قد تكون الذكرى الثالثة والخمسين لثورة 26 سبتمبر 1962 اليمنية التي مرت قبل حوالي الشهرين هي الأقل ألقاً واحتفاء رسميا بها، لكنها أيضا الأكثر حميمية في نفوس عامة اليمنيين، وإن كان فساد الأنظمة المتعاقبة منذ قيام الثورة قد أدى إلى خفوت حضورها المعنوي في نفوسهم، ثم عادوا للشعور بالخيبة والخذلان من كل الأحداث التي مرت بالبلاد وأغرقتها في المستنقع الراهن.
بعد أيام من مرور ذكرى سبتمبر كتب محفوظ البعيثي، نائب مدير شئون المحافظات بصحيفة الثورة اليومية الحكومية، أن مندوب جماعة الحوثيين تدخل في صياغة المواد التي جمعتها الصحيفة للعدد الاحتفائي بالثورة، وقام تحديداً بحذف توصيف الحكم الإمامي الذي قامت ضده بالكهنوتي والظالم، وحذف كذلك الحديث عن التخلف وانتشار الجهل والمرض في ذلك العهد. ذلك أن جماعة الحوثيين، التي أحيت الذكرى الأولى لاستيلائها على صنعاء (21 أيلول/سبتمبر 2014) تشعر بقرابة مناطقية ومذهبية مع الاماميين، وهم يتجنبون إجمالا أي إشادة بتلك الثورة والبعض منهم صرح باعتبارها انقلابا.
لم يكن يوم الخميس 26 سبتمبر1962 عاديا في حياة اليمنيين، بل كان نافذة عبور زمني نقلتهم مباشرة من حياة القرون الوسطى إلى عتبات العصر الحديث، وبدأ بعدها فقط تأسيس نظام تعليمي وجهاز إداري للدولة مهما كانت أخطاؤها وبدائيتها، لأنها انطلقت عملياً من الصفر، ومن يعرف أوضاع اليمنيين قبلها سيدرك أنها كانت تحقيقا لحاجة اجتماعية وسياسية، وكانت أول تحرك اجتماعي في شبه الجزيرة العربية ضد احتكار الحكم، والتخلص من الكهنوت الحاكم باسم الله بأسوأ الأساليب وأكثرها بدائية وبعدا عن العصر. ولهذا وجدت نفسها منذ اليوم الأول في مواجهة قوى المحيط الإقليمي والمحيط القبلي لصنعاء أيضا، في ظل قطبية الصراع الإقليمي بين الرياض والقاهرة، ورفض الرياض أي تغيير في هرم السلطة على حدودها الجنوبية، ليس حبا في الأئمة ولا دفاعا عنهم وإنما خوفا من انتشار عدوى الجمهورية شمالا. ورغم الأخطاء التي ارتكبت باسمها وكيفية الغدر بها إلا أنها تظل ثورة مهمة في تاريخ اليمنيين الحديث.
لم تتخل السعودية عن الدعم الشامل لبقايا الملكيين إلا بعد اطمئنانها لتسليم زمام هذا التغيير الجوهري إلى يد القوى غير الثورية، والشخصيات الموالية لها والمتظللة بمظلة الجمهورية الوليدة دون الإيمان بمبادئها، وبعد التخلص من الثوار السبتمبريين بأكثر من طريقة وبأكثر من وسيلة حتى العام 1970، حينما بدأ ما عرف بالمصالحة الوطنية التي فرضت إعادة بعض رموز دولة الإمامة للمشاركة في حكم دولة الجمهورية الجديدة في شبه الجزيرة. وتسلمت حينها الرياض ملف اليمن لتتحول إلى المتحكم الفعلي حتى بمصير الحاكمين لصنعاء، فاتخذ مسار ثورة سبتمبر إلى طريقا جديدا حقق انتصار الرياض وحلفاءها على أرض الواقع، بينما وفي الظاهر حوفظ على انتصار نظريا الثورة التي نشدها الناس أمام الرأي العام بعد إفراغها من مبادئها الجوهرية وبذر بذرة صراع غير محدود بين أجنحتها الثورة أغرق اليمن في حروب متوالية وأزمات مستمرة حتى اللحظة، وتخلص عمليا من أي حضور لسلطة الدولة وسيادة القانون كما حدث منذ اغتيال الرئيس ابراهيم الحمدي.
