“إذا ما أردنا وطناً يتساوى فيه نعمان الحذيفي مع الرئيس عبد ربه منصور هادي، يجب أولاً، ومن هذه القاعة، أن تتخلصوا من العنصرية» (من كلمة ممثل المهمشين اليمنيين في مؤتمر الحوار الوطني آذار / مارس 2013). جدران وقيود كثيرة كسرتها الثورة الشبابية السلمية في اليمن التي انطلقت في شباط / فبراير2011 وغيرت مفاهيم عديدة. فهي أول ثورة يمنية تتخذ الاعتصام السلمي منهجا لها، و لم تنطلق من تنظيم سري، ولم تقم بانقلاب عسكري، ولم يحتكرها فصيل سياسي واحد… كما جرت العادة في تاريخ اليمن الحديث.
جدار المرأة الناخبة
ظلت مشاركة المرأة اليمنية في الشأن العام للبلاد منظومة بمسارين اثنين في الغالب: أولهما تزيين صورة السلطة والأحزاب السياسية الأخرى. فمنح المرأة بعض المناصب الشكلية يتم غالباً كدليل لإثبات مناصرة قضاياها من قبل السلطة والاحزاب على السواء. والمسار الثاني كان يجري على الارض، ويقتصر على حشد المرأة الناخبة لاختيار مرشحي أحزابها في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية. مع نجاح حزب الإصلاح (الإخوان المسلمون) في ذلك بدرجة أكبر من الأحزاب الأخرى التي على الأقل جربت ترشيح بعض عضواتها للانتخابات، وإن كان فوز إحداهن حدثاً نادر الوقوع، كما حصل مع عضو البرلمان الحالي الوحيدة أوراس ناجي.
وتعد توكل كرمان القيادية في حزب الإصلاح (بالرغم من ان شخصيتها تثير جدلا شديدا داخل اليمن على عكس الاجماع الخارجي عليها) أبرز نساء حزبها خروجا عن رؤيته لدور المرأة. فقد أسست وأدارت منظمتها المدنية الخاصة، وشاركت في كثير من التظاهرات المشتركة مع الذكور. إلا أنها لم تتحول إلى رمز قيادي جماهيري إلا صبيحة انطلاقة الثورة الشبابية قبل أكثر من عامين، حين أقامت خيمتها في ساحة التغيير بصنعاء إلى جانب عشرات الخيام التي يسكنها الذكور من حولها، وقادت مسيرات الشباب المطالِبة بإسقاط نظام صالح، مع أن سقف حزبها حينها لم يتجاوز المطالبة بـ«إصلاح النظام» قبل التحاقه بركب توكل ورفاقها المطالب بإسقاطه. وهي تعرضت للاعتقال (لساعات)، وهو حدث نادر في اليمن، فالمرأة تحظى بحصانة اجتماعية حتى ضد الشرطة، ولا تتجرأ الأجهزة الأمنية على اعتقال امرأة بذلك الشكل.
نتيجة ذلك حازت كرمان جائزة نوبل العالمية كأول امرأة عربية، بعد بدء الثورة بأشهر، وطافت العالم للتعريف بثورة الشباب متجاوزة أدوارا نسائية فردية قبلها كدور أمة العليم السوسوة، كونها مارست العمل الثوري والسياسي بشكل مباشر مع وجود مخاطر محققة من تلك الممارسة. وتوكل اليوم شخصية عالمية، ولم تكن لتصبح كذلك حتما من دون ثورة الشباب الأخيرة.
بشرى المقطري قامت بدور مماثل في ساحة الحرية بتعز، وربما كانت أكثر جرأة في خطابها المستند إلى إرث اليسار الثقافي، كونها تنتمي للحزب الاشتراكي اليمني الأكثر تقدمية ووضوحا إزاء قضايا المرأة. تعرضت بشرى لحملات تشهير وتكفير من القيادات الإسلامية المتشددة، بما فيها تلك المنضوية في ركب الثورة الجديدة، لكنها استمرت في خطابها الثوري التقدمي من دون توقف. لم تخض بشرى في تحالفات سياسية دائمة،
وربما يفسر ذلك عدم تمتعها بالحضور الإعلامي الذي أتيح لكرمان ذات التحالفات السياسية الأوسع مع التيار التقليدي رغم نشاطها الأقرب للتقدمية.
أروى عثمان وأمل الباشا كذلك نالهما من التشهير نصيباً وافراً كونهما أقدم وأعمق رؤية ونشاطا فيما يتعلق بالمرأة. وقد اعتدى جنود الفرقة الأولى مدرع التي يقودها اللواء علي محسن، أبرز قيادات الجيش المنشقة عن صالح، على أروى عثمان عندما اشتركت في مسيرة مختلطة إبان الثورة.
