قبل اندلاع الحرب في اليمن، كان المواطنون السود في البلاد يحتلون أدنى درجات السلم الاجتماعي. هذه الجماعة، التي عادة ما يطلق عليها اسم الأخدام وتفضل أن تدعى بالمهمشين، هي الأفقر من بين أكثر المواطنين اليمنيين فقراً في اليمن، ويعمل أفرادها في تنظيف الشوارع وجمع القمامة والتسول.
وعندما نشبت الحرب، كان المهمشون من أول المواطنين وأكثرهم تضرراً. ولأنهم يعيشون في الأحياء الفقيرة المبنية من القصدير والقماش المشمع والورق المقوى، فقد كانوا عُرضة بشكل خاص للقتال والضربات الجوية. وعندما فروا من ديارهم، كانوا يفتقرون إلى المال الذي يلزم للتخفيف من حدة المعاناة وإلى الصلات والمعارف التي يمكنها أن تساعدهم في العثور على مأوى.
وبعد مرور نحو عام على الصراع في اليمن، قتل أكثر من 6,200 شخص، وهذا فقط ما استطاع النظام الصحي المتهالك في البلاد إحصاءه. كما تسببت أعمال العنف في نزوح قرابة 2.5 مليون آخرين، وبات 320,000 طفل دون سن الخامسة معرضين لسوء التغذية الحاد.
وعلى الرغم من أن الحرب قد سوّت، على نحو مروع، ساحة التنافس، إلا أن السباق بات سباقاً نحو القاع. فجميع اليمنيين تقريباً قد تضرروا للغاية من الصراع ومن الكارثة الإنسانية التي نتجت عنه. والآن تنضم مزيد من المجموعات المختلفة من اليمنيين إلى المهمشين إلى الدرجات الدنيا من السلم الاجتماعي.
وفي هذا الصدد، قالت بثينة الإرياني، رئيس قسم السياسات الاجتماعية في منظمة اليونيسف في اليمن لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): “في البداية، كان هناك تمييز واضح [بين المهمشين واليمنيين الآخرين]، ولكن الجميع الآن يتضررون بشدة”.
ويُعتقد أن هناك ما يقرب من مليون شخص مهمش في اليمن، يتركز معظمهم في محافظتي صنعاء وتعز. وهؤلاء، مثلهم مثل الغالبية العظمى من اليمنيين، مسلمون ويتحدثون اللغة العربية. وتقول الأساطير أنهم أحفاد الجيش الإثيوبي المهزوم الذي أرسل إلى المنفى بعد هزيمته على يد الحكام المسلمين قبل 1000 سنة، ولكن لا أحد يعرف أصولهم على وجه اليقين.
وفي ظل وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه في 10 أبريل، والجولة الجديدة من محادثات السلام المقرر عقدها في 18 أبريل، يتزايد تسليط الضوء على محنة المهمشين وغيرهم من الجماعات المهمشة. كيف يتسبب الصراع في تمزيق المجتمع اليمني، وكيف سيكون شكل الدولة بعدما تستقر الأمور؟
إحباط متنام
وتوضيحاً لذلك، قالت أَمة الرحمن من مجتمع المهمشين في صنعاء وهي تقوم بطهي وجبة الإفطار على نار مكشوفة، لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): “إن الحرب قد تركت عائلتي أكثر فقراً عن ذي قبل”.
وأضافت: “قبل عامين، وعدني زوجي ببناء مطبخ لي”. ولكن عجلة النشاط الاقتصادي قد توقفت، وهو الآن لا يجد حتى أعمال البناء التي تكفي لإطعام الأسرة.
“نحن لا نحصل من التسول على ما يكفي من الغذاء”.
وفي حين أن المهمشين لا يزالون فقراء جداً، وتقدم منظمة اليونيسف مساعدات خاصة لهم، إلا أنهم ليسوا بأي حال من الأحوال اليمنيين الوحيدين الذين يكافحون الآن للعثور على ما يكفي حاجتهم من الطعام.
وقد حذر برنامج الأغذية العالمي الأسبوع الماضي من أن ما يقرب من نصف المحافظات الـ 22 في اليمن على شفا المجاعة، وهناك أكثر من 133 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات غذائية.
