عبدالباري طاهر
كتعقيب على “ندوة منحة كارنيجي للسلام” سأتناول آراء المتحدث الثاني في الندوة، الباحث فارع المسلمي، في رده على سؤال مدير الندوة، فردريك ووري، عن نهاية الحرب. يرد المسلمي (قبلاً أستميح الأستاذ فارع المسلمي في تناول آرائه المهمة بقدر من الاقتضاب والتركيز وتجاوز المكرور)، يربط الانفراجة بعدة أمور لو أنجزت. يعود للوراء لتحديد بداية الحرب. يتفق مع الباحثة بودين ومدير الندوة على تحديد بداية الحرب بمارس 2015 و21 سبتمبر 2014 عندما اجتاح الحوثيون صنعاء. يضيف: الزمنان وإن كانا صحيحين إلا أنهما نتيجة طبيعية لنقطتين هامتين:
الأولى: رفع حكومة الوفاق الدعم عن المشتقات النفطية.
والثاني: منح الحصانة غير المشروطة لصالح والعاملين معه، وأن غرض المبادرة كان تأجيل الحرب وليس إنهاءها؛ مما غذى الحرب. قايضت المبادرة العدالة بالأمن، وانتهى الأمر بفقدان كليهما.
صالح سلم الرئاسة ولم يسلم السلطة. القيادة البديلة عاجزة وهشة جداً. هادي لم يلتق بأعضاء حزبه إلا مرة أو مرتين خلال ثلاثة أعوام بينما كان يلتقي أربع مرات مع سفراء الخليج.
يرى أن المبادرة جيدة لكن فيها عاملاً واحداً لم ينتبهوا إليه: فكرة الحصانة غير المشروطة وضعت في الميراث أنه بإمكانك أن تفعل ما تشاء طالما أنك لن تكون مسؤولاً عن أي شيء. لم تكن الأمور تعالج باليمنيين حتى قياداتهم، كان هذا بداية المشكلة. يعتبر العملية السياسية مختلة لكنها عملية سياسية، جاء يوم 21 سبتمبر لينهيها.
إعتبر العملية السياسية المقدمة من الأمم المتحدة لم تشترط تسليم السلاح، كان الحوثيون يمارسون السياسة بيد وبيدهم الأخرى السلاح، وهذه الجماعة الحوثية لا تتقن غير استخدام السلاح، ولن ينتصروا إلا بالحروب، ولم تجرب شيئاً غير الحرب؛ لهذا لن يكون السعوديون قادرين على مقاتلتهم!
السعوديون استفزهم تحالف صالح مع إيران أكثر من تحالف الحوثيين. الحرب السعودية عبارة عن ضرب الغابة لإخراج الأفعى، والغابة مسكونة بـ 21 مليون يمني، والأهم أن الحوثي اليوم ليس أضعف مما كان، وأن إيران ليست أقل أهمية.
لو تخلت إيران عن الحوثيين ربما يصمدون سنة، ربما سنتين أو أكثر، بينما لو تخلت السعودية عن هادي – تقاطعه السفيرة دبودين ربما أربع ساعات- ويوافق المسلمي.
ما أدى إلى هذا الوضع عوامل سياسية منحرفة مهووسة بأمريكا وبالأمم المتحدة، والجميع فشل خاصة المجتمع الدولي الذي فشل في سوريا.
يشبه -ومعه حق- توافق المجتمع الدولي في اليمن بأداء الواجب المدرسي، هناك إجماع عل القضية اليمنية وحكومة ضعيفة، يشير إلى دور “الإخوان المسلمين” في الربيع العربي، جاءوا بفاتورة بالغة الثمن، أردوا الوظائف والسلطة وكل شيء، وأرادوا تقاسم البلد.
ظن السعوديون أن الحرب نزهة نهاية الأسبوع، يعتبر قرار نقل البنك المركزي أخطر من الحرب نفسها، الحروب القصيرة المدى تغير الأنظمة، أما الحروب الطويلة فتغير المجتمعات.
يتوافق مع السفيرة بودين في مقايضة النووي الإيراني باليمن، وأن إيران ليست الخاسرة في اليمن وإنما السعودية، يذكر بدعم الخليجيين والسعوديين لصالح ومجموعاته، والتخوف من “الإخوان المسلمين” حد التشفي باجتياح الحوثيين صنعاء، وربما اعتقدوا أن الحوثيين بعد طرد “الإخوان” من صنعاء سيعودون إلى صعدة، وينتقد -وهو على حق- الدعم الأمريكي أو بالأحرى إطلاق يد السعوديين في الحرب على اليمن، يدعو إلى تحييد الحرب في اليمن عما يجري في المنطقة (وهو المستحيل ذاته). يدين معارضة أمريكا وبريطانيا تشكيل لجنة دولية محايدة ومستقلة تابعة لمفوضية حقوق الإنسان للتحقيق في جرائم الحرب، ويرى تفكيك التحالف، وأن لكل من السعودية والإمارات أجندتها الخاصة.
