لم يكن أحد قبل سنوات ليتوقّع إمكانيّة تحالف الحزب الاشتراكي اليمني مع حزب التجمّع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون) في تكتّل سياسي واحد، بعد خوض الطرفَين حرباً فكريّة لعقود وصراعاً مسلحاً لسنوات آخرها حرب 1994. لكن هذا ما هو قائم بالفعل، اليوم.
في العام 1994 شهدت اليمن حرباً أهليّة مدمّرة، كان الحزب الاشتراكي طرفها الأكثر تضرراً بخاصة بعد إعلانه الانفصال عن الشمال والعودة إلى الوضع التشطيري كما كانت الحال قبل أيار/مايو 1990. وهو ما أفقده عدداً كبيراً من أنصاره في الشمال، ليقف وحيداً في مواجهة مقاتلي حزب المؤتمر الشعبي العام شريكه الأساسي في إعادة الوحدة اليمنيّة (1990) إلى جانب مسلحي حزب الإصلاح الإسلامي حليف المؤتمر حينها بالإضافة إلى الجهاديّين العائدين من أفغانستان. وأتى اصطفاف كلّ هؤلاء ضدّه لاعتبارات عدّة. فالمؤتمر مثلاً كان يريد التخلّص من شريكه في الوحدة لينفرد بحكم اليمن بشماله وجنوبه، وذلك بعد القضاء على الوحدات العسكريّة لجيش جمهوريّة اليمن الديمقراطيّة التي كان يسيطر عليها الاشتراكي كحزب كحاكم وحيد للجنوب قبل أربع سنوات فقط من تاريخه. وبالتالي يسهل على المؤتمر وضع الحزب المجرّد من السلاح تحت رحمته، في حين أن الإصلاح كان يريد أن يحلّ حليفاً أساسياً للمؤتمر في السلطة ويقصي الفكر الاشتراكي الذي طالما خاض صراعاً فكرياً ودموياً معه لعقود. وذلك باعتباره فرعاً للفكر الشيوعي السوفياتي الملحد بحسب ما يرى. وهو الدافع نفسه الذي حرّك الجهاديّين من الأفغان العرب الذين كانوا قد عادوا لتوّهم من أرض المعركة مع الاتحاد السوفياتي على الأراضي الأفغانيّة وبدعم أميركي/خليجي مباشر.
وباعتبار أن الحزب الاشتراكي كان يرفع راية اليسار الأقوى في اليمن حينها وهو الحزب الوحيد الذي يمتلك جيشاً كاملاً بعدّته وعتاده والقادر على مجابهة القوى الأخرى عسكرياً بجدارة والذي يتمّ الاستناد إليه لإقامة توازن مع شركائه الجدد الذين تربطه بهم علاقة خصومة ودماء وشكّ -تحوّلت إلى علاقة شراكة ولو من باب “أحمل السلاح لأتمكّن من الوثوق بأصدقائي”-، فقد شكّل تدمير مقدّرات الحزب العسكريّة وإخراجه من السلطة بل ومصادرة مقرّاته وممتلكاته نكبة كبرى لم يتعافَ منها حتى اللحظة.
لقد استمر مركز اليسار اليمني في الجنوب قبل الوحدة. لكن تمدّده في الشمال كان كبيراً أيضاً. فنجد مجموعة من أبرز منظّريه الفكريّين والسياسيّين كعبد الفتاح إسماعيل الشمالي الذي حكم الجنوب وحاول السيطرة على الشمال بدعمه حروب الجبهة الوطنيّة ضدّ نظام صنعاء في خلال فترة حكمه، انطلاقاً من إيمان اليسار بأهميّة الوحدة اليمنيّة ما بين الشطرَين (الجنوبي والشمالي)، إلى جانب عدد كبير من القيادات وعشرات الآلاف من الأنصار من الشماليّين الذين تعرّضوا لعنف نظام صنعاء وملاحقته لهم ولجوئه إلى القتل والخطف والاعتقال على مدى سنوات قبل الوحدة وبعد حرب 1994.
حالياً وبعد قرابة 20 عاماً على حرب صيف 1994، استطاع اليساريّون (الاشتراكيّون وحلفاؤهم) وإلى حدّ كبير، تجاوز ذاكرة الحرب مع حلفائهم الحاليّين في حزب الإصلاح الإسلامي. لكنهم يفشلون في نسيان وتجاوز آثار فتاوى علماء الدين المنتمين إلى الإصلاح ضدّهم. فقد أباحت تلك الفتاوى دماء خصومهم السياسيّين/الفكريّين، وإن تراجع الإصلاحيّون مؤخراً عن هذه الفتاوى وأنكروها بعد أن انقلب عليهم حليفهم السابق الذي كان يعادي الاشتراكيّين (حزب المؤتمر) وأذاقهم من الإقصاء ما سبق وأذاقوه معاً للحزب الاشتراكي.
