الأزمة اليمنية المستعرة، على خلفية التمدد الحوثي المدعوم إيرانيا، هي أبعد من صراع للسيطرة على المواقع والسلطة، بل هي إشكالية تتداخل فيها الأبعاد القبلية والاجتماعية والتاريخية إلى درجة أصبح فيها فهم الحدث اليمني الراهن يتطلبُ وجوبا استحضار كل هذه الأبعاد مجتمعة، باعتبارها سياقات تضافرت لتصنع الحالة اليمنية، وفي بحث فارع المسلمي الموسوم “المؤثرات في النسيج الاجتماعي اليمني ما بين الشمال والجنوب” ضمن كتاب “اليمن مِن الإمامة إلى عاصفة الحزم” الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي، محاولة للتعمّق في رصد السياقات التي أنتجت الصراع اليمني.
صنعاء- بعد تحقيق الوحدة اليمنية (1990) أصبح التجمع اليمني للإصلاح المشرف المباشر على المعاهد العلمية؛ رغم كونه حزبا سياسيا وليس مؤسسة حكومية، وهنا كانت أول بؤرة صراع بين الإصلاح (إخوان مسلمون) وبين الاشتراكي (يساريون)، فالاشتراكي لعقدين كان يحتكر التعليم في الجنوب كسلطة وحزب حاكم، يعتبر المجال الثقافي ساحة تحركه الحيوي، ويوجه طلابه بعكس مؤشر المعاهد العلمية، أي ضد الإسلاميين، وضد الشيوخ والطبقات الاجتماعية البرجوازية. ولهذا كان قانون التعليم أكثر قانون في دولة الوحدة إثارة للجدل، بمطالبة الحزب الاشتراكي بدمج المعاهد العلمية في نظام التعليم العام، وهو ما قام به علي عبدالله صالح بعد ذلك بعقد (2001).
قام نظام علي عبدالله صالح بتصعيد وتمكين الإخوان المسلمين والسلفيين وتوظيفهم لأكثر من عقدين ضد خصومه من اليساريين والقوميين؛ حتى شعر بالقوة والقدرة على الاستغناء عن خدماتهم، فألغى المعاهد العلمية التي كانت العمود الفقري للإخوان والسلفيين في الوقت ذاته، وبنفس الآلية عمل لاحقا ومنذ منتصف التسعينات من القرن الماضي على تمكين وتصعيد الحوثيين لتوظيفهم ضد الإخوان المسلمين تحديدا، ثم السلفيين، وهو ما توازى مع وجود رغبات إقليمية لذلك، ولأن الإخوان واليسار والسلفيين والحوثيين هم الشريحة الفاعلة في المجتمع، فإن هذه السلسلة من التوظيف وضرب قوة بأخرى قد أوجدت أولى الثغرات في جدار النسيج الاجتماعي، وبنت أول درجة في سلم الصعود إلى الهاوية، بما يحمله كل طرف للآخر من رؤية عدائية، وبما يكنه له من كراهية، وبما يمارسه ضده من إقصاء. وهكذا أصبح السلم الاجتماعي في أخطر دائرة مرسومة له بتاريخ اليمن المعاصر.
ولأن الحزبية في اليمن ثقافة جديدة، خصوصا وأنها ظلت محظورة حتى أقرها دستور دولة الوحدة (1990) وكان هناك فقط حزبان حاكمان: في الجنوب (الحزب الاشتراكي اليمني)، وفي الشمال (المؤتمر الشعبي العام)، فلم تستطع تجاوز البنية القبلية العريقة، بل إن البعض من القوى الدينية والقبلية اعتبرت أن أي حزب غير المؤتمر الحاكم، يعد خروجا على الحاكم، والبعض الأكثر براغماتية اعتبرها مصدرا نفعيا، ولم يفهمها إلا القلة. ومجتمع بهذه الشاكلة ليس مؤهلا للحزبية بعد بحسب الشيخ الأحمر، رئيس تجمع الإصلاح الإسلامي، ثاني أكبر حزب في البلاد، الذي أورد في مذكراته أن تأسيسه لحزب الإصلاح كان بمثابة الاعتماد على لاعب احتياطي بطلب من الرئيس، حينها، ليعارض ما لا يستطيع حزب الرئيس معارضته من مطالب الحزب الاشتراكي شريكه في الوحدة، أي أن التحالفات التقليدية ظلت على وضعها، ولم تكن الأحزاب أكثر من غطاء دستوري لها.