ما زالت أروى، وبشرى، وأمل وغيرهن الكثيرات، يمارسن نشاطهن الثوري ضد قوى الثورة ذاتها التي اشتركن فيها، أي القوى التقليدية التي تمارس الإقصاء ضد أبرز رموز الثورة التي أوصلتها إلى سدة القرار. وهذه ريادة أخرى لهن كثوريات وليس ثائرات فحسب، أي أن ثورتهن ضد الخطأ مستمرة مهما كان مصدره، ولسن ثائرات في مهمة مؤقتة. 30 في المئة من قوام أعضاء مؤتمر الحوار الوطني للمرأة (هي الكوتا المقررة). وهذا انتصار آخر لهن كواحدة من مخرجات الثورة الشبابية، بعد أن كان أعلى سقف لمطالبهن بالمشاركة السياسية يتمثل باقرار كوتا برلمانية نسبتها 15 في المئة.
اختراق جدار القرار الأسري
معلوم أن الأسرة اليمنية أبرز مكونات المجتمع ككتلة واحدة يمثلها كبيرها ويتخذ باسمها القرارات الكبيرة. لكن ثورة الشباب كسرت تلك السيطرة الأسرية على القرار واتخذ أفراد الأسرة الواحدة مواقف متباينة من الثورة. أبو ذر نجل عبده الجندي (الناطق باسم حكومة صالح الأخيرة والناطق باسم حزبه الآن، ونائب وزير الإعلام اليمني) تبرأ عبر وسائل الإعلام من موقف أبيه المناصر لصالح، مؤيدا ثورة الشباب ضمن التيار الإسلامي، فأصبح ذلك الموقف إحدى سمات وشواهد التغيير، لاسيما مع التناول الإعلامي الواسع له.
تكرر الامر على نطاق واسع مع أسر أخرى لا تعرفها وسائل الإعلام، ما شكل نقلة نوعية في آلية اتخاذ القرار الفردي خارج إطار الأسرة وحدث كذلك على مستوى القبيلة، وهي كيان تنظيمي أساسي في المجتمع تأتمر بأوامر شيخها، ولا تخرج عن طوعه إلا فيما ندر من الحالات.
تعايش التنوع الثقافي في الساحات
في سابقة تعايش حميم بين أطراف تعاملت لفترة طويلة كأضداد، أحزاباً وأفراداً، كانت مكبرات الصوت في ساحات الثورة الشبابية ترتفع بأصوات مقرئي القرآن الكريم، كما تصدح بأناشيد الفنان اليمني الاشهر أيوب طارش، وتتسع لخطباء الدين، ومنظري اليسار، ودعاة الدولة المدنية، والمبشرين بدولة الخلافة الإسلامية… من منبر واحد ولجمهور واحد، رغم محاولات تيار معين احتكار منصات الساحات وتوجيهها في نهاية الامر.
وفي الخيمة الواحدة، كان أحدهم يقيم الليل صلاة ودعاء (ويحرِّم الغناء)، وجاره الآخر يمضيه مع فيروز وأم كلثوم، ويتقبل كل منهما الآخر ويبحث عنه لتناول وجبات الغداء اليومية. فوحدة الهدف دعت الجميع إلى التعايش والترفع عن الوقوف عند نقاط الاختلاف كسنّة كونية لم يستطع كثيرون تقبلها قبل ذلك.
دعا إسلاميون للدولة المدنية وإشراك المرأة، كغيرهم من اليساريين والليبراليين، وأصبح القوميون أقل ضيقا بالخطاب التقليدي (الرجعي) الذي طالما حمَّلوه مسؤولية تخلف البلاد.
شبكات تعارف ثرية وجديدة
ليست هناك متاحات كثيرة لالتقاء اليمنيين ببعضهم غير مجالس القات، ومكاتب العمل، أو صدف المطاعم والمطارات أحيانا. إلا أن التقاء الجميع في الساحات لأشهر أوجد بيئة تعارف خصبة بين الشباب، فنشأت صداقات بعضها غيَّر مجرى حياة أطرافها، عملياً أو فكرياً.
وأما العلاقات الأكثر حميمية فكانت بعقود زواج شرعي، وزفاف ثوري ليس له سابقة من نوعه، كما حدث مع بعض الثائرين والثائرات. وأما كرنفال المواهب الاستثنائي بين فنانين من كل نوع، فلم يجد بيئة حاضنة له خارج ساحات الثورة. حتى خبرات المطبخ اليمني تم تبادلها بين رواد الساحة من النساء اللواتي تمتعن بفرصة الحركة الحرة دون من مضايقة ولا تحرّش في مجتمع لا يختَلط بالمرأة إلا في منزل الأسرة.
أكتاف بلا سلاح
السلاح رفيق اليمني القبلي، خاصة ذلك القادم من المناطق النائية كما هو معلوم. لكن هذه الرفقة الحميمة سقطت على مشارف الساحات. فقد تخلى القبلي عن سلاحه وأتى ليعتصم بجوار رفيق هدفه المدني، وهي خطوة لم تصل إليها جهود منع السلاح منذ سنوات، لكنها حدثت بشكل طوعي. كما أن الثابت تاريخيا أن القبائل المحيطة بصنعاء تدخل للقيام بالنهب والتدمير عند كل فرصة مواتية.
