حتى العام 2011، كانت الغلبة السياسية في اليمن لمن يمتلك الأغلبية البرلمانية، وهو حزب «المؤتمر الشعبي العام» الحاكم (حينها)، وكان هناك معارضة قوية إلى حد ما تمثلت بـ«أحزاب اللقاء المشترك» التي وحّدت صفوفها ضد هيمنة المؤتمر رغم عدم امتلاكها إلا قرابة ثلث ما كان لدى هذا الأخير من مقاعد البرلمان. وكانت تلك الأغلبية البرلمانية القوية تعفي حزب المؤتمر من انتظار أي طرف لتمرير ما يتوافق مع مصالحه من قرارات وتشريعات. ولقرابة عقد كامل (2001-2011)، شغل الطرفان كفتي ميزان النظام، سلطة ومعارضة، مع أرجحية الأولى دون أي اعتبار لقوة سياسية ثالثة.
تغير الأمر تماماً بعد ذلك التاريخ. ويمكن القول إن التوقيع على المبادرة الخليجية في شباط/نوفمبر 2011 كان آخر احتكار لهما لتوجيه بوصلة اهتمام الشارع اليمني، وآخر عمل سياسي قام على التنافس بينهما كقوى سياسية رسمية وممثلة برلمانياً. وهو مثّل أيضا بداية لمسار آخر اعتمد على ما لدى الطرفين من قوة عسكرية، وليس شعبية أو انتخابية كان قد استند إليها في استحقاقه بأن يكون نداً للآخر على طاولة التوقيع الملكية بالرياض.
ومنذ 2011، استمر السلاح في جر اليمنيين إلى منطقه على حساب السياسة، خاصة بعد إقرار قانون الحصانة الذي عطل فرص تحقيق العدالة وأفقد الأفراد الثقة بالوسائل المدنية، وهو أمر استغلته الميليشيات لتقوية منطقها والتوسع. وتستمر الجهود الجماعات في اليمن لتعطيل السياسة لمصلحة السلاح، مع بروز دعوات بين الحين والآخر لحمل السلاح في الجنوب، وتهجير السلفيين من دماج وهو أمر استغلته بالمقابل القاعدة لتقوية منطقها الطائفي واستقطاب سلفيين سابقين ليصبحوا مقاتلين.
مأسست المبادرة الخليجية مبدأ العنف عبر احتوائها للأطراف والقضايا الأكثر تسليحا، وليس بالضرورة الأكثر عدالة. وفي المجمل، فقد زاد الإحباط العام من تحقيق حلم التحول الديموقراطي والاقتصادي، بسبب ازدهار الكيانات البدائية على حساب المشروع السياسي أو المدني.
وكامتداد طبيعي أقل جوهرية وأكثر تفصيلية ـ لكل هذه الخلفية، فإن الطرفين الموقِعين على المبادرة أصبحا معنيين بعد ذلك بإدارة عملية الحوار الوطني واحتكار نصيب الأسد من أعضاء إطاره، ولم يظهر أثرهما بعد ذلك إلا على شكل نزاع على المصالح الذاتية، من حيث تعيين نسب الممثلين في ذلك الإطار أو تقاسم المناصب الجديدة والمستحدثة بعد الحقائب الوزارية. وهذا جارٍ منذ كانون الأول/ ديسمبر 2011 وحتى اليوم.
لكن ما جرى على الأرض منذ 2011 أصبح خارج قدرة الطرفين على التحكم، إذ إن انطلاق جولات الصراع المسلح بين حلفاء الإخوان المسلمين من جهة، والحوثيين ومن يدعم موقفهم من جهة أخرى، سبق انطلاق مؤتمر الحوار، واستمرت أثناء انعقاد جلساته بحضور ممثلي القوى المتحاربة خارج قاعاته، ووضعت بذلك ربما أسسا جديدة للتنافس السياسي، ليتحول إلى صراع يستند إلى الغلبة على أرض المعركة. شمالا، أصبح الإخوان المسلمون والحوثيون هما طرفي النزاع، ولم يعد حزب المؤتمر الشعبي ذو الأغلبية البرلمانية سوى طرف (شبه محايد) يدعو الطرفين إلى تحكيم العقل ونبذ العنف، ربما من باب الشماتة وليس حرصاً حقيقياً على وقف صراع القوى التي تضامنت لتنحيته جانباً حين خرجت مطالبة بتنحية رئيسه عن الحكم في شباط/فبراير 2011.
