمة الإنسانية داخل اليمن”.
والحقيقة هي أن مشاركة المعلومات الاستخبارية مع المملكة العربية السعودية تشكل جزءاً رئيسيا من السياسة الخارجية الأمريكية والبريطانية منذ سنوات، اللتين تعتبران المملكة قوة استقرار في المنطقة. وفي ظل قيام الحوثيين بمهاجمة حدودها وإثارة السعودية للتهديد الذي يمثله النفوذ الإيراني، من غير المرجح أن يكبح الغرب جماح حلفائه.
في هذه الأثناء، تميل وسائل الإعلام للتركيز على الصراعات الإقليمية الأكبر في سوريا والعراق، التي يتضح أثرها على الغرب بشكل أكبر من حيث عدد اللاجئين وهجمات المتطرفين والمخاطر الجيوسياسية.
من جانبه، أوضح بيتر ساليسبري، الخبير في الشؤون اليمنية من معهد تشاتام هاوس أن “صناع السياسة محدودي التركيز، ويفكرون في مدى قصير نسبياً، ويهتمون بالأشياء التي تستحوذ على عناوين الصحف”.
وهناك أيضاً نوع من الفتور في همة المتعاطفين مع الأزمة، وهو شعور بأنه ليس لدى الجمهور مساحة لفهم اليمن عندما تكون عقولهم متخمة بالعديد من حالات الطوارئ الأخرى، والأكثر إلحاحاً.
وقال المسلمي: “إنه للأسف صراع منسي من نواح كثيرة … الوضع في سوريا، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا يسيطر على الجميع، والعالم بالأساس بات مكاناً مشوشاً”.
لماذا ينبغي علينا الاهتمام
تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن عدد الوفيات المتصلة بالصراع وصل إلى أكثر من 6,000 حالة خلال 11 شهراً الماضية. ونظراً لتدهور حالة النظام الصحي في اليمن (هناك نقص في الإمدادات، ناهيك عن وجود 69 مرفقاً تعرض لأضرار أو دمر بالكامل) يفتقر 14.1 مليون يمني للرعاية الصحية الكافية، ويمكن القول بأن العدد الحقيقي أعلى من ذلك.
وفي هذا السياق، قال مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان، لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) عبر البريد الإلكتروني أن عدد الخسائر التي سجلها في صفوف المدنيين في شهر يناير وصلت 318 حالة: 118 شخصاً قتلوا و200 أصيبوا بجروح. وبهذا تصل الخسائر بين المدنيين منذ مارس 2015 إلى 8,437 شخصاً: 2,913 قتيلاً و5,524 جريحاً.
بالمقارنة، بعد عام من الصراع في سوريا، ذكرت الأمم المتحدة أن عدد الوفيات وصل 7,500 حالة.
وتواجه وكالات الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الأخرى صعوبات في التكيف مع خطورة الأزمة الإنسانية، في ظل تقييد وصولها إلى مناطق النزاع والحصار المستمر في مدينة تعز.
هناك قرابة 19.3 مليون شخص يفتقرون إلى المياه النظيفة أو الصرف الصحي، و320,000 تقريباً من الأطفال مصابين بسوء التغذية الحاد.
وتوضيحاً لذلك، قال جوليان هارنيس، المدير القطري لمنظمة اليونيسف في اليمن، لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) في شهر ديسمبر أن “الاحتياجات هائلة لدرجة أنه لا تستطيع المنظمات الإنسانية تغطيتها كلها”.
وفي البيئة الإخبارية التي تهيمن عليها وسائل التواصل الاجتماعي، ربما يحتاج اليمن فقط إلى لحظة انتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كصورة الرضيع السوري ايلان كردي، وهو مقلوباً على وجهه على أحد الشواطئ التركية، التي جلبت أنظار العالم إلى أزمة اللاجئين.
ولكن هؤلاء، مثل ساليسبري، الذي أدرك حجم الكارثة الإنسانية ومخاطر الحرب في اليمن منذ زمن طويل، غاضبون ولهم الحق في ذلك.
وأوضح ساليسبري قائلاً: “بالنسبة للأشخاص الذين يعرفون اليمن أو الذين عملوا فيه، هناك شعور بالإرهاق من الناس الذين يقفزون صعوداً وهبوطاً قائلين: ‘اليمن مهم'”.
وفي نهاية المطاف، “سوف يطرح الناس هذا السؤال: لماذا لم نولي المزيد من الاهتمام لليمن؟ لماذا لم نأخذه بشكل أكثر جدية عندما كانت لدينا فرصة للقيام بشيء؟”