أيار/مايو 1990. ولكن، وبالرغم من أن توقيع «اتفاقية الوحدة» حصل في حينها بالفعل، إلا أن تلك الوثيقة التي لم تتعدَ الصفحة ونصف الصفحة كانت في الواقع بمثابة إعلان نهاية الوحدة اليمنية.
قبل 1994، كان اليمنيون بمثابة شعب واحد في دولتين، ولكن الأحداث المترتبة على الوحدة المرتبكة والمتسرعة (التي وصف شاعر اليمن ومؤرخها الكبير عبد الله البردّوني تخوّفه منها بـ«ربيعية الشتاء»)، أدت إلى حرب خاضها طرفا الوحدة (الرئيس صالح وحلفاؤه الإسلاميون والقبليون من جهة، ونائبه علي سالم البيض وحلفاؤه، ومنهم أعداء سابقون من «حزب الرابطة»، ومن جناح أبين، من جهة أخرى). حرب استمرت قرابة ثلاثة أشهر أكلت الأخضر واليابس.
الحرب بعد التوتر المهول
وقعت الحرب بعد عامين من التوتر الأمني الكبير (واغتيال العشرات من قيادات وعناصر الحزب الاشتراكي في صنعاء)، خاصة بعد نتائج الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الوحدة التي احتل فيها «حزب المؤتمر الشعبي العام» برئاسة صالح المركز الأول بـ 122 مقعداً، وحزب الإصلاح الإسلامي برئاسة الشيخ الأحمر (حليف صالح في الحرب لاحقًا) المركز الثاني بـ أكثر من 60 مقعداً، والحزب الاشتراكي (برئاسة البيض) المركز الثالث بـ 56 مقعداً.
لم تنجح محاولات كبيرة من الشخصيات اليمنية المؤثرة في احتواء الأزمة بين الطرفين وفي ثني البيض عن اعتكافه في عدن، وإقناعه بالعودة إلى صنعاء أو أداء اليمين الدستورية أمام البرلمان كنائب لرئيس الجمهورية بعد انتخابات نيسان/ أبريل 1993. ورغم توقيعه مع صالح وقيادات يمنية كبيرة على «وثيقة العهد والاتفاق» في عمّان في شباط/ فبراير 1994، إلا أن موقعي الاتفاقية تنصلوا منها قبل جفاف حبرها.
لقد انقلب اندفاع الجنوبيين الكبير باتجاه الوحدة قبل 1990، واستبدل اليوم بحركة قوية تطالب بالانفصال، لأسباب أهمها سلوكيات نظام صالح وحلفائه بعد الحرب التي أنهت آخر مشروع/ حلم توحّد عليه اليمنيون. أصبح اليمن دولة واحدة بـ«شعبين» في أفضل حالاتهما: جنوبي لا يفرق بين المواطِن الشمالي العادي الذي سحقه نظام صالح وبين النظام السياسي الذي كان يرأسه صالح، وشمالي يرى الجنوبي العادي مصدر تهديد لوحدة اليمن الهشة أصلاً عبر مطالب الأخير القوية بالانفصال اليوم.
فتش عن دول الخليج
وقفت دول الخليج وراء مشروع البيض الانفصالي بشكل علني العام 1994، رداً على موقف اليمن من حرب الخليج الثانية برفضها استخدام القوة لإخراج صدام من الكويت. لكن نتائج الحرب كانت لمصلحة صنعاء، وغادر البيض وقيادات الجنوب المناصرة له إلى الخارج وصدرت ضدهم أحكام غيابية شملت طلب الإعدام لما عُرف بقائمة الـ16، وهم أبرز القيادات التي شاركت في الحرب من الجنوب قبل أن يصدر عفو شامل لاحقاً.
تعامل نظام صالح بعد 1994 مع الجنوب كغنيمة حرب. وبدأ وحلفاؤه بالسيطرة على الأراضي، واحتكار المناصب، وإقصاء من بقي من قيادات الجنوب من مناصبهم وخاصة العسكرية… بدلاً من إعادة ترسيخ الوحدة الوطنية ومعالجة آثار الحرب على أساس المساواة والعدالة.
استغل صالح عدم توازن الديموغرافيا، وميل كفة الثقل السكاني شمالاً بنسبة الثلثين، وراحت القيادات الشمالية المعينة في الجنوب تتهم كل جنوبي يحتج على تلك السلوكيات بأنه انفصالي، بما يعنيه ذلك من تبعات. فولد شعور بالغبن والهزيمة لدى الجنوبيين، بلغ ذروته العام 2007، مع تبلور المطالب الحقوقية للجنوبيين، والتي تحولت إلى ما يعرف بـ«الحراك الجنوبي»، (في مظاهرة 7 تموز/ يوليو من ذلك العام بساحة العروض في مديرية خور مكسر بعدن)، ثم تحوّل المطالب من حقوقية إلى سياسية، ثم إلى حق تقرير المصير والمطالبة بالانفصال عن الشمال وإعادة وضع ما قبل 1990.
