رحم الله الدكتور عبدالكريم الارياني الذي غادرنا بالامس إلى خلود أعظم بجوار ربه عن عمر تجاوز الثمانين عاما ، منها قرابة خمسة عقود استثنائية من العمل لأشهر سياسي عرفه اليمن الحديث والعالم من اليمن ، وأبرز رجل دولة يمني ملأ مناصبه المتعددة منذ منتصف ستينيات القرن الماضي.
اخر مرة رايته ، كنت أحاول قبلها التواصل معه لدعوته إلى مؤتمر كارنيغي ، وكانت سبقتني إليه الزميلة والصديقة سماء الهمداني فاستجاب لدعوتنا كشباب على الفور. إذ كان الارياني السياسي اليمني الوحيد الذي يجعلك كشاب تشعر ب “الحضوة” و “الايثار” لا “الاستخطار” ، وهو سلوك يملكه فقط اصحاب الاسس المتين والافق الانساني الممتد الذين يرون في وجود غيرهم فرصة وتنوع وقوة لا خطر.
بامكان اي أحد ان يقول عن عبدالكريم الارياني ما شاء ، الا ان لا احد يمكنه ان ينكر خياره الاوحد على الدوام في تقوية جناح الدولة وليس اي جناح اخر. وفي 2011 ، كان الوحيد من الذين عملو مع صالح ، الذي امن فعلا بيمن ما بعد علي عبدالله صالح وبدء العمل من اجله ، بتقديره هو الذي يختلف او يتفق معه المرء حوله. على عكس جميع باقي رموز الدولة الذين ظلو اما يعملو مع صالح ( بارت تايم) او لاستبداله بأنفسهم.
كأي حاجة عظمى ، بأمكان المرء ان يحشد موسوعة من المااخذ أو المدائح تجاه الارياني ، وذلك أمر طبيعي تجاه رجل ظل حتما بوابة العالم إلى اليمن وبوابة اليمن السياسية إلى العالم في لحظات أوشكت فيه اليمن على الاختفاء من الخارطة.
حاولت كل القوى والاطراف الداخلية والخارجية وفي فترات مختلفة تدميره لحساباتها المباشرة الذي مثل وجوده تهديدا لها ، لصالح اليمن الاكبر ولصالح الدولة اليمنية.
على الأرجح مثل الدكتور الإرياني أكبر موسوعة يمنية عالمية حول اليمن تمشي على قدمين في داخل اليمن وخارجه. ومع ذلك لم تفقده علاقاته الدولية الواسعة علاقاته بالواقع الماثل تحت قدميه, إذ بنفس القدر الذي ظل جناحاه يحلقان حول العالم ، كانت أقدامه على الأرض ، والأرض اليمنية تحديدا وطوال الوقت.
بعد عودتي من رحلة علاجية في بيروت (ديسمبر 2014) ٫ ذهبت والدبلوماسية جميلة رجاء لزيارته وشكره على اهتمامه وقلقه . وأتذكر أن ساعة من الحديث معه ذهب أغلبها في استرساله عن نقش حميري عمره آلاف السنين ترجمه شقيقه مطهر. كان الدكتور يريد إعادة نشر ترجمة هذا النقش المهم كرد على أولئك الطارئين الذين يقولون بأن لا وجود ليمن واحد في التاريخ.
كان نموذج الشخص الذي تصل إليه بمشكلة وتوتر ، فيستمع إليك بكل هدوء قبل أن يسأل: تعرف الاغنية الفلانية؟ او القصة تلك؟ بينما يشعر كل زواره بانهم اهم زوار لديه ، ولا يكل ذهنه ولا قلبه.
بعد عودتي من أمريكا بعد أحداث (الدرونز) ، زرته برفقة الدكتور إسماعيل الجند فقال ضاحكا، هل تعرف قصة العثمانيين ووصاب وبيت إسحاق؟
فأجبت – كالعادة- بالنفي ، فاسترسل قائلا:
“حينما جاء العثمانيون لاحتلال اليمن في المرة الثانية ، وصلوا جبل عصر على حدود صنعاء فأرسل إسحاق ( والي صنعاء) ابنه للتفاوض معهم، وحينما عاد سأله الاب عن الاتفاق ، فرد:
اتفقنا أن يدخلوا صنعاْ بسلام ويبقوا لنا على “حي على خير العمل ” في الاذان. فأجابه الأب:
“قل للعثمانيين يقولوا لأصحاب وصاب يسلموا حق بيت اسحاق ، ويأخذوا حتى “حي على الصلاة”.