وفي السياق ذاته، قال هشام العميسي، وهو محلل سياسي في صنعاء، أنه شاهد مهمشين يتقاتلون مع يمنيين آخرين على أفضل أماكن التسول في زوايا الشوارع. إنه مشهد جديد في العاصمة، وعلامة على اليأس الذي جلبته ويلات الحرب.
وقال العميسي لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): “من المحزن أن تراهم يتقاتلون من أجل قطعة من الخبز”.
أُجبروا على العيش معاً
وعندما اندلعت الحرب، كافح العديد من المهمشين من أجل التأقلم مع الوضع الجديد لأنهم لا يمتلكون عقارات وليس لديهم قرى يعودون إليها. ونظراً لأنهم لا يتمتعون بروابط قبلية يعتمدون عليها في وقت الشدة، فقد كانوا من أولى الجماعات التي تتوجه إلى مخيمات النازحين داخليا.
وقالت الإرياني من منظمة اليونيسف أن العديد من اليمنيين الآخرين الآن قد اضطروا للانضمام إلى المهمشين في ظل انهيار شبكات الدعم القبلي لمجموعات أخرى من اليمنيين أيضاً “بسبب الفقر المدقع”.
وفي منطقة الشمايتين، التي تقع على بعد حوالي 70 كيلومتراً من مدينة تعز المدمرة، يعيش أكثر من 300 شخص – من المهمشين وغيرهم من المواطنين اليمنيين – معاً في مدرسة تم تحويلها إلى مخيم للنازحين داخلياً. وبالنسبة لبعض اليمنيين، يُعد العيش في مثل هذا التقارب مع المهمشين أمراً نادراً في المجتمع اليمني.
ويعتبر ماهر العولي، وهو رجل من المهمشين يبلغ من العمر 33 سنة، أن العيش في أحد الفصول المدرسية بمثابة خطوة إلى الأعلى من حيث نوعية السكن، ذلك أنه يتمتع بجدران صلبة وهناك سقف يغطيه.
وقال لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): “لقد اعتدت على العيش مع عائلتي واثنين من إخوتي في كوخ … لكن لدينا الآن غرفة … وهذا مكان أفضل بالنسبة لنا”.
وقد استخدم النازحون المكاتب لتقسيم الفصول الدراسية بين الأسر الثلاث، التي يبلغ عدد أفرادها 14 شخصاً. وقد تم تحويل سلالم وممرات المدرسة إلى مطابخ مؤقتة.
ولكن أماكن المعيشة المتجاورة لم تُغيّر بالضرورة المواقف الاجتماعية، حيث تقول زعفران العمدة، وهي سيدة في الخمسينيات من المهمشين، أنها لا تتفاعل مع جيرانها.
“حتى لو كان كل واحد منا يعيش في المخيم نفسه، فهناك مؤشرات واضحة على التمييز وعلى أنهم يكرهوننا”.
وقد قال العديد من النازحين الذين يسكنون في المدرسة التي تحولت إلى مخيم، لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): أن المهمشين “قذرون”.
ولكن خارج فناء المدرسة المغبر، يلعب الأطفال من جميع الألوان كرة القدم معاً.
انهيار المجتمع
وليس الفقر وحده الذي يدمر الشبكات القبلية، إذ أفاد العميسي أن الولاءات السياسية والتوترات الإقليمية تزيد من اتساع الفجوات.
وأوضح العميسي أن هذا قد حدث داخل عائلته بالفعل، عندما اصطف كل فرع من أفرع العائلة إلى جانب أحد الأطراف المتحاربة في الصراع، ولم يعودوا يتحدثون مع بعضهم البعض.
ومعظم الانقسام هو بين الشمال والجنوب. فالرئيس عبد ربه منصور هادي (الذي تمت الإطاحة به)، والمعترف به دولياً وقف إلى جانب اﻻنفصاليين الجنوبيين، وزعماء القبائل الذين يحاربون الحوثيين، والإسلاميين السنّة، والتحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية.
ولطالما كانت عدن هي المعقل التقليدي للرئيس هادي، على الرغم من أن هذا المنفذ الجنوبي الاستراتيجي محل تنازع بين تنظيم القاعدة وتنظيم ما يسمى “الدولة الإسلامية”.