أكثر من 40 مجموعة جنوبية
بدأ الحراك شعبياً وعشوائياً حول قضايا مطلبية في 2007، وقامت بعض الشخصيات باستقطاب المناصرين. وكلٌّ أقنعهم بطريقته الخاصة ورسم أهداف التحرك من وجهة نظره، دون إطار فكري جامع. وهكذا برزت قيادات على مستويات محلية دون قيادة مركزية، وبدأت حمى المنافسة بينهم لأسباب مختلفة، قبل أن تتدخل القيادات التاريخية للجنوب (معظمها في الخارج) وتستقطب بعض تلك القيادات بدورها، ثم توجّه المطالب الحقوقية وتحوّلها إلى سياسية باسم «القضية الجنوبية». وساعد في ذلك التذمر الحاصل من عدم استجابة الدولة للمطالب الحقوقية ومواجهة المطالبين بها بالعنف الشديد.
علاوة على ذلك، فإن القيادات التاريخية تحمل ثارات قديمة فيما بينها، نتيجة الصراع على السلطة إبان حكمها للجنوب قبل الوحدة، وآخرها أحداث كانون الثاني/ يناير 1986. ولأن إقصاءها عن الحكم لفترة طويلة دفعها للبحث عن مصالح وتحالفات خاصة، فقد انقسم الحراك الجنوبي وفقاً لذلك إلى أكثر من 40 مكوّناً بعضها شكلت هيئات تنسيقية بينها. كما أن هناك فصائل جديدة، يموّلها رجال أعمال يمنيون في الخليج، تنادي بقضايا مناطقية خاصة (كحال حضرموت). «الحراك» إذاً لا يدلّ على مكوّن واضح المعالم بل عن عالم متناقض ومتصارع أحياناً.
التدخل الإقليمي والدولي
يتهم الإقليم وبعض أطراف السلطة في صنعاء، إيران بدعم الحراك الجنوبي واحتواء بعض قادته كعلي سالم البيض. وهي تهمٌ تُنكرها الأطراف الجنوبية بشدة. ولكن المؤكد أيضاً أن الجنوب، على عكس الشمال، تمتع في السابق بعلاقات استثنائية مع إيران، وكانت جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية هي الدولة العربية الوحيدة التي دعمت إيران في حربها مع العراق 80-88. كما أشير إلى أن ظهور عبد الرحمن الجفري (قيادي جنوبي سابق وأحد أطراف حرب 94) في بيان أصدره قبل أشهر يعبّر عن القضية الجنوبية بشكل متشدد خلافًا لمبادراته السابقة والتي كان آخرها مقترح الفيدرالية من إقليمين في آذار/ مارس 2010، يُعد تكتيكاً سعودياً لإيجاد رجل سياسي قوي في الحراك تعمل من خلاله، كونه معروفًا بعلاقاته التاريخية معها.
ومن المعلوم أن للقيادات التاريخية للجنوب، المتواجدة في الخارج، وأبرزها البيض، وعلي ناصر محمد، والعطاس، ارتباطاته وأيضاً ثاراته المتبادلة… حتى أصدر مجلس الأمن الدولي مؤخراً بيانًا يتهم فيه الرئيس علي صالح ونائبه الأسبق علي سالم البيض (في جمع لم يكن متوقعاً) بعرقلة العملية الانتقالية في اليمن، مهدداً باتخاذ عقوبات ضدهما. وأدى إدراج البيض كمعرقل للعملية الانتقالية إلى ازدياد شعبيته في أوساط الحراك! وأشار ديبلوماسي دولي رفيع المستوى، إلى أن إدراج البيض جاء بطلب من الرئيس هادي، عبر قنواته، مما يدلّ أيضاً على ازدياد استدعاء الماضي بين الشخصين.
أما محمد علي أحمد (عاد من منفاه في آذار/ مارس 2012) ونشاطه الكبير كواحد من أبرز قيادات الحراك، فيُرى كمتحالف مع الرئيس هادي، وهو ما أيّده إعلان تياره («المؤتمر الوطني لشعب الجنوب») المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني إلى جانب رجل الأعمال أحمد بن فريد الصريمة، وتيار المستقلين الجنوبيين بقيادة عبد الله الأصنج، وزير الخارجية الأسبق، مع مقاطعة معظم الفصائل الأخرى للمؤتمر، وهي الفصائل المطالبة بالانفصال أو بما تسمّيه «فك الارتباط».
