في شهر حزيران (يونيو) الماضي، اقترح الرئيس الأميركي باراك أوباما أن اليمن يمكون أن يكون نموذجاً للكيفية التي يمكن أن يتم بها جلب الاستقرار إلى العراق.

وقال الرئيس: “إنك تنظر إلى بلد مثل اليمن –وهو بلد فقير جداً وواحد له انقساماته الطائفية والعرقية الخاصة. هناك، لدينا فعلياً شريك ملتزم في شخص الرئيس (عبد ربه منصور) هادي وحكومته”.

وتأتي تصريحاته لتكون بمثابة الصدمة بالنسبة لمعظم اليمنيين. فالتناقض بين واقع بلدهم السياسي وسمعته كقصة نجاح في الربيع العربي لطالما كان صارخاً على الدوام ، لكنه أصبح الآن سخيفا وغير معقول.

قبل أيام فقط من حديث أوباما، كانت تظاهرات –غابت عن الإعلام الدولي بشكل كبير، مع تضييق الخناق على دخول البلد للصحافيين الاجانب هذه الايام – قد اندلعت في العاصمة اليمنية. وقام المتظاهرون الغاضبون بإغلاق شوارع صنعاء الرئيسية، وإحراق الإطارات، وأطلقوا الهتافات المناهضة للحكومة الانتقالية وضد هادي، الرجل الذي يترأس هذه الحكومة.

بدا ببساطة أن اليمنيين قد تهشموا تحت ضغوط حالات النقص الشديد في الاحتياجات، والطوابير التي يبلغ طولها كيلومترات على محطات البنزين، وانقطاعات الكهرباء التي تمتد لعشرين ساعة.

في نفس اليوم الذي اندلعت فيه الاحتجاجات، عقدت الأمم المتحدة مؤتمراً في بيروت بين وسطاء السلطة الجدد في اليمن وبين نخب البلد السابقة. وخلال الاجتماع، حظي الانتقال السياسي الذي أحرزه البلد بالإطراء والثناء واسع النطاق، خاصة في مجالات تحقيقه ” الشمولية والاستقرار”.

لكن الحقيقة هي أن اتفاقية العام 2011 المتمتعة بالدعم الدولي، والتي نقلت السلطة من علي عبد الله صالح الذي حكم البلد منذ العام 1978، كانت صفقة فاسدة في حد ذاتها. فقد عملت على مجرد تسليم الرئاسة إلى نائبه هادي، في حين ضمنت أن يستمر صالح في لعب دور خلف الكواليس.

كما أنها أعطته الحصانة أيضاً عن كل ما قام به من مخالفات خلال فترة حكمه التي استمرت 33 عاماً في السلطة. وليس هذا والديمقراطية نفس الشيء. والأسوأ من ذلك هو أن الاتفاقية جعلت من أمر تحقيق انتقال حقيقي إلى الديمقراطية في اليمن أكثر صعوبة بكثير، كما زرعت بذور نزاعات جديدة.

كان أحد وعود الاتفاقية الرئيسية لعشرات الآلاف من الناشطين المؤيدين للديمقراطية الذين خرجوا إلى الشوارع من أجل الإطاحة بعلي عبد الله صالح هو عقد مؤتمر الحوار الوطني.

وكان يفترض أن يجمع المؤتمر كافة الفصائل السياسية معاً، من حركة الانفصاليين الجنوبيين إلى الحداثيين الشباب، من أجل التفاوض على وضع الخطوط العامة لهيكل سياسة اليمن المستقبلية؛ ثم طرح حصيلة هذه المفاوضات لاستفتاء عام من أجل المصادقة عليها.

ومع ذلك، فإن مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في الفترة ما بين شهر آذار (مارس) وكانون الثاني (يناير) 2014 صنع القليل باستثناء تمديد ولاية البرلمان (الذي انتهت صلاحيته في العام 2008) والرئيس (الذي تتكون شرعيته الديمقراطية من استفتاء أقيم على عجل لإقرار خدمته ولاية واحدة في المنصب).

ثم تجاهل مؤتمر الحوار الموطني لوائحه الخاصة ورفض طرح هذه القرارات للاستفتاء العام قبل تنفيذها. ونتيجة لذلك، اصبح عدد المسؤولين اليمنيين المنتخبين فعلياً عند الصفر، ضمن عملية احتيال حظيت بدعم من كل المجتمع الدولي.