تناولتُ تحديد البداية في قراءة مداخلة السفيرة بودين. رغم الخلاف في تحديد بداية الحرب فإن المقدمات الخاطئة، والخلل الذي شاب مبادرة التعاون الخليجي، والرغبة المشتركة بين الأطراف الداخلية صالح ومحسن الأحمران ومحازبيهما: “المؤتمر” و”الإصلاح”، ودعم الخليجيين بالمبادرة للقفز على الثورة الشعبية بمباركة أممية، وإعادة إنتاج النظام وتحصينه والمنطقة ضد رياح الثورة الشعبية السلمية؛ هي البداية التي ارتكزت على انقسام السلطة على نفسها، وخروج الجنرال محسن، عدو الثورة الأول أو الثاني لا يهم، فهي بداية البدايات التي حجبت أنوار الثورة الشعبية السلمية، ومثلت كعب أخيل في المسار كله، وبقراءة أوضح قليلاً كانت ثورة الربيع العربي في اليمن 11 فبراير 2011، تؤسس لشرعية جديدة سلمية وديمقراطية شراكة الجنوب.
توافق صالح ومحسن ومحازبيهما: “المؤتمر” و”الإصلاح”، على إعادة اقتسام الحكم، وصياغة مبادرة الخليج بمبادرة دولية. كان الاتفاق تحت ذريعة الخوف من الحرب التي استمرت طبعاً، وكقراءة المسلمي العميقة والدقيقة أيضاً فإن المبادرة لم تنه الحرب وإنما أجلتها، بل غذتها (حد تعبيره)، وبرؤية أوسع وأعمق فقد رأى الباحث أن المبادرة قايضت العدالة بالأمن، وانتهى الأمر -حد تعبيره أيضاً- بفقدانهما.
تذكرنا هذه المقايضة بالتجارب الاشتراكية العربية بصورة أخص التي صادرت الحريات العامة والديمقراطية؛ لصيانة السيادة والاستقلال، واستراداد الأرض المغتصبة، وصادرت حرية الرأي والتعبير مقابل توفير الخبز؛ فضاعت الحرية والخبز معاً، وانتهت السيادة والاستقلال والأرض والحريات العامة والديمقراطية.
ما يجري اليوم في الشمال والجنوب تفاصيل كالحة ودموية لصراعات هذه القوى التي تريد إعادة الاقتسام، وكتابة وثيقتها بالنار والحديد، والخلاص وإلى الأبد من شبح “الثورة الشعبية”.
يشير الباحث -ومعه الحق- إلى عجز الشرعية وهشاشتها، فنجدنا أمام قوى متغلبة ومتحالفة على باطل كل شرعيتها: صالح و”أنصارالله” السلاح ولا شيء غيره، وشرعية تحظى بمساندة إقليمية ودولية، ولكنها مخذولة ومدخولة، أو كما قال السيد المسيح: ماذا يفيدك أن تكسب العالم وتخسر نفسك؟!
صالح و”أنصار الله” شرعيتهم الوحيدة السلاح؛ فحربهما قضية حياة أو موت، ولا يهمهم خراب البلاد والعباد، بينما حرب الشرعية تكتيكية ومدخولة؛ فتعز أهم وأكبر المدن اليمنية محاصرة منذ ما يقرب من عامين، وتقوم الشرعية بحرب تلويح كقراءة الباحثة المهمة ميساء شجاع الدين، أو حرب إعادة اعتبار لجنرالات الحرب، علي محسن وفريقه، كما يجري في جبهات الشرق والشمال والغرب.
يؤكد الباحث أن القضايا لا تعالج باليمنيين وإنما بالأطراف الإقليمية والدولية أيضاً. رهان الشرعية على المجتمع الدولي والتدخل السعودي الإماراتي لا يقل خطورة عن استهانة صالح و”أنصار الله” بالمجتمع الدولي.
يشير الباحث -ومعه كل الحق- أن الحوثيين لا يجيدون غير القتال. والذاكرة الحربية لمناطق عديدة من اليمن متوارثة وتمتد لمئات السنين وهو ما لا تدركه السعودية وحلفاؤها.
يسخر من اعتقاد السعوديين أنهم في نزهة أسبوعية، يدين شأن السفيرة بودين ومقدم الندوة التدخل الأمريكي ودعم الحرب السعودية ضد اليمن.
يؤكد موت العملية السياسية يوم 21 سبتمبر أي يوم اجتياح “أنصار الله” صنعاء. ينتقد عدم اشتراط العملية السياسية نزع السلاح من يد الحوثيين. والواقع أن نزع السلاح قضية القضايا ومشكلة المشاكل كلها؛ فالثورة اليمنية، ومعها الوجود المصري، شجعا تسليح القبائل “المجمهرة” في مواجهة “المميلكين”، ووفرت السعودية الذهب للقبائل المميلكة لشراء السلاح الجمهوري.