نصت أهداف ثورة سبتمبر على إيجاد مجتمع ديمقراطي عادل. لكنّ كل الرؤساء الذين صعدوا إلى السلطة باسمها جرّموا الحزبية والتعددية السياسية، التي اعتبرها القاضي الإرياني (1967-1974) تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة، أي أنّ الأحزاب مجرد امتداد لقوى خارجية وليست كيانات محلية، وأنها مصدر خطر فكري وثقافي على البلد. وتحت هذه الذريعة تم التخلص من- أو إقصاء- كل من خالف هذه القاعدة. وأودعت القاهرة قد وفدا يمنيا رفيعا في سجونها عام 1966 لأنهم عارضوا رغبة إبقاء الرئيس السلال في السلطة، ولم تفرج عنهم إلا بعد هزيمة 1967، أي أن اليمنيين كانوا مجبرين على إرضاء الرياض أو القاهرة قبل أن تتحكم الرياض بكل خيوط اللعبة لاحقا
قبل وصول الرئيس السابق (علي عبد الله صالح) إلى السلطة في تموز/ يوليو 1978، وحكم الجمهورية العربية اليمنية (الشطر الشمالي من اليمن حينها) 4 رؤساء، تمت إزاحة اثنين منهم فيما يمكن وصفه بالانقلاب الأبيض واغتيال الاثنين الآخرين. ولم يكن أي من الانقلابين والاغتيالين حدثين وطنيين بل كانت جميعها ذات ارتباطات إقليمية مباشرة. وبعد 33 عاما من حكم صالح، وقبل أسبوع واحد من انتخاب خليفته الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي، ظهر للعلن ما سمي ب”الوثيقة الفكرية للزيدية”، وتبناها في وقتها عبد الملك الحوثي، وهي أعادت حصر الحكم في “البطْنَين” (أبناء الحسن والحسين) في دلالة رمزية على الرغبة بتخطي مبادئ وأهداف ثورة سبتمبر 1962 التي كسرت أدبيات التمييز الطائفي، واحتكار حق الوصول إلى السلطة في فئة محدودة من المجتمع.
بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء (أيلول/ سبتمبر2014) تحولت مواقف الشارع والنخب اليمنية تجاه ثورة “سبتمبر 1962” من تفاوت درجة الثورية إلى إعادة تحديد موقف من الثورة ذاتها. وظهرت أصوات تتساءل فيما إذا كان ما حدث ثورة بالأصل. ورغم عدم نجاحها في تحقيق أهدافها عمليا إلّا أنها وضعت القدم الأولى على الطريق الصحيح ورسمت معالم ذلك الطريق ولو تمت إزاحتها عن سلوكها كما رسم لها قادتها وهم مجموعة من الضباط الشباب الذين بحثوا عن التغيير دون السعي لكونهم البديل في حادثة لم تتكرر في التاريخ اليمني بعدها وهو ما استغلته القوى التقليدية للتخلص منهم وقتل أكثرهم في جبهات القتال ضد الملكيين، بينما تربع أولئك على سدة القرار سواء من داخل الأطر الرسمية أو من خارجها.
كسرت ثورة سبتمبر قيودا متعددة الحلقات كبلت اليمن جسدا وروحا لقرون، كما أنها بعثت الروح الجديدة في أطراف ذلك الجسد وكان القادمون من مناطق الجنوب اليمني (المحتل من بريطانيا حينها) للقتال دفاعا عن صنعاء هم ذاتهم من فجروا ثورة أكتوبر 1963 ضد الاستعمار الانجليزي للجنوب، وأصبحت صنعاء وتعز حواضن الكفاح لتحرير عدن وأخواتها الخمس جنوبا.
حدث كل ذلك عميقا في مخيلة اليمنيين الذين عرفوا اليمن لقرون عبر الضرائب القسرية في ظل حكم الأئمة دون أيّ حضور حتى للحديث المهم “لا فضل لعربي ولا أعجمي”، ولا حتى بشكل خجول في الأدبيات الحالمة للسلطات الثيولوجية. وقد أدى ذلك العمى العاطفي إلى تسلّق قوى رمادية ليست جمهورية وليست ملكية استطاعت التخلص من الطرفين، جمهوريين وملكيين، لتصعد إلى السلطة دون استحقاق.
حاول اليمنيون الخطو خطوة جديدة في 2011 وتحويل سبتمبر إلى ما كانوا يأملون في 1962، لكنّ الحروب التي نتجت لاحقا أعادت تعريفاتهم وانتماءاتهم بناء على هويات أكثر قدما وبدائية، وبالرغم من الاعتداء المتكرر والمتنوع عليها. وبالرغم من ذلك ظلت ثورة سبتمبر 1962 بوصلة اليمنيين الأهم والأسمى، كما ظلّت معياراّ نادرا لقياس يمنيّتهم وتعسكرهم مع المستقبل أو ضده.
لم يستقر اليمن الجمهوري الديمقراطي حتى اللحظة، ولم تتحقق من أهداف ثورته الأمّ سوى أنها وضعت أقدامهم على الطريق وفتحت أعينهم على الغاية، وكرست العدالة والمساواة والحرية كمفردات في خطابهم اليومي، وغاية لغد لم تتضح ملامحه بعد. وحتى ذلك الحين، ستظل سبتمبر كالنهر، يمشي بتعرج وضلال وغياب بصيرة أحيانا. لكنه حتماً لا يرجع للوراء بغض النظر عن طبيعة الأنظمة والسلطات والقوى.