إحدى الناجيات من الحرب العالمية الثانية تقول في مذكراتها “لا يوجد لديك الكثير من الخيارات، حينما يكون النازيون على ركبتيك والأمريكان على رأسك”. كتبتْ ذلك لتصف بشاعة ما تعرضت له بعد أن انتهكها جنود نازيون في اليوم الأول، وقتل الأمريكان أهلها في اليوم الثاني في نيجازاكي بضربة جوية.
هنا ايضا تكمن مساحة اليمني العالق تماما بين كارثتين تتمظهر الأولى في قصف الطيران السعودي لمخيم النازحين بالمزرق مثلا، واستخدامه أسلحة محرمة دوليا لقصف جبل عطان المحاط بأحياء سكنية في قلب العاصمة صنعاء، وقصفه “السجّادي” الكثيف والمستمرّ لمحافظة صعدة مع عدم قدرة سكانها الذين طلب منهم المغادرة على الخروج منها لأن الوقود منعدم، واستئجار سيارة للهرب بأي اتجاه، تكاليفها لا يتمكن منها إلا القلة القليلة، لتخرج الأغلبية إلى كهوف الجبال المحيطة بمدينة طالما سميت بمدينة السلام، وتورطه في تدمير منشآت مدنية ومصانع في بلد فقير.
وبين المساحة الكارثية الاخرى محلية الصنع، حوثية الهوية، تمظهرت بخوض حرب مدمرة وسط الأحياء السكّانية لعدن وتعز والحوطة التي انقطعت أخبارها عن العالم منذ أكثر من شهر، واقتحام المساكن في خورمكسر لإعدام من يتصدّى لها، وهي لا تتورع عن قصف زورق صغير تراكم على سطحه عشرات النازحين طمعا في النجاة من موجة موت قادمة. ليس ذلك فحسب، بل ايضا صادرت المشتقات النفطية لصالح المجهود الحربي ومسلحيها الذين يجوبون وحدهم شوارع المدن بعربات الموت، بينما يكتفي الآخرون بالنظر إليهم ليدركوا جزءا من طبيعة الأزمة النفطية التي جمدت دورة الحياة في البلاد وأوقفت حتى أجهزة غسيل الكلى في المستشفيات اليمنية القليلة وسيئة الخدمة.
إنها مساحة اليمني العالق إذا، مساحة الهش الضعيف المتهم بعدم اختيار الطريقة الأنسب لموته. مساحة الحرب إجمالا مساحة ضيقة، يتساوى فيها الجميع. لا أحد بتجربة شخصية، الحرب هي تجربة كل أحد وقصة غير حصرية بالنسبة لـ25 مليون يمني.
يتشابه الضحايا كثيرا، ويتضامنون. وحينما يعجزون عن التضامن مع بعضهم، يتهمون بعضهم.
على الشاشات وبعيدا عن الواقع، مذيعة بلهاء تحاول تحويل الموت إلى انتصارات، وصحافي ساذج يبحث عن ذاته (التي تدهورت كثيرا في السنوات الأخيرة بعد أن رفع السقف شباب عربي شجاع صنع أحداث الربيع العربي)، عبر محاولة طرح أسئلة تبدو صعبة لكنها بلهاء هي الاخرى، وموجهة بحيث تكون إجابتها إقرارا بضرورة القتل. لكنه يعيش بعيدا ويتحدث من استيديو مكيف وأنيق، وينطق “عمران عمّران” مثلا، ولا يعرف كم هو يفصح عن سطحيته، بالقدر نفسه الذي يفصح عنه المهتمون الطائفيون والخبراء فجأة بشؤون اليمن. العرب والعجم الذين لم يعرفوا موقع اليمن حتى في الخريطة الى فترة قريبة، أصبحوا فجأة خبراء “ينقذون” اليمن أو “يدافعون” عنه. البلد الذي لطالما اتهم بالسعادة، وفند قادته باحتراف هذه التهمة الرومانية القديمة (“العربية السعيدة”).
هي مساحة شبه منعدمة وإجبارية، يظل اليمني عالقاً فيها إذا. حدودها الداخلية ميليشيا تحكم وتتحكم وتستبيح، ولها حدود مختلطة بين بشر يمنيون وتراب غير يمني يقيم عليه مسؤولون فلتوا مسؤولياتهم وخذلوا ملايين اليمنيين، ليمارسوا السلطة والأوامر العسكرية عن بعد عبر صفحات مدفوعة الاجر على فيسبوك.
لا شيء غير واضح، حتى الفشل اصبح عنوان نجاح العرب. اذ لا أحد يفهم سوى نخبة مختل تفكيرها ومشوهة معاييرها كيف يمكن الاحتفال باضطرار أغنى دولة عربية لقصف أفقر دولة عربية.. لإحداث فارق سياسي على أرضها!
من يرى في الحرب انتصارا من أي نوع، غير شركات الأسلحة؟
ضيقو الأفق والطائفيون والميليشياويون المطمئنون إلى الحرب إجمالا، يرون في القتل انتصارا ساحقا لأنهم بالتأكيد ليسوا نازحين ولا لاجئين، وليسوا أمهات على الأرجح، ليسوا على صلة قرابة بفوزي الكاهلي الصحافي اليمني الذي مات لمجرد انعدام الأوكسجين في مستشفيات اليمن مثلا، ولا يعلمون عن مريضة السرطان التي رفضت تودد زوجها على شاطئ التواهي وهو يطلب منها الصعود على ظهر زورق نزح عليه العشرات، قصفه القتلة بعد دقائق، لكنها لم تحصل على جرعتها المقررة من العلاج الكيميائي بعد ذلك .
ولكن من يهتم على أية حال؟ اليمنيون شعب طيب، لكن فصيلة دمهم خالية من النفط. فليغرقوا في الجحيم إذا. هكذا يقول لهم العالم، القريب والبعيد.
حينما بدأ اليمنيون حربهم، كان العالم قد وصل الى قمة سأمه منها. وحتى الأمم المتحدة كانت قد أصبحت أقل قدرة على النقد والإصلاح الذاتي من تنظيم القاعدة فيما يتعلق بدورها في اليمن والعالم اجمالا، وكان العالم أجمع يعمل من أجل انقاذ اليمن أمام عدسات الكاميرات، لكن العالم الوغد نفسه يغلق مطاراته وحدوده في وجوههم الآن.
الحرب التي يراها البعض مجرد هاشتاغ، هي قصص ليال خائفة، أم تحتضن جسداً بدون رأس، كان ابنها الوحيد، أطفال يسألون عن الموت، وأمهات يطلبن من فتياتهن لبس الجنزات تحسباً لتهدم المنزل، وشاب يستخدم الحمام على عجل خوفا ان تكون تلك الثواني هي لحظة النهاية. الحرب هي عامل إغاثة في عدن يتقافز وسط الرصاص ليموت وينجو الجريح.
لا احد يعلم كيف سيعيش بعد هذه الحرب ان كتبت لها نهاية. كيف سيعيش اليمني جوار الاخر ولا يلمح في وجهه شبح قاتل بعد كل هذا؟