ذلك الفتى الذي ابتسم ذات صباح صنعاني وهو في طريقه إلى المدرسة سيغيب سنوات، ليظهر لاحقاً من قاعة الكونجرس بدون ابتسامته تلك.
ربما اقتضى الموقف قدراً من التجهم، حيث يدلي أصغر متحدث في تاريخ الكونجرس الامريكي بشهادته الشهيرة، حول الضربات الامريكية بدون طيار في بلده اليمن وحيث قرية مجاورة لمسقط رأسه مازالت تلملم أشلاءها من غارة امريكية هي الأولى من نوعها هناك .
حين كان هو طالباً كنت المدرس،قبل أن تأخذنا الصحافة إلى مضاربها وقد أردت أن أمارس نوعاً من الأستاذية بدعوته لزيارتي في اختبار أخلاقي لطالب سابق ،بات الآن شخصية عالمية وضمن قائمة المائة المؤثرين في العالم، وفقاً لمجلة السياسة الخارجية الأمريكية: “فورين بوليسي “.
ثاني شخصية يمنية تخترق القائمة وثاني أصغر شخص في القائمة بعد الباكستانية ملالا يوسف زاي. في هذه المرة لن يعاقب المسلمي الأب بقرته بربط فارع جوارها من الصباح إلى العشية ،فمازال الابن يتذكر ضاحكا كيف عاقب والده بقرة البيت به، بعد تفوق فتاة على نجله بنصف درجة ،وضعتها في مرتبة الأولى في المدرسة، وهو –أي فارع –في مرتبة “الثاني” من الأوائل .
بمجرد تلبيته الدعوة فشلت أنا في الاختبار ولأن فارع المسلمي، يمنحك قلبه دون تحفظات جرنا الحديث إلى حوار صحفي مباغت، وقد أفضى الشاب ذو الوجه الحليق و المزدهر بابتسامة أجمل من تلك العالقة في ذاكرتي، بكل ما أثارته تساؤلاتي العفوية من لواعج وشجون .
تنظيم القاعدة والطائرات بدون طيار والكونجرس وفورين بوليسي، صنعاء وبيروت وواشنطن وأمين معلوف والهويات القاتلة والسياسة والأحزاب و..و.. كان لابد من حضورها في طيات الحوا، لكن ثلاثية الطفولة والقرية والحلم كانت هي الأهم أو -على الأقل – ما أبحث أنا عنه .
وفي الحديث عن هذه الثلاثية سيجد فارع دفئاً ما قد يلوذ به من صقيع العالمية وتبعات الحضور الدولي في سن مبكرة. هو جاب عشرات الدول الاوربية وفي النادر مايحط رحاله في مسقط رأسه ليحزم أمتعته من جديد. إذاً، فحياة فارع هي تحليق في الجو وهبوط على أرضيات مختلفة ومؤقتة، ومن الفرصة أو الصدفة اقتناص الطائر اليمني في جلسة خاصة ليس فيها أية خصوصيات مكلفة .
عائلته مازالت في القرية وطفولته وأغلب أصدقائه. إنها الهوية الآمنة والوحيدة ،الخارجة عن أية تحيزات، التي يمكن لأي انسان أن يصل إلى أوج إنسانيته عبرها. يقول .
يتحدث فارع (23عاما)بلغة روائية عالية تكبره بأعوام، حين يتعلق الأمر بتفاصيل الحياة والعلاقات ومحطات العمر والذاكرة وهو محلل سياسي يهبط على القضية من علو ، كما يفعل فيلسوف يمر في العمق ويمنح الأشياء والأحداث والقضايا رؤيته المتفردة واستشرافاته بكل هدوء.أيضاً هو حاصل على البكالوريوس في السياسة العامة من الجامعة الامريكية في بيروت وتخرج منها العام 2013. عامه بامتياز .
ففي 2013برز فارع المسلمي عالمياً ،لقد كان خطابه المدوي أمام أعضاء الكونجرس الامريكي مؤدباً وذكياً وبه افتتحت أغلب الصحف العالمية وأشهرها عدد اليوم التالي للخطاب، ولربما لم يتوقف بعد الجدل الذي أثاره ابن قرية “محزر” في وصاب ،المعزولة عن العالم إلى ماقبل الخطاب بدقيقة .
لاتبعد كثيرا قرية “.المسلمي ” عن قرية “.الردمي “التي طالتها طائرة بدون طيار قبل خطاب فارع بأيام قلائل ،وكلاهما تتبعان مديرية وصاب العالي في محافظة ذمار ،وإذ حدث ذلك (الخطاب والضربة )في توقيت متقارب، كان لابد أن تنتظر القرية فتاها المدلل كبطل .
في الطفولة راودت “الطفل الوغد “الذي يعرف كيف يكون محبوباً نزعة أن يكون مختلفاً. مارس فارع هذه النزعة محاولات شعرية، ليكتشف بعد قليل كم أن هذه الفكرة سخيفة ويغتسل من الشعر إلى الأبد :”لو قرأتها لحكمت علي بالإعدام”. توقف نهائياً عن هذا الحلم. الشعر.ووجد في الصحافة متسعاً لتأكيد ذاته وممارسة حلم آخر عبر تقنية الكتابة ذاتها، لكن المتحررة من الوزن والقافية والخليل الفراهيدي .