منذ عقد ونصف العقد تقريباً، رأى تحالف سياسي يمنيّ مكوّن من قوى سياسيّة عدّة النور، وقد أطلق عليه اسم “تكتّل أحزاب اللقاء المشترك”. يُعدّ حزب الإصلاح (الإخوان المسلمون) أكبر مكوّناته، ليأتي الحزب الاشتراكي في المرتبة الثانية. ويرى البعض في اليمن أن العامل المشترك الوحيد بين هذه القوى كان خصومتها للرئيس السابق علي عبدالله صالح وحزبه المؤتمر الشعبي العام، باعتباره تحالف الضرورة بين شركاء تبعدهم عن بعضهم البعض خلافات وتناقضات أكثر مما تجمعهم نقاط مشتركة. وقد بدأ ذلك يلوح للعيان بعد فترة الربيع اليمني،حينما أصبحت قواه بناءً عليه شريكة في السلطة بالتساوي مع المؤتمر. وتجدر الإشارة إلى أنه وبعد أن اتّحدت كوادر تلك القوى، خرجت ضدّه في العام 2011 وكانت المنافسة الجادة له في الانتخابات الرئاسيّة في العام 2006 من خلال مرشّح مستقل لا ينتمي إلى حزب منها. لكن نسبة الأصوات التي حصلت عليها، لم تتجاوز ربع أرقام قوائم الناخبين بحسب نتائج الانتخابات حينها.
صراعات اليسار الكارثيّة
مثّل نظام الحكم في جنوب اليمن حينها أوّل وآخر نظام حكم عربي ينتهج الاشتراكيّة العلميّة، وذلك كحليف وحيد للاتحاد السوفياتي في شبه الجزيرة العربيّة، بما شكّله ذلك من أهميّة وقوّة ومع ما خلّفه من عوامل الارتهان الاقتصادي للغير. وهو ما ساعد على دفع نظام الجنوب للاستعجال في إعلان الوحدة الاندماجيّة مع الشمال في العام 1990.
بعد نجاح الجبهة القوميّة (اليساريّة) في إخراج الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن والسيطرة على السلطة في العام 1967، نشأ صراع بين مكوّنات هذه الجبهة أدّى إلى انقلاب تيار عبد الفتاح إسماعيل “فتاح” وسالم ربيع علي “سالمين” على تيار قحطان الشعبي أوّل رئيس للجنوب اليمنيّ. فتولّى سالمين الحكم خلفاً للشعبي. وكان الشعبي قد قتل في العام 1970 أثناء محاولته الهرب وتمّت تصفية عدد كبير من أنصاره.
وتجدر الإِشارة إلى أن مصير سالمين كان الإعدام أيضاً بعد سنوات، على يد شركائه في إقصاء الشعبي وبقيادة عبد الفتاح إسماعيل. وذلك بعد إعلان القوى اليساريّة المكوّنة للجبهة القوميّة الاتحاد في حزب جديد هو الحزب الاشتراكي اليمنيّ في العام 1978.
لكن عدم قدرة الحزب على مواجهة الأعباء الاقتصاديّة للدولة والمجتمع دفعه أكثر من الحدّ الآمن إلى الاعتماد على السوفيات في دعم اقتصاده الوطني. وقد نقل الدبلوماسي الروسي عن فتاح قوله “بما أننا اخترنا طريق الاشتراكيّة العلميّة، فإن من واجب الاتحاد السوفياتي تقديم المساعدة لنا.
وأتى الإقصاء الثالث على التوالي لحكام الجنوب من اليساريّين من قبل بعضهم البعض ليطال فتاح، وذلك على يد رفيقه علي ناصر محمد. لكنه نجا من القتل –مؤقتاً– فأعلن استقالته وغادر البلاد إلى موسكو في العام 1981.
