لا يزال المطر يقرر نفسية وشعور ومزاج منطقة وصاب الجبلية، الواقعة على بعد 200 كيلومتر جنوب صنعاء، تماما كما هو الحال منذ فتحت عيني على الحياة هناك في الجبال البعيدة، البعيدة عن كل شيء، عن العالم وتفاعلاته، وعن تحقيق حياة كريمة لأبنائه دون اللجوء للهجرة عنه. خلال زيارتي المرة الاخيرة، سمعت تلك الشكاوى نفسها والأنين من الحرمان التي تربيت اسمعها، ثم عشتها كالآخرين عند بدء قدرتي على تمييز ما حولي، من غياب أبسط مقومات التنمية، سواء الكهرباء أو المستشفيات أو أي شيء سواها يتعلق بمسؤوليات الدولة أمام المجتمع.
أنشودة الحياة
المطر هو كل شيء بالنسبة للمزارعين هنا الذين يشكلون الغالبية الساحقة من السكان (حوالي المليون نسمة). ذلك أن تساقط الأمطار الموسمية يمنحهم الأمل ويعدهم بالطعام لشهورهم القادمة. ينشغل الناس بمزارعهم ويتعاونون مع بعضهم في الزراعة ويبتسمون مهما أصابتهم الأمراض أو طال انتظارهم طريقا معبدا بالإسفلت، أو ماتت النساء وهن يحملن أواني الماء من الآبار البعيدة على رؤوسهن إلى البيوت.
حينما يهطل المطر ويزرعون، ينشدون الأغاني الشعبية وقت الحصاد بنشاط قلما ترى له مثيلا. إنه نشيد الحياة بالنسبة لهم أكثر من كونه فنا موسميا. يتأخر المطر فتنكسر نفوسهم وأرواحهم ويرسم البؤس نفسه بعناية فائقة على وجوههم. تنشأ المشاكل فيما بينهم، ويقلقون على قوتهم للعام القادم، وتنشأ الصراعات بينهم. اشتد القحط هذا العام، وشارفت الآبار على النضوب بعد أن قل سريان المياه بحدة لم يسبق لها مثيل.
اعتاد الناس أن يجتمعوا في قمم الجبال الشاهقة (حتى يسمعوا بعضهم بعضا من أماكن مختلفة فيتوافدون) يتضرعون إلى الله بشكل جماعي أن ينزل عليهم المطر وهم يجهشون بالبكاء والتوسل. وحينما يصعدون إلى الجبال، يحمل أغلبهم المظلات لأملهم الشديد بكرم السماء، وبأنهم لن يعودوا إلى بيوتهم إلا بعد هطول المطر. ومهما تكررت خيباتهم، واستخدموا في الاغلب مظلاتهم للحماية من أشعة الشمس اللاسعة، يحدث أحيانا أن يحتاجوا مظلاتهم لحماية رؤوسهم من التبلل بمياه السماء التي يعشقون وقع قبلاتها على هاماتهم.
هطول شيء آخر
في ليلة قحط، منتصف نيسان/ابريل الماضي، وبعد صعود بعضهم إلى الجبال المختلفة لمناشدة السماء بالمطر، هطل عليهم في تلك الليلة شيء آخر غير ما كانوا ينشدون. ضربت طائرات أميركية من دون طيار إحدى مناطق «وصاب»، وعرف لاحقا أنها استهدفت شخصا معروفا لدى أغلب أهل هذه المنطقة، وهو حميد الردمي، في ضربتين متتاليتين هزتا سماء الجبال التي تجاور نجومها منازل سكان ثاني جبال اليمن ارتفاعا عن سطح البحر (حتى 2400 متر)، وصعقت الآلاف منهم.
هرع بعضهم هلعين إلى الطوابق السفلى لبيوتهم (المخصصة للمواشي)، فتح البعض الآخر بيته وخرج هاربا لا يدري إلى أين ولا إلى ماذا أو لماذا، لكنه كان متيقنا أن الصوت الذي سمعه ليس برق المطر الذي كان يرجوه، خاصة حينما تكررت الضربة مرة أخرى بعد دقائق من ضربة الطائرة الأولى. من لم يسمع صوت الضربة في الجبال البعيدة، وصله الضوء الهائل للصواريخ وهي تهبط نحو مستقرها. ومع أن الوقت لم يكن قد تعدَّى الثامنة مساء ليلتها، إلا أن أغلبهم كانوا قد خلدوا إلى النوم كعادتهم. فوصاب منطقة لم تصلها الكهرباء بعد، والقليل من أهلها يستطيع شراء مولدات صغيرة ليشعلها لساعات قليلة خلال الليل. ولذا فان بعض من يمتلكون الهاتف المحمول يتركونه كل مساء في منازل جيرانهم المالكين للمولدات لشحن بطارياتهم.
