برزت سلطنة عمان خلال الفترة الأخيرة كوسيط نشط في حل النزاعات والأزمات العاصفة التي تمر بها المنطقة، وخاصة في الملف النووي الإيراني الذي كانت مسقط في بادئ الأمر أول مكان لالتقاء المسؤولين الإيرانيين مع نظرائهم الأميركيين. ثم عادت عُمان إلى الواجهة مؤخرا كوسيط بين اليمن وإيران في ما يتعلق بملف جماعة الحوثيين، قبل أن تتحول إلى وسيط بين الأطراف اليمنية المتصارعة حاليا ومن ورائها الدول ذات العلاقة بها، كأميركا وإيران. كما جرت وتجري حاليا مشاورات في مسقط بين ممثلين عن جماعة الحوثيين وحزب الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح (المؤتمر الشعبي العام)، وبحضور ميسّرين ورعاة كالمبعوث الأممي إلى اليمن إسماعيل ولد الشيخ. وبدأت عُمان لأول مرة في وضع يدها في الملف السوري عبر استضافتها وفداً من المعارضة السورية. فما هي العوامل التي أهّلت عُمان؟
تسلسل الحياد في السياسة الخارجية
طبقت عُمان في سياستها الخارجية مسلكا تميز بعدم الانحياز إلي أي طرف في الصراعات الإقليمية التي تُسبب عادة انقساما. رسمت هذه السياسة الخارجية بتفرد حذر منذ العام 1970، بعد تولي السلطان قابوس السلطة. وبعد تأسيس مجلس التعاون الخليجي في 1981، الذي تُعد عُمان ثاني أكبر دولة فيه من حيث المساحة بعد السعودية، تمسكت مسقط بموقفها المحايد من الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) بالضد من باقي الدول الخمس التي وقفت حينها إلى جانب بغداد، وحافظت على علاقاتها المتميزة بطهران، من دون إخلال بعلاقاتها مع دول المجلس في الوقت نفسه. وكانت عُمان الدولة العربية الوحيدة التي لم تقاطع مصر السادات بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، من دون أن يؤثر ذلك على علاقاتها مع الدول العربية الأخرى. علاوة على ذلك، لم تشتبك الرياض مع مسقط حتى عندما رفضت الأخيرة في آذار / مارس الماضي، وفي موقف انفردت به عن كل دول الخليج، المشاركة في الحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن. وفي العام 2011، حينما وصلت تظاهرات الربيع العربي إلى عُمان، ضخت دول مجلس التعاون الخليجي 10 مليارات دولار معظمها لعُمان للمساعدة على تهدئة الحراك بتلبية بعض المطالب التي تركزت هنا على الشق الاجتماعي. وهكذا، على الرغم من الاختلافات، يبدو أن لجيران عُمان جميعا مصلحة عميقة في دعم السلطة القائمة هناك.
يمنيا، أهّل هذا الحياد عُمان للعب دور الممسك بشعرة معاوية مع سلطة الحوثيين في صنعاء، وخاصة مؤخرا حينما أدت مسقط أدوارا إنسانية مختلفة، وظلت السلطنة عبر أراضيها وطائراتها همزة وصل الوفود الحوثية من صنعاء إلى الخارج. وعلى الرغم من قيام طيران “التحالف” بقيادة السعودية باعتراض طائرة إيرانية (قالت إيران إنّها محملة بالمساعدات)، كانت قد أقلعت من عُمان في محاولة لكسر الحظر الجوي على اليمن، إلا أن ذلك لم يؤثّر كثيرا على علاقات عُمان بالسعودية (على الأقل ليس في العلن). وتزداد أهمية عُمان بالنسبة إلى السعودية مع إدراك الرياض المتدرج، ومعها باقي دول الخليج، للورطة التي وقعت فيها باليمن، وحاجتها لأطراف محايدة لكن في الوقت نفسه قريبة منها، للخروج من تلك الحرب.
وفي تسلسل لهذا الدور الذي تقوم به عُمان بخصوص اليمن تحديدا، استضافت مسقط مشاورات مغلقة بين الأميركيين والحوثيين قبل أشهر، في أول لقاء مباشر ورسمي بين الطرفين شارك فيه وكيل وزارة الخارجية الأميركية وسفير واشنطن إلى صنعاء. غرباً، هندست عُمان علاقتها هندسة مختلفة عما فعله محيطها الإقليمي والخليجي. فعلاقتها مع بريطانيا أوثق وأعمق من علاقتها مع الولايات المتحدة، بحكم الصلات القديمة معها وتبني الإنكليز للسلطنة وتأهيل كوادرها منذ اللحظات الأولى لإعلانها دولة مستقلة. كما أن التنسيق بين الدولتين ظهر بصوت أعلى بعد مساعدة لندن لعُمان على مواجهة ثورة ظفار التي دعمتها عدن في السبعينيات، (والتي تعاملت عُمان معها بيد من حديد واستعانت حتى بقوات الشاه لمواجهتها).