لم يطل الأمر بعلي ناصر محمد كثيراً. فقد نشبت أزمة حادة بين أجنحة الحزب في ما عُرِف بأحداث 13 كانون الثاني/يناير الدمويّة التي شهدتها عدن في العام 1986 والتي سقط فيها نحو 10 آلاف قتيل، ليغادر علي ناصر إلى صنعاء. فخلفه علي سالم البيض آخر أمين عام للحزب الاشتراكي يحكم الجنوب. وقد تحوّل إلى نائب لرئيس مجلس الرئاسة في دولة الوحدة اليمنيّة في خلال الفترة 1990-1994 ليغادر اليمن فراراً بدوره إلى سلطنة عمان بعد استيلاء القوات الموالية للرئيس صالح –حينها– على المكلا في تموز/يوليو 1994. فطويت صفحة اليسار ممثلاً بالحزب الاشتراكي اليمني كحاكم/شريك في الحكم، وقد تحوّل إلى حزب معارض ضعيف حافظ على بقائه بأعجوبة.
اللقاء المشترك ودور اليسار
بعد هزيمة رأس اليسار وتحالف صالح مع الإسلاميّين ضدّه، خاض الحزب الاشتراكي كفاحاً مدنياً أسطورياً للبقاء بعد تقلّص كلّ عوامل قوّته السابقة. وربما كان بحاجة إلى ذلك ليتخلّص من تاريخ الصراع المسلّح الذي ارتبط بمسيرته. وقد تحوّل في الوقت الراهن إلى أهمّ (وليس أقوى) حزب سياسي يمكن الرهان عليه لتحقيق حلم الدولة المدنيّة اليمنيّة التي ما زالت العوائق في وجهه أكبر من فرصه.
في بداية هذه الألفيّة، قاد الحزب الاشتراكي أكبر تجربة تحالف سياسي في تاريخ اليمن الحديث بتأسيس تكتّل اللقاء المشترك وغامر من أجل ذلك بالتحالف مع من تقاتل معهم في الأمس والذين ظلوا لفترة طويلة أساس أدبياته الفكريّة كقوى رجعيّة معادية. وعلى الرغم من أن حزب الإصلاح الإسلامي هو أكبر أحزاب التكتّل، إلا أن جارالله عمر القيادي الاشتراكي البارز كان مهندس الفكرة وقد دفع حياته ثمناً لها إذ تمّ اغتياله بعد عامَين تقريباً. وقد نجحت هذه الفكرة في تقريب الأهداف السياسيّة المرحليّة لأحزاب التكتّل، التي تحقّق أهمّها قبل عامَين مع إزاحة نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح من الحكم. ويرى البعض أنها رشّدت خطاب حزب الإصلاح الإسلامي تجاه حلفائه وقلّلت من تطوّر صراع هامشي لم يكن ليصبّ إلا في صالح النظام .
يسار اليوم المستقبل.. ربما
أثناء حكم اليسار لجنوب اليمن، قاد حملة تحديث وتمدين كبيرة. فنشر التعليم وأرسى تكافؤ فرصه ما بين الجنسَين وفرض سيادة القانون ورسّخ الأمن ووفّر لليمن أبهى ثلاث سنوات من الديمقراطيّة بعد الوحدة. ولولا انجرار أمينه العام (وله دوافع يمكن فهمها أيضاً) حينها وراء الرغبة الخليجيّة في تأديب صنعاء وتفتيت اليمن بإعلانه الانفصال، لكان وضع اليمن اليوم مختلفاً للغاية.
اليوم وبعد أن أسّس إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني في حرب 1994 لأهمّ أزمة تشهدها البلاد حالياً (القضيّة الجنوبيّة)، يقود الحزب الاشتراكي العائد من بين الأنقاض القوى العقلانيّة والمعتدلة وأنصار المدنيّة في عمليّة الانتقال السياسي التي تشهدها اليمن ويحظى أمينه العام ياسين سعيد نعمان أكثر من أي سياسي آخر باحترام الشارع. وعلى الرغم من محاولة قوى أخرى الاستفادة من تذمّر بعض قيادات الحزب عند تحالفه مع الإصلاح واستقطاب هذه القيادات ضدّ اتجاه تيار الحزب كما تصنع إيران من خلال استقطاب ناشطين وصحافيّين من كوادر اليسار، إلا أن اليسار اليمني بدا أكثر تعافياً وحيويّة في مؤتمره “اليسار والعدالة الاجتماعيّة” الذي عقده في أيلول/سبتمبر الماضي في العاصمة صنعاء. فهل بإمكان اليسار اليمني أن يصعد مجدداً؟ ليس واضحاً بعد، بخاصة أن “اللاوضوح” هو معلم اليمن الأبرز مؤخراً.