لنقهقه سويا بينما هو يرى بعدسته المكبرة الخريطة ويتحدث في كل شيء : التاريخ والجغرافيا والقضاء والاقتصاد ، ليس بشكل عابر ، لكن بعمق المتخصص ونفس الخبير في كل مرة وكل مجال.
إن كنت من الجيل الجديد الذي للتو عرف الإرياني ، فقد لزم عليك في السنوات الأخيرة أن تذكره باسمك حينما تسلم عليه كونه بدأ بفقدان بصره ولم تعد عيناه المزدحمتان جدا قادرتان إلا على التعرف على الوجوه والأشكال اللتان اعتادتا عليها لعقود. ومع ذلك ، لم يمنعه ذلك عن متابعة كل شيء بتفاصيله ، وبعدسته المكبرة الداخلية والخارجية .
قاد عملية التنمية بداية تكون الدولة اليمنية التي لم تكتمل ملامحها بعد ثم قاد عملية التعليم كوزير للتربية ورئيس للجامعة الوحيدة في شمال اليمن منتصف السبعينيات ,وترأس الحكومة الوحيدة التي تركت بصمات رؤيتها للمستقبل اليمني مطلع الثمانيانات ، حين أجرى تعديلات في السياسات الزراعية وعمليات الاستيراد ، نتج عنها الاكتفاء الذاتي من الخضروات و أغلب الفواكه مع فائض للتصدير في أول سياسة إصلاحية ذات أثر مباشر.
لم يغادر المشهد اليمني كصانع قرار يقف في الظل حتى عند عدم ممارسة أية مهام رسمية ، بحكم قدراته وخبرته ومناصبه أيضا في فترات مختلفة. كانت الرياض ترى فيه خصم غير عادي لعقود وكذلك حلفائها في الداخل ، وأيصا المعسكر المناهض لها وحلفائهم في الداخل.
ومع ذلك ، عادو اليه جميعا – سرا وجهرا- مؤخرا كعنصر توازن وحيد يمكن له تقريب وجهات نظر الخصوم والاصدقاء. ورغم أنه لم يمل إلى صف أي منهم كطرف ، لكنه اقترب وابتعد بالقدر الذي يبقيه قادرا على التعامل مع الجميع كشوكة ميزان لا غنى عنها ، كأي رجل كبير يتصرف بمعطيات الكبار.
رحم الله الارياني ، سيمتلك الكثيرين الشجاعة والرجولة للحديث عنه كما يحلو لهم بعد وفاته ، لكنه كان السياسي اليمني الوحيد الذي لم يناد يوما للحرب ولم يمجدها وكان يعمل ضدها سرا وعلنا بنفس القدر ، داخل اليمن وخارجه.
ذلك أنه كان صانع قرار ومنظر لفكرة ومرتكز توازن وصاحب حكمة وبصيرة. مارس السياسة ك “فن” وعلم ، وليس رغبة ونزوة كاخرين. ومن الواضح انه الهمه عمه القاضي عبدالرحمن الارياني كثيرا من مبادئها ، قبل أن يخوض غمارها مجربا ، حين كتب عمه للشيخ الاحمر وتحالفه الذي أقصى القاضي من الحكم ( 1974) بأن السياسة ( … ومرونة ، ومرونة ، ومرونة).
غادر الارياني الحياة ، وهو يمتلك من الخبرة والاخلاق والنشاط مالا يمتلكه جميع من مارس السياسية في اليمن.
مات بعد أن أوصى بدفنه في صنعاء التي لن يصل اليها على قدميه هذه المرة ، والتي ستحمله للمرة الاولى بعد ان حملها طويلا.
الرحمه لجسده ، وخالص العزاء لاسرته الكريمة وابنائه حازم واخوانه وكافة أشقائه واسرته الاوسع في عموم اليمن والعالم.
الصورة للدكتور الارياني وشقيقه مطهر في مسقط رأسهم “إريان” ، محافظة إب