استمر قادة العالم في امتداح المؤتمر، وفي دعمه مالياً وسياسياً، حتى بينما أصبح واضحاً أن مؤتمر الحوار الوطني لم يكن سيسفر عن الوفاء بوعوده والآمال المعلقة عليه. في هذه الأيام، يجري حضر أي محاولات لمحاسبة أداء الحكومة بالتحجج انها حكومة وفاق وطني، وبذلك غير قابلة للمساءلة أو المساس. وبالتالي، أفضى ذلك إلى تصاعد الفساد فقط. وفي العام 2013، قفز ترتيب اليمن على مؤشر الشفافية الدولية إلى 167 من بين 177 بلداً. وكان ترتيبه في العام 2012 يقف عند 156.

ببساطة، أصبح من المستحيل مساءلة أو محاسبة أي مسؤول حكومي في اليمن –من الأكثر نفوذاً وقوة إلى الأدنى في الهرم. وفي الوقت نفسه، قامت المؤسسة الأمنية التي تنتمي إلى النظام القديم والجديد بشن حرب شاملة ضد حرية الصحافة. وقامت بمضايقة واعتقال وترحيل أكثر من دزينة من الصحفيين المحليين والدوليين.

كما قامت بحظر أو قمع ومضايقة العديد من المنافد الإعلامية، مثل قناة “اليمن اليوم” التلفزيونية. يتم قمع اي نقد او احتجاج بوصمه انه تعبير عن النظام السابق. وهكذا، يذهب الوضع هناك الى مزيد من السوء: في شمال البلد وجنوبه، ما تزال انتفاضات كاملة ضد النظام الحالي قائمة.

ولكن، وبدلاً من تهدئة المناطق عن طريق تفعيل الشفافية ، تحول مؤتمر الحوار الوطني ببساطة إلى مجرد عربة ووسيلة لاحتواء نخبة منتقاة من القادة من بين قادة الثوار على غرار نخب النوادي الأقدم. وقد ساعد مثل هذا الازدراء في بلد يحتاج فيه أكثر من 15 مليون إنسان إلى المساعدات الإنسانية، حسب تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، الى خدمة بروباجندا الجماعات المسلحة إلى ما لا نهاية.

وأصبح الوضع الأمني اليمني الآن شديد القتامة والخطورة، حتى أن ضباط الجيش شرعوا في اخفاء رتبهم العسكرية في الأماكن العامة خوفاً من التعرض للاغتيال. في أوائل شهر تموز (يوليو) الماضي، قامت إحدى الجماعات المتمردة ، جماعة المتمردين الحوثيين المسلحة بقوة، بالاستيلاء على منطقة عمران خارج العاصمة، واستولت معها على العشرات من الدبابات والمدافع الثقيلة.

كما قتل المتمردين القائد العسكري الأعلى في المحافظة، وهو شخصية موالية للإسلاميين إحدى الجماعات المعارضة للحوثيين. وقد أجبر حصار الحوثيين للمدينة أكثر من 30.000 شخص على الفرار من ديارهم. ولو أن مؤتمر الحوار الوطني لم يكن قد شل بأيدي الحوثيين المنتقين كمحاورين، بشكل زاد نفوذهم من دون ان يزيد من مسؤوليتهم ، وعمد بدلاً من ذلك إلى وضع اسس اتفاق سلام ديمقراطي حقيقي، لكان التمردين أضعف الآن. أصبح يتضح الآن باطراد أن اتفاقية المرحلة الانتقالية كلفت اليمن ثمناً غالياً.

فقد أصبح اليمنيون يعيشون في أرض الخوف والإخضاع، وطوابير الوقود والجوع، والعنف والفساد. وبالنسبة لهم، بدت إشارة أوباما المذكورة إلى اليمن أشبه بنكتة رديئة في أحسن الأحوال، وإهانة صفيقة خالية من الإحساس في أسوئها. ولا بد أن تكون هذه الإشارة أكثر إثارة للقلق بالنسبة للعراقيين أيضاً.

فقبل بضع سنوات فقط، اعتاد الناس في اليمن التحذير من قدوم “سيناريو عراقي” إذا لم تتم معالجة مشكلات البلد، ما يعني أن اليمن سيكون العراق الجديد. لكنهم لم يعودوا يقولون ذلك الآن. لقد أدرك الناس في اليمن ما لا يدركه أوباما: أن سيناريو اليمن اليوم ينبغي أن يستخدم كتحذير ونذير سوء، وليس كحل ، للعراق. تماماً مثل التجارب الخيالية المنطوية على المخاطرة والتي تعرض على شاشة التلفاز: يجب عدم محاولة تجربة النموذج اليمني في المنزل / الوطن.

نشر هذا المقال في المصدر اونلاين

10