بعد انتفاضة الشباب اليمني منذ مطلع 2011، أو ما عرف بالربيع اليمني، قدم المجتمع اليمني المسلح بكثافة صورة أكثر معاصرة لشبابه الجديد، الذي يعتمد الطرق المدنية الديمقراطية للتعبير عن مطالبه بالاعتصام السلمي، وانتظم في ساحات مشتركة رغم كل الاختلافات السياسية والفكرية بين أفراده.
غير أن انشقاق الجيش بين مؤيد للنظام ومؤيد للشباب، والانقسام الرأسي لقبيلة حاشد بين الفريقين نفسيهما، رسما ملمحا جديدا ظهر لأول مرة بشكل واضح، تمثل في شرخ التحالف التقليدي الحاكم. ومرة أخرى كان هناك غطاء دستوري للقوى المنضوية تحت راية كل فريق، فكانت أحزاب اللقاء المشترك المعارض وشركاؤه من القوى القبلية، تمثل مطالب شباب الساحات، والمؤتمر الشعبي العام وحلفاؤه من الأحزاب الصغيرة يمثل النظام الحاكم، وبينما كان اليمنيون يمارسون أكثر صور المدنية في التعبير عن آرائهم، كانت أجندة الصراع تقتضي التوظيف الطائفي لما يحدث.
لكن هذه الانتفاضة أتت على بيئة اجتماعية سياسية مهيأة على المستوى الجهوي (الشمال والجنوب) والمذهبي (سنة وشيعة)، وبفعل التدخلات الخاطئة للسلطة وأجهزتها، أكثر من كونها نتاجا طبيعيا لتفاعلات الواقع، أو على الأقل هي حرف مسار المطالب الاجتماعية لتتمكن السلطة من التهرب منها، فقد نضجت آثار حرب صيف العام 1994، وانطلقت موجة احتجاجات واسعة في جنوب اليمن تطالب بمعالجة آثار الحرب وقضايا المُسرَّحين من وظائفهم، والذين بلغ عددهم قرابة 150 ألف موظف مدني وعسكري، وووجهت فعالياتهم الاحتجاجية بالقمع، فتصاعد الخطاب الجنوبي إلى المطالبة بفك الارتباط عن الشمال، وبدأت موجة عداء منظمة ضد أبناء الشمال في الجنوب، كعملية تفريغ للمطالب الحقيقية للحراك الجنوبي السلمي.
وعلى الصعيد المذهبي، كانت آثار ست حروب بين الدولة وجماعة الحوثيين في صعدة قد انتقلت من المستوى الثقافي المذهبي إلى المستوى السياسي، ومن المطالبة بممارسة وتدريس طقوس المذهب الزيدي ومنع تمدد السلفية الوهابية في مناطقه بصعدة، إلى المطالبة بالشراكة السياسية في السلطة، وقد تطورت هذه الحروب وتمددت في مناطق أوسع، وجرّت المجتمع القبلي في ظل تراجع دور الدولة إلى خوض الصراع بناء على خطاب طائفي، وخلق ميليشيات قبلية ضد بعضها، ما وضع مؤشرات بالغة الخطورة على منحى الصراع الراهن.
وبعد توقيع أطراف الصراع على المبادرة الخليجية، بما حملته من حلول توفيقية لم تنه جذور الصراع، كان غياب الدولة قد خلق بيئة للعمل خارج القانون لتحقيق أهداف خاصة بالجماعات الجديدة والقديمة معا، فوسعت جماعة الحوثي من حروبها وسيطرت على صعدة، ثم هجّرت الآلاف من السلفيين من دماج مطلع 2014، أي تهجير جماعي بخلفية طائفية، باعتبار السلفيين معقلا للقاعدة والوهابية، كما برر الحوثيون فعلهم، وقادت شخصيات قبلية الحرب ضد الحوثيين بدعوى “حماية السنة”، بل إن حسين الأحمر، الشيخ القبلي في حاشد، أصبح يدعى في إعلام الحرب “أسد السنة”، وذلك في ظل غياب دور الدولة كليا.
بناء على هذه الخلفية تتم إدارة الصراع من قبل جماعات إسلامية مقابلة ترى نفسها مدافعة عن السنة (بالمقابل) بمن في ذلك جماعات إرهابية ركبت الموجة (داعش والقاعدة)، وجماعات من السلفيين الذين تم تهجيرهم من قبل الحوثيين قبل عامين من دماج، إضافة إلى جماعة الإخوان التي لاحت كأبرز الوجوه المقاومة للحوثيين وذات الحضور السياسي والفكري القوي والمنظم.