إلا أنه ليس بوسع الناشط والكاتب الصحفي فارع المسلمي اخفاء الصبغة الأدبية التي تتشح بها كتاباته عن القرية والأب والذكريات، ففي صحيفة السفير اللبنانية وهي الصحيفة العربية التي ينشر فيها الكاتب المسلمي مقالاته بلغته الأم، سيمكنك بسهولة العثور على الأديب في بلاط صاحبة الجلالة .
عندما سألته عن أول حلم ساور مخيلة الطفل الوغد الذي كانه. الطفل المتمرد والمختلف. صمت مسافة أثارت قلقي، وربما قلقه هو. فقد كشف وبعفوية رحبة عن عدم تفكيره بسؤال كهذا مطلقاً :”أحاول أن أفهمه معك “.
وبالنسبة للطفل الذي طالما جلس على قمة جبل ،مفترشاً غيمة وامتد في أفق لانهائي من السندس الأخضر ما كان لحلم محدد أومحدود أن يبزغ في أفقهالمفتوح وبلا مصراعين. فالقرية التي تشبه الأم والدافئة بلا شروط والقرية التي يصف علاقته بها بالهوس خاصة كلما ابتعد عنها، لم يكن ليبدو منطقيا- في ظل دفئها –قولبة الأحلام إلى أشياء صغيرة وتقنينها .:”القرية لا تقنن الأحلام لكنّ كلانا –بالمعنى النفسي أكثر من أي شئ- يعوِّل على الآخر “.
يقول:كلما أمعنت في تفاصيلها لا أعثر سوى على روايات وقصص .على عالم بحد ذاته .عالم معزول عن العالم .وهنا تحضر القرية في سياق نهدة طويلة وهو يتحدث عن عملية اخفاء قسري للقرية ب”التكنلوجيا”حيث تتعرض القرية كفكرة لتمدين سطحي جارف لملامحها وبكارتها .
وفي مقال له عن القرية في “السفير اللبناني “حسم المسلمي موقفه نهائيا من المدينة وهو يعد ذلك المقال أهم انجاز ابداعي له في 2013.عام مفاجآته الشخصية .:”هوأهم من خطابي في الكونجرس وأي انجاز آخر” .يؤكد .
تبرز القرية كضحية وتقف في عريضة الاتهام الحداثة والتكنلوجيا والمدينة في جريمة استباحة ذلك الجمال المجاني الذي كان موجوداً في الريف .تلك الدهشة التي كنت تراها في عجوز ريفية ومُشقر.التكنلوجيا نقَّبت المرأة والحداثة أخفت قسرياً تلك الدهشة أما المدينة فقد قتلتها بحسب فارع.
مع ذلك مازالت قرية محزر في رأي سفيرها العالمي هي الأصل ونطفة التكوين الأولى بعد الولادة وأكبر مخزون في الذاكرة .هي الآن ممتلئة ومدهشة ودافئة حداً ما،كما يراها .
ويرى فارع أن وجوده خارج القرية وابتعاده عنها يشده إليها أكثر وذلك مايدفعه إلى تقديرها بهذه الدرجة .:”لكي تعرف كم تغيرت وكم مسافة قطعت عليك أ ن تعود إلى القرية” .وبرغم التكنولوجيا مازالت القرية غير جارحة ولامتصلبة .وأي من أبنائها هو فتاها المدلل..
وفي المناطق الوسطى ذات الطابع الزراعي وحيث مسقط رأسه ،ينظر فارع المسلمي إلى العلاقات هناك من زاوية المعرفة والتجربة فهي خاصة وجياشة وحيثما المطر يكون الدفءومن القرية تنبع الحكمة وكل شئ ،وهي لاتدعي ذلك .:” المدينة هي من يدعي زوراً أما القرية فلاتطلب منك إلا أن تكون إنسانا” .
يضيف : “علاقة الناس هناك بالطبيعة أكثر من علاقتهم بالدولة” ،نافياً أية امكانية تفوق للمدينة على القرية التي هي وحدها من يعيد لك انسانيتك .
لئن جاب فارع المسلمي عوالم كثيرة وازدحمت داخله هويات متعددة أو تناقضت ،فهو ابن القرية دائماً .القرية التي رفضت فكرة رغبته في الدراسة في الولايات المتحدة الامريكية واعتبرت ذلك شطحاً من الخيال بل الجنون واعتبر هو ذلك تحديا وبين الاعتبارين أطل هو على العالم ،وتحديدا قريته من قاعة الكونجرس في خطابه الشهير وحاولت القرية مواراة موقفها من تلك الرغبة بعدم اتخاذها أي موقف سلبي تجاه نزعة فتاها في أن يكون مختلفاً.
أشياء كثيرة يصطحبها فارع المسلمي معه ،حلاً وترحالاً..دفء الدراسة تحت الشجرة ،ألفة الحمار والجهيش والمهاجيل وبقرة البيت وربطة العقاب بالجوار، والسوق والمطر .لكن ليس بمقدور العالم تعويضه عن تلك الرهبة التي كانت تربك يده وهو يكتب شلالات من اللغة الانسانية والبوح المحترق في لوعة زوجة إلى زوجها المغترب .تلك الرهبة التي توقفت شلالات مشاعرها مع أول هاتف جوال غزا القرية .