والجدير بالذكر أن المتمردين الحوثيين، الذين أطاحوا بالرئيس هادي في عام 2015، يتخذون من صعدة، التي تقع في شمال اليمن، قاعدة لهم ولا يزالون يسيطرون على أجزاء كبيرة من البلاد، بما في ذلك العاصمة صنعاء ويحظون بدعم من الرئيس السابق على عبد الله صالح، الذي استمر في سدة الحكم 33 عاماً.
وعلى الرغم من أن الانقسام بين الشمال والجنوب يعود لفترة ما قبل الحرب، إلا أنه أضحى في هذه الأيام، فاصلاً جغرافياً يمكن أن يعني الحياة أو الموت.
وقال العميسي: “إذا ذهبت إلى نقطة تفتيش الآن، فأول شيء سوف يسألني عنه [المقاتل] الحوثي: من أين أنت”. والشيء نفسه يحدث عند نقاط التفتيش التي يديرها الموالون للرئيس هادي على الجانب الآخر.
من جهته، أعرب فارع المسلمي، الباحث الزائر في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، عن قلقه إزاء تنامي التقسيمات الجغرافية، التي يقول أنها تُعد في الواقع أكثر خطراً من التوترات الطائفية، على الرغم من أن الأخيرة في ازدياد أيضاً.
مهمشون آخرون
وبصرف النظر عن المهمشين، فإن أولئك الذين يفتقرون إلى الوصول الطبيعي إلى السلطة- مثل النساء والأطفال، هم من بين الفئات الأكثر ضعفاً أيضاً.
كما أعرب المسلمي عن قلقه إزاء نشوء جيل من الأطفال من دون طعام كاف، وقال العميسي: “يمكنك أن تشاهد النساء يذهبن إلى صناديق القمامة في منتصف الليل، عندما لا يكون هناك أحد، للبحث عن الطعام”.
ويرى المسلمي والعميسي أن عملية الإجلاء التي قامت بها إسرائيل مؤخراً لـ 19 يمنياً يهودياً – وهم بعض من آخر ممن تبقى من أفراد الجالية اليهودية في اليمن – تعتبر مرحلة حزينة بشكل خاص في الحرب.
وقال المسلمي أن هذا الأمر “كان صادماً بالنسبة له … فالحضارات والأمم لا تموت عندما يموت الناس في القتال. بل يموتون عندما تندثر الأقليات والتاريخ”.
ولا أحد يلوم اليهود على ترك البلاد، ذلك أن أحد الشعارات الرئيسية للحوثين، المدونة على بعض الملصقات في شوارع صنعاء هي: “اللعنة على اليهود”.
ولكن المسلمي يرى أنه ما حدث هو عرَض لمرض أعمق، في ظل تعمق الانقسامات وتصدع المجتمع.
وقال المسلمي لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): “لم يعد هناك تقريباً مكان للعيش في سلام، خاصة إذا كنت تنتمي لأقلية أو مجموعة مهمشة أصلاً”.
أي نوع من السلام ذلك الذي ستفرزه الحرب؟
والآن وبينما باتت محادثات السلام على الأبواب، ثمة قلق حول من هي الأطراف على وجه التحديد التي ستشارك في المحادثات، وإذا كانت ستمثل المجتمع المدني، وهل ستختلف تلك الأطراف عن وسطاء السلطة التقليديين في اليمن.
ونظراً لأن الأطراف الرئيسية في الحرب هم رجال كبار في السن ورئيس سابق ومخلوع، فإن العميسي لا يتوقع أن يتم تحقيق الكثير.
وتعليقاً على ذلك، قال لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): “نظراً لأن الانقسامات الآن أعمق والحالة الإنسانية أكثر كارثية، فإنه حتى لو عقدت محادثات السلام فسيعود نفس الأشخاص إلى الساحة، وهذا لن يساهم في تحسين الوضع بالنسبة للشعب”.
وأعرب المسلمي أيضاً عن مخاوفه من نوعية المجتمع الذي سيتشكل بعدما تضع الحرب أوزارها: “هذه حرب أهلية، وليست لعبة كرة قدم حيث يفوز فريق أحد الفريقين ثم يعودوا إلى ديارهم … فهناك الكراهية والانتقام والتناحر القبلي: هذه هي الأشياء المرعبة. للمرة الأولى لا يلتقي اليمنيون للتحدث مع بعضهم البعض ومضغ القات… أصبحوا الآن يلتقون لقتال بعضهم البعض. ستكون هناك عواقب [للحرب]. وستكون قبيحة”.