ويشدد مجلس الأمن الدولي على الالتزام بوحدة اليمن ولدى اليمنيين عادة هوس في مخالفة ما يقوله العالم – وهو أمر يزيد من صعوبة تحقيق أهداف بعض مكوّنات الحراك الجنوبي.
فرض السيطرة بالقوة
تقف عناصر حزب الإصلاح في مدن الجنوب ضد فعاليات الحراك الجنوبي، ويصل الأمر أحياناً لدرجة الاشتباك، كما حدث في 21 شباط/ فبراير الماضي. وهذا قد يحدّ من نشاط الحراك في مناطق ومدن معينة كما يحدث في عدن. لكنه يخلق تذمّراً وبالتالي تأييداً من قبل المواطن الجنوبي العادي المتعاطف مع الحراك. كما أن تنظيم القاعدة في المكلا (حضرموت) بعد دعوة بعض خطباء الجوامع للانفصال، وزّع منشورات تهدّد من يسعى لشق عصا الوحدة بـ«العقاب»، وهو في قاموس القاعدة لا يقلّ عن الموت، فخفتت حدة لهجة الخطباء بشكل كبير نتيجة ذلك، ولو لفترة مؤقتة كما يقال.
من شأن هذا أن يوضح جانباً من صورة الواقع الجنوبي، حيث لا يسيطر «الحراك» بدرجة تسمح له بالتصرف الكامل. لذلك تفرض بعض فصائله العصيان المدني بالقوة في مناطق نفوذها، مولداً السخط عليها أحياناً. يقوّض التعبير السيئ عن «القضية الجنوبية» تعاطف كثير من أبناء الشمال والجنوب معها، وتحديداً في عدن، خاصة أن معظم سكان بعض مدن الجنوب، كعدن، ينحدرون من محافظات الشمال منذ ما قبل الوحدة بعقود، وبعضهم يعيش بشكل كامل مع كل أمواله وممتلكاته هناك. ويستحيل في المدى المنظور فصل سكان الجنوب وغربلتهم على أساس «شطري»، ولا يوجد رؤية ملموسة حتى الآن لدى الحراك لمعالجة هذه القضية. وعلى حد تعبير الكاتب أنيس حسن علي، فإن الحراك لم يستطع بالفعل بعد الإجابة عن سؤال «ماذا بعد الانفصال؟».
الرئيس هادي والجنوب
سعى الرئيس هادي الى امتصاص غضب وتذمّر أبناء الجنوب من إقصائهم من المناصب القيادية، وعيّن البعض منهم في مواقع هامة لإعادة الثقة وابداء حسن النيات. الا ان البعض يرى مأخذاً على هادي من مستويين مختلفين، الاول هو محاولته فرض مقربين منه في مناصب حكومية، والثاني وهو مناطقي ضمن اطار الجنوب نفسه. كما ان مؤتمر الحوار الوطني الذي انطلق أخيراً في 18 آذار/مارس، منح الحراك الجنوبي 85 مقعداً، ومنح الجنوب نسبة 50 في المئة من إجمالي أعضاء مؤتمر الحوار البالغ عددهم 565 عضواً. ومع ذلك قاطعته فصائل كثيرة من الحراك، لعدم ثقتها بالأطراف في صنعاء، مطالبة بضمانات دولية للحوار وبالتحاور على أساس طرفين: شمال وجنوب.
مؤتمر الحوار الوطني والقضية الجنوبية
انطلق مؤتمر الحوار الوطني كجزء من آلية انتقال السلطة في اليمن. وتُعدّ القضية الجنوبية أبرز القضايا المطروحة عليه، بينما الحراك الجنوبي، الرافعة المعبّرة عن القضية الجنوبية بشكل مختلف ومتضارب أحياناً، يُجمع على وجود قضية في الجنوب، لكنه يختلف في توصيفها ومطالبها وآفاقها المستقبلية.
وتتجه التكهنات صوب خيار الفيدرالية المتعددة الأقاليم، لشكل السلطة المقبل في اليمن. وهو خيار وضع تحديداً لحل القضية الجنوبية ومعالجة آثارها، طالما أن الحراك الجنوبي لم يقر هدفاً موحداً يسعى لتحقيقه، ولا يستطيع إيجاد قيادة واحدة للتعبير عنه. ولكن، وبالرغم من أن الفيدرالية أصبحت المَخرج السحري لليمن، حيث أنها نموذج إداري تفترض له الفعالية، إلا أن مشكلة الجنوب وبروز الحراك الجنوبي لم يكونا أبداً بسبب مشاكل إدارية. فهل ينجح الحوار الوطني، بعد ستة أشهر من الآن، (إن استمرّ وانتهى كما حُدد له)، في إضفاء جاذبية سياسية واجتماعية وشعبية عامة على هذا الحل؟