لكنها في الثورة الشبابية الأخيرة مارست دورا مختلفا بتقديم الوجبات الغذائية للشباب المعتصمين، ناهيك عن مشاركة أبنائها في الاعتصام بعيدا عن السلاح. والثأر كذلك، وهو ظاهرة شائعة، اختفى من العقول والبنادق طيلة فترة الثورة، ليلتقي الخصم بخصمه، وكل منهما يواصل طريقه من دون أدنى محاولة للاعتداء أو اقتناص فرصة الثأر السهلة.
الحاجة للبقاء على اتصال
مواقع التواصل الاجتماعي ضمنت إقبالا غير مسبوق من اليمنيين فترة الثورة، حتى تمددت إلى القرى البعيدة لأن أبناءها يريدون الحفاظ على صداقاتهم الجديدة، والفايسبوك وتويتر خير معين لهم على ذلك، كما أن هذه المواقع كانت وسيلة سهلة لنشر دعوات الساحات لأي فعالية قادمة.
محللون سياسيون، وإعلاميون وليدو الساحات، ونشطاء مغمورون تحولوا إلى نجوم، وحملات ومبادرات لاحقة كانت الساحات بذرتها الأولى، كـ«حملة المختفين قسريا» التي تبنى الفنان مراد سبيع وعدد من زملائه رسم وجوههم على جدران المدينة للتذكير بهم والمطالبة بالكشف عن مصيرهم. ومبادرة أخرى تتبنى مقاطعة القات (نبتة مكيفة يتعاطاها اليمنيون بشكل واسع)… هذه المبادرات الخلاقة لم تكن ربما لتخطر على بال أصحابها قبل قدومهم إلى الساحات، وإن خطرت فلم يكن باستطاعة أحد منهم تنفيذها، خاصة تلك المتعلقة بالمختفين قسريا.
محمد العماد شاب موهوب استمر يوثق للثورة (فوتوغرافيا) لأشهر بكاميرا مستعارة من صديق له، فهو لا يمتلك كاميرا ولا ثمنها. ارسال واحد على فايسبوك من قبل شخص ثالث كان كفيلا بتنظيم حملة شراء كاميرا بمواصفات فائقة للمصور العماد.
نادية عبد الله مصورة أخرى بنقاب إسلامي التقطت عدستها أروع الصور التعبيرية. والمرأة المصورة في اليمن بندرة الماء في الصحراء الكبرى.
هذه اللقطات البسيطة بما أحدثته ساحات الثورة الشبابية، ليست ثانوية، بل هي مؤشر على تغيير اجتماعي في طور التشكل، وجد تربته وراح ينمو.
يقظة وتسامح بلا حدود
«من أجل وطن آمن ومزدهر، تسوده المحبة والعدالة والتسامح والمساواة بين جميع أبنائه وبرغم ما بنا من ألم وأسى لفقدان ابننا العزيز، فإننا نسامح القاتل، أو ذلك القناص الذي أطلق الرصاصة القاتلة التي اخترقت قلب نزار الغض، والذي ندعو الله أن يغفر له ويعفو عنه. ولأنني أدرك انه يعاني الآن من اكتئاب ما بعد القتل، فأنني أدعو الله أن ينزل سكينته عليه وان يغمر قلبه بالأمن والطمأنينة والسلام، وان يهديه إلى إنفاق ما تبقى من عمره المديد بالعمل في ما ينفع الناس».
الفقرة الاستهلالية وردت في مؤتمر الحوار الوطني على لسان نعمان الحذيفي، ممثل المهمشين اليمنيين (المواطنون السود) في المؤتمر، وهم الذين لم يسبق لأحدهم المشاركة في أي نشاط أو منصب سياسي، لأنهم يعتبرون طبقة دنيا في السلم الاجتماعي اليمني، تشبه حالة طبقة المنبوذين في الهند (للمراجعة، مقالة السفير العربي: http://goo.gl/1bJ44). أما الفقرة الختامية فهي مقتبسة من مقالة صحافية للمحامي هائل سلام، نعى فيها نجله نزار (17عاما) الذي استشهد في أيار/ مايو 2011 أثناء مشاركته في مسيرة بشارع الزراعة بصنعاء. ولا يحتاج مضمونها الوطني / الإنساني العظيم للتوضيح في مجتمع يحصد الثأر المئات من أرواح أبنائه سنويا.
انها تحولات اجتماعية ظهرت في اليمن على امتداد العامين الماضيين، بفضل ثورة… إنه مناخها وقيمها. وربما تلامس هذه التحولات المواطن اليمني العادي أكثر مما لامسته نتائج الثورة السياسية… على الأقل حتى الآن. وهذا التغيير حقيقي، وإن كان هشاً تعريفاً، لأنه قابل للانتكاس، ويحتاج للصون. وهو، لو ترسخ، مكسب لا يقدر بثمن.