يتعامل أغلب الناس مع عدم امتلاكهم للكهرباء بالنوم باكرا بمجرد غياب الشمس، والاستيقاظ فجرا بمجرد أن تبزغ أنوار الفجر الأولى، كسلوك أجدادهم في القرون الغابرة، من دون أي منغصات تعتري نومهم العميق. لكن تلك الليلة، كانت مختلفة، حينما أيقظهم الفزع من الزائر الغريب ذي الصوت القاتل.
الضربة
مؤخرا، بدأت الحكومة اليمنية شق طريق الاسفلت إلى وصاب بعد وعود متوالية لأكثر من ثلاثة عقود. ولذا، فحينما ضربت الطائرة ظن بعض القريبين من مكان الانفجار أن شركة مقاولات الطرق تفجر الجبال مساء لتشق الطريق، فخرج يصيح ويلعن ويشتم الشركات، قبل أن يحس بثلاث طائرات مختلفة تحوم فوق سماء المنطقة: واحدة نفذت الضربة الأولى من جهة معينة والأخرى كانت تراقب وثالثة قامت بتوجيه الضربة الأخيرة من جهة أخرى.
من موقع الضربة، يُرى مقر الحكومة المحلية وإدارة أمنها وسجنها (لا شيء سوى ذلك هناك، مما له علاقة بمصالح السكان). ويمكن الوصول إلى المقر مشيا على الأقدام في أقل من 20 دقيقة داخل الطرق الوعرة. يتحدث شهود عيان عن تفاصيل الضربة، وكيف أن رجال الأمن في المبنى غير البعيد عنها أصيبوا بالفزع. أحد أول الواصلين إلى المكان بعد الضربة يتحدث عن سماع أنين أحد الضحايا معرفا باسمه، ومناشدا القادمين إنقاذه وإسعافه إلى الوحدة الصحية التي يعزفون عادة عن زيارتها لرداءة خدماتها.
لكن لم يستطع أحد منهم الاقتراب لأن البقعة كلها كانت تشتعل وكانت الطائرات لا تزال تحوم فوق المكان كأنما تريد الاطمئنان على ذهاب ضحاياها إلى مصيرهم الذي رسمته قبل دقائق، أو لتؤكد أن الموت الذي تجلبه أكثر وقاحة من موت القتلة العاديين الذين يلوذون بالفرار بعد انتهائهم من فعلتهم.
في الحادثة ، قتل ثلاثة أشخاص كانوا برفقة الردمي، المستهدف من الضربة، جميعهم لم يعرفوا أنهم/هو هدف لموت قادم من الأعلى، وجميعهم لا علاقة لهم بارتباطاته بالقاعدة التي قالت الحكومة اليمنية لاحقا أنه كان أحد أعضائها. أحدهم شاب تخرج من الثانوية، يقول أقاربه أنه كان دائما يحلم بالانخراط في إحدى الكليات العسكرية.
آخر كان عاطلا عن العمل ويذهب مع الردمي بحثا عن دخل يؤمن له طعام يومه لا أكثر. أما الثالث، فقد كان يخطط للسفر إلى السعودية بحثا عن لقمة العيش له ولزوجته ولأولاده وابنه المنتظر في احشاء زوجته التي تحولت في لحظة إلى أرملة بدون عائل.
جدي وأنا…
مكان الضربة هو نفسه الطريق الذي أسلكه حينما أعود إلى قريتي في الجهة المقابلة من جبال وصاب كل عام، ويسلكه أقاربي وأصدقائي بشكل شبه يومي. في مكان مقارب، زرع جدي ذكرياته، وبذر إرثه قبل عشرات السنين. وبمجرد نطقي لاسمي كاملا في المكان يحتفي بي المسنون من سكانه، ويحدثونني لساعات عن ذلك الجد الذي ورثت منه حتى اسمي.