وبحكم تاريخها الاستعماري المديد وخصائص تكوينية أخرى، تمتلك بريطانيا عيناً تاريخية أعمق و “أذكى”، وأصابع تدخل أدق تجاه المنطقة من تلك الأميركية إجمالا. وقد استفادت عُمان كثيرا من علاقتها مع لندن البعيدة عن الصخب ولكن المحورية والكثيفة في الوقت نفسه.
إقليميا، ربما تكون عُمان الدولة النفطية الوحيدة التي لم تسعَ إلى خلق تحالفات خاصة مع أي طرف غير رسمي في أي دولة، سواء كانت تتدخل في مشاكلها أم لا. فبينما تستضيف عواصم عدة كالدوحة وأنقرة مثلا ناشطين إعلاميين وسياسيين من اليمن وسوريا وغيرهما، فإن الزيارات الى مسقط تقتصر على الشخصيات الرسمية. وفي صنعاء مثلا، لم يُعرف عن سفير مسقط إقامة علاقات خاصة مع أطراف سياسية على حساب أخرى، كما فعل سفراء الرياض أو الدوحة أو أبو ظبي، وكذلك واشنطن والدول الكبرى. وعلى الرغم من خلاف عُمان في السبعينيات مع اليمن الجنوبية، التي دعمت جبهة ظفار، إلا أنها حلت تلك الأزمة بهدوء وصمتت عنها لاحقا. كما أن ترسيم حدودها مع اليمن مر بسلاسة لافتة، مقارنة بملف الحدود اليمنية السعودية.
وحين استضافت عُمان قادة سياسيين مختلفين في السابق، ألزمتهم جميعا بالصمت مقابل الضيافة. فهي استقبلت علي سالم البيض بعد خسارته للحرب الأهلية في العام 1994.. الذي لم يدلِ بأي تصريح صحافي ولم يقم بأي نشاط سياسي يُذكر حتى مغادرته لها مطلع الألفية الثالثة. ولعل المفارقة الأبرز أن الرئيس اليمني الحالي عبد ربه منصور هادي كان، بعد استقالته في 21 كانون الثاني/ يناير 2015، قد طلب وساطة الأمم المتحدة ليغادر هو وعائلته إلى عُمان في منفى اختياري. ورفض الحوثيون ذلك، قبل أن تتطور الأمور لاحقا، وتمكنه من النفاذ إلى عدن. وكان قد قرر البقاء في عُمان بعد مغادرته لعدن، ولكن الرياض استدعته إليها قبل انطلاق “عاصفة الحزم” بساعات.
يبقى أن عُمان لا يمكنها الاتكال فحسب على منهج “الحيادية” و “الهدوء” في السياسة الخارجية للمحافظة على وجود فاعل، بل يثار هنا سؤال نتائج كونها دولة لا تزال تحظر التعددية الحزبية والسياسية.
المضي قدماً
مارست قطر في مطلع القرن الجديد أدوارا مشابهة لدور عُمان، فكانت وسيطا بين الجماعات الفلسطينية، ولعبت دورا رئيسيا في احتواء الحرب التي نشبت بين حكومة صنعاء وجماعة الحوثيين في 2004 ـ 2009، نتج منه ما يُعرف باتفاقية الدوحة (2008)، ومن ثَمّ اتفاق الدوحة اللبناني بعد أحداث أيار/مايو 2007، وقبله المفاوضات السودانية… لكنها فقدت تماما دور الوسيط الإقليمي بعد ذلك، لأسباب عدة أهمها تحولها إلى طرف ناشط في صراعات الإقليم، وانحيازاتها، ودعمها لأطراف سياسية والانغماس مع جماعات محلية، وخاصة مسلحة.
وربما تتمكن عُمان على المدى الطويل من استثمار دورها الإقليمي ذاك في محاولة تقريب وجهات النظر بين السعودية وإيران، ما سينعكس مباشرة على العديد من النزاعات في الإقليم. ويمثل استدعاء مسقط لممثلين عن المعارضة السورية مؤخرا مؤشرا مهما على رغبتها في لعب دور إقليمي متزايد، على قاعدة الوساطة لا التحالف والتورط في الصراع. ومع ما يمثله ذلك من مؤشر إيجابي في منطقة متفجرة وملتهبة، إلا أن على عُمان، فيما هي تنحت دورها “الدافنشي” ذاك، تجنب الوقوع في الفخ الذي وقعت فيه دول أخرى والمتمثل بملء يديها بقضايا وملفات أكثر من عدد أصابعها. إذ قد يؤدي حمل أعباء ديبلوماسية ثقيلة، بأدوات وأجهزة إدارية محدودة وغير متكاملة، إلى ردة فعل عكسية وارتباك وتشتت لا تستطيع المنطقة (وليس فقط عُمان) تحمل ثمنه.