وبمجرد تحقيقها هذا الهدف، ظهرت حقائق علاقتها التصارعية للعلن كما كانت من قبل. وفي الوقت ذاته تحولت أحزاب تحالف «اللقاء المشترك» الى العمل المنفرد. جاء ذلك نتيجة الخلفيات غير المنسجمة بين مكوّناته الحزبية، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومثّل إسقاط نظام صالح ذروة ما يمكن أن يكون مشتركاً بينها. بعد ذلك بدأ اللقاء المشترك يخوض في نزاعات سياسية وغنائمية داخلية تلوح وتختفي بين حين وآخر، وتطوّر الأمر بعد حرب عمران الأخيرة لدرجة توجه «الإصلاح» صراحةً لاتهام شريكه الأساسي في اللقاء المشترك (الحزب الاشتراكي اليمني) بدعم الحوثيين ضده. رد الاشتراكي، وتبادلا الاتهامات التي يمكن أن تؤدي إلى انتهاء اللقاء المشترك رسمياً بعد تجميده عملياً. وبذلك تكون أكثر التحالفات السياسية إشراقا وتأثيرا في الديموقراطية اليمنية على وشك الأفول.
والمحزن أن أفوله يقع من دون تحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في فرض أدوات سلمية جديدة لتداول السلطة، بل بعودة الأطراف الناشطة عملياً على الأرض بنفوذ كبير إلى ديارها لشحن بنادقها في ما يمكن تسميته «موسم الهجرة الى السلاح « في اليمن.
لم يعد حزب المؤتمر يمارس الدور الموازي لحجمه النيابي بعد تحول البرلمان إلى مؤسسة شكلية قائمة على التوافق، وتعطيل معظم بنود الدستور خلال المرحلة الانتقالية الجارية، كون المرجعية العليا الحالية تتمثل في المبادرة الخليجية. كما أنه تعرّض لشرخ أفقي في 2011 نتيجة التحاق بعض قياداته وأعضائه بركب «الثورة الشبابية». ثم تعرض لشرخ رأسي بعد ظهور خلافات رئيسه (الرئيس السابق على عبد الله صالح) وأمينه العام (الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي) بإصرار الأول على البقاء على رأس الحزب الأكبر في البلاد، وعدم قدرة الرئيس الجديد على إزاحته، كونه مؤسس الحزب ورئيسه لأكثر من 30 عاما، وما يعنيه ذلك من عمق أثره في أوساطه.
يتزامن ذلك مع عدم عقد الحزب ـ كأغلب الأحزاب اليمنية ـ لمؤتمره العام وانتخاب قيادات جديدة تحافظ على وحدته في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ البلاد، لأنه يبدو مهدداً بأن يفقد، بخلافاته الداخلية، ما لم يفقده نتيجة صراعه مع القوى الأخرى. وهذا الأمر أدى ببعض منتسبيه لمناصرة قوى أخرى كالحوثيين بشكل غير رسمي، نكاية بخصمهم المشترك (الإخوان المسلمين وتحالفهم).
كل هذه العوامل أضعفت القوى السياسية الرئيسية في البلاد وساعدت على تراجع دورها على أرض الواقع، بينما ظهرت عوامل أخرى، إقليمية ومحلية، أعادت توزيع أدوار القوى المؤثرة على الأرض وفق معطيات جديدة، قد تصل بالبلاد إلى مصير كارثي، حيث استمر خط الصراع المسلح بين قوى الإسلام السياسي (سنة وشيعة) في التصاعد منذ 2011، سواء في إطار الانقسام الطائفي القائم بين دول الإقليم (الرياض وطهران)، أو امتداده المنقح إلى أنقرة بعد فك عرى تحالف الإخوان مع الرياض، لتتضح انعكاساته في صنعاء على شكل عملية تسابق مسلح للسيطرة على أكبر قدر من جغرافيا البلاد قبل تقسيمها إلى أقاليم وفق مخرجات الحوار الوطني، تمهيداً لفرض السيطرة عليها بفعل الأمر الواقع. وهو ما يخدم القيادات المحلية لهذه القوى، وحلفائها في الإقليم الذين يقدمون لها الدعم، خاصة في ظل ضعف الدولة المركزية، وعدم قدرتها على التدخل كدولة فوق كل القوى الخارجة عن القانون، وهو ما ينطبق على نهج الأطراف المتصارعة بالسلاح، والمغادرة لمفردات التداول السلمي للسلطة والانتخابات النزيهة.
تمثلت أبرز الانعكاسات الحالية للصراعات المسلحة الأخيرة في سيطرة الحوثيين على محافظة عمران إلى جانب صعدة (يسيطرون عليها كليا منذ 2011م) بعد سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى من الطرفين، وإن كرّس ذلك ضعف الدولة وإخراج القوى السياسية غير المسلحة من المعادلة السياسية للبلاد، إلا أن الثارات المترتبة على كل جولة حرب كفيلة باستمرار سلسلة الاقتتال، وما يمثله ذلك من تدمير للبلاد وحرف كل مسارات التسوية السياسية القائمة باتجاه فوهة المدفع، سواء انتصر أحد الطرفين انتصاراً حاسماً، أو استمرت معاركهما وتوسعت دوائرها إلى أن تحل الميليشيات المسلحة محل الجيش الوطني، وزعاماتها محل السلطة القائمة التي تبقى الخيار الأفضل مهما كانت مساوئها الواضحة للعيان وضعفها الجلي الذي مثل أحد عوامل تحول القوى المسلحة إلى بديل للأحزاب السياسية على الأرض.