يتهامس البعض الاخر عن مغامراته كرجل كان مفتوناً بالنساء، قبل ان يسألوني بمودة عن «الدراسة في لبنان». اعتراني شعور غريب وأنا بجوار منزل الردمي الذي لم اسمع به إلا يوم حولته الطائرات الأميركية إلى جثة (كونه لم يعد إلى منزله في تلك الجبال إلا قبل بضع سنوات). فقد كان مهاجرا ثم سجينا في مركز المحافظة، لكن أغلب وصاب تعرفه، ويصل حديث الناس عنه كشخصية اجتماعية إلى جهاتها الأربع. شعور متناقض تلبسني وأنا أتحدث مع بعض أقارب الضحايا وجميعهم يسألونني عما إذا عرفت في أميركا (عند شهادتي أمام مجلس الشيوخ عن فعل الطائرات بلا طيار في اليمن) لماذا قتل الرجل والأبرياء الذين كانوا معه.
شعرت بثقل الأرض وسماواتها على كتفي، ووالد أحدهم يمسك كتفي بيده الممتلئة بالجروح ويسألني إن كانت ستُدفع لهم تعويضات مالية بعد خطابي في أميركا أمام الكونغرس، وعن «فائدة» ما قلته/أقوله حول العالم عن هؤلاء المدنيين الضحايا، بينما كان يقلب صورة من الشهادة الثانوية لابنه.
لم أكن معروفا في وصاب بشكل واسع بعيدا عن محيط قريتي، لكن شهادتي أمام مجلس الشيوخ في واشنطن (كانت قد جرت قبل حادثة قصف الردمي بأسبوعين تقريبا) جعلت مني حديث المجالس في اليمن عامة ووصاب خاصة، إلى درجة لم أكن أتوقعها، وأصبحت تشكل عبئا ثقيلا أعاني من وقعه عند كل لقاء بجديد من الناس هنا.
أخبرت والد الشاب/الضحية أن ما أقوم به هو فقط عمل حقوقي وتعريفي للمهتمين في الغرب عن أضرار الطائرات، وأنني لا ادري إلى أين ستصل جهودي، ولا ما يمكن أن تقوم به الحكومتان اليمنية والأميركية من أجل الضحايا المدنيين. فأصابه كلامي بالخيبة ولم يبدو أنه اقتنع به، ولم أملك شيئا آخر لقوله أمام هذا العجوز الذي تحمل عيناه أسئلة العالم وتدفعني للتبلد الأبدي الذي يليق بحجم خيبته وحزنه. عدت مساء إلى منزل والديّ في الجبل الاخر.
كانت والدتي قد جهزت لي حليبا طازجا من بقرتنا التي تشاركنا المنزل كأفخر ما يمكنها تقديمه لي، وبعض الأكل الذي ننتجه في مزرعتنا. وبدلا من الاحتفاء بهذه الوجبة الأثيرة والبسيطة كالعادة، ظللت طوال الليل أفكر في كل هذه الفوضى التي قام بها شخص /أشخاص من على بعد آلاف الكيلومترات، كما لو أنه/هم يلعب/ون «بلاي ستيشن»، ورأسي ممتلئ بأسئلة وأفكار بحجم الجبال التي تحيط بي.
شعرت بخطوات والدتي فجرا وهي تحمل حليب الإفطار لي أنا ضيفها القلق، بينما لم أزل أتقلب على الفراش لا أرى أفقا لأي شيء، ولا قدرة لاستيعاب كل ما حدث ونتج عن قصف أميركا لبلدتي، وشهادتي في مجلس الشيوخ وما صاحبها من ضجيج إعلامي في بلدي، دون أن يعيد الأبرياء من ضحايا قصف الطائرات. وحتى فيما يمثله استلقائي على أرضية غرفتي هذه ولم تمنحني اليوم الشعور بالمودة المنتظرة، التي كنت أشعر بها في كل عودة لي من صنعاء او أميركا أثناء دراستي هناك.
لم تكن أميركا حينها قد جنت على بلدتي التي أحب، بل منحتني فرصة للتعلم دخلت بها عالم القرن الواحد والعشرين. لكنني اليوم على الفراش ذاته مجرد قادم من كهوف القرن السابع الميلادي، غير أني لا أحمل سيفا، بل القليل من السلام أمنحه لهذه البلدة التي أعطتني شعور حب العالم، بطمأنينة المزارع الذي لا يكره إلا حجب السماء لقطرات المطر التي ينتظرها الآن لتصب وافر مودتها على مزرعته بالجوار، وترفع أحزانه عن عالم يعاني قحطا موازيا في ثقافة السلام والقدرة على التعايش بين مخلوقاته.