عندما رفع “الحزب الاشتراكي” عام 90 شعار مدن خالية من السلاح شنت ضده حملة قاسية لأنه يريد استرقاق القبيلة.
مجلس النواب برئاسة شيخ مشايخ حاشد ورئيس “التجمع اليمني للإصلاح” ونواب “الإصلاح” و”المؤتمر”، وخلال نقاش بضعة أعوام، رفضوا إقرار مشروع قانون يدعو إلى تنظيم حمل السلاح (لاحظوا: تنظيم حمل السلاح). أما في الجنوب فقد أعاد صالح تزويد القبائل والسلفيين بالسلاح وكل أعداء الثورة في الجنوب.
أراد صالح أن تكون القبيلة أقوى من الدولة التي يرأسها، وحرص أن يكون ولاء القوات المسلحة والأمن للقبيلة وليس للوطن، ووضع الدولة تحت رحمة القبيلة؛ فالحديث في اليمن عن الدولة العميقة حديث خرافة يقع فيه الذين لم يقرؤوا التاريخ ولا الواقع؛ فالدولة اليمنية خصوصاً في زمن صالح أقرب ما تكون للقبيلة الكبيرة، أما في زمن الانقلاب الثاني: صالح و”أنصار الله”، فهو تحالف: قبلي، سلالي، جهوي، طائفي، بل هي القبيلة ومليشياتها ضد المدن، وضد الحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي وحقوق الإنسان.
إشارته الذكية إلى “الإخوان المسلمين” الذين أرادوا الاستيلاء على الثروة والسلطة، واقتسام البلد صائبة؛ فهم الطرف الثاني مع محسن وفرقته في الانقلاب الأول على الثورة الشعبية السلمية، وطرف أساس أيضاً، إلى جانب صالح و”أنصار الله” في عرقلة التوافق وعرقلة الحل السياسي.
قضية نقل البنك المركزي التي اعتبرها أخطر من الحرب جاءت في سياق الخنق الاقتصادي بعد العجز عن الحسم العسكري، ولكنها في المحصلة خنق للشعب الفقير والجائع، ولا يتضرر منها صالح و”أنصار الله” اللذان لا يهمهما حياة الناس وأمنهم واستقرارهم شأن أشقائهم: “الشرعية”! يريد منها الطرفان التباعد عن الحل السياسي، واستمرار الحرب المورد الذي لا ينضب والتجارة التي لا تبور.
دعوته لتحييد الحرب بعيداً عن صراع المنطقة غير واقعي، صحيح أن اليمن في هامش الصراع وليس في متن ما يجري في العراق وسوريا وليبيا لكن الطابع الإقليمي والعولمي للصراع، واجتثاث جذور ثورة الربيع العربي تفرض أو تقتضي إعادة صياغة المنطقة كلها.
يتفرد بإدانة الموقف الأمريكي البريطاني، رفض تشكيل لجنة دولية محايدة ومستقلة تابعة للمجلس الأعلى لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والراعب أن “الشرعية” هي من ناضل ببسالة منقطعة النظير لرفض تشكيل هذه اللجنة، والموقف هنا لا يختلف عن مواقف الدول الاستعمارية من قضية فلسطين لصالح الاستيطان الإسرائيلي، وتواطؤ بعض الأنظمة العربية.
الأطراف الداخلية المدموغون بالحرب كتجار حروب، و”التحالف” بقيادة السعودية ضالعون في جرائم الحرب وضد الانسانية، والتحقيق الدولي المستقل سيكشف تورط الجميع في هذه الجرائم.
ختاماً:
في مطلع القرن الواحد والعشرين يتزايد الميل لليمين، خصوصاً في أمريكا وأوروبا، وتبرز ملامح تشكل أقطاب دولية قديمة جديدة تصوغ تحالفات لإمبراطوريات قديمة، تكون المنطقة العربية ميداناً للتنافس والصراع، كما كان الحال عقب الحربين الكونيتين، كان من ثمارها المرة الحرب الباردة، وسباق التسلح، واثنان وعشرون دولة موتت حلم الوحدة العربية، وقمعت الحريات العامة والديمقراطية، وصادرت حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان، وأعاقت التنمية والبناء والتحديث، ثم فرطت في التراب الوطني، وأهالت التراب على السيادة والاستقلال.
في خاتمة القرن العشرين الاستبداد الداخلي استدعى العدو الأجنبي لتدمير الكيانات القومية والقوة العسكرية، ودمر أيضاً مدن الحضارات العالمية الممتدة لآلاف السنين: العراق، نينوى، سامراء، حلب، دمشق، ليبيا، وتهدد: عدن، وتعز، وصنعاء، فماذا ننتظر بعد وأد الربيع العربي في سوريا، وليبيا، واليمن، والبحرين؟!
ماذا ننتظر غير العودة غير الحميدة للمكونات الأولى لمجتمعات ما قبل الدولة، وتدمير ما تبقى من قوة عربية، وشفط الثروات والنفط العربي، ويشارك الحكام العرب جلهم في هذه الجرائم.