المجالس التشريعية منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أنها لم تعرف الانتخابات التنافسية القائمة على برامج انتخابية معلنة إلا في نيسان/إبريل 1993، بعد إقرار حق التعددية الحزبية في البلاد ضمن بنود أول دستور لدولة الوحدة المقر في العام 1991.
قبل أشهر، اغتيل د.عبد الكريم جدبان عضو البرلمان اليمني، وأعلن النائب عبده بشر، رئيس كتلة الأحرار استقالته من البرلمان إن لم يتم، وبأسرع وقت ممكن، التحقيق المحايد والعاجل في اغتيال عضو الكتلة جدبان. وهذه ليست أول استقالة لعضو برلمان اليمن الحالي، فقد سبقته استقالات عدة خلال أطول فترة نيابية شهدها برلمان يمني منذ بداياته.
فالبرلمان الحالي تم انتخابه في نيسان/إبريل 2003، وكان يفترض إجراء الانتخابات التالية لها عام 2007. إلا أن تمديد فترة البرلمان إلى ست سنوات بدلا من أربع، خلال تعديلات دستورية واكبت الانتخابات الرئاسية في العام 2006، أجلت الانتخابات إلى 2009، ليشهد ذلك العام اتفاقا سياسياً بين حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم (حينها) وبين تكتل أحزاب اللقاء المشترك المعارض (حينها)، قضى بتأجيل الانتخابات حتى 2011. وهو ما حال دونه خروج الشباب ضد نظام صالح في شباط/فبراير من ذلك العام فتغير المشهد السياسي برمته.
ديموقراطية تحت التجربة
عندما أَقر دستور دولة الوحدة اليمنية التعددية السياسية والانتخابات الحرة المباشرة، لم تستوعب الكثير من القوى والزعامات القبلية والدينية أن يجري أمر كهذا في بلدها، وسرعان ما ارتفعت نداءات بعض هؤلاء لتعتبر الديموقراطية كفراً بواحاً لتَعارضها مع مبدأ الحاكمية، وإخراجها لأهل الحل والعقد المنوط بهم توجيه أمور البلاد من دائرة التأثير أو احتكار التأثير، وإتاحة هذا الدور لأفراد تفرزهم اختيارات شعب جاهل لا يدرك مصلحته، كما يرون أو يروجون.
كما أن بعض الأحزاب السياسية التي تغنت بهذا البذخ الديموقراطي الجديد لليمن كانت في السر تعمل على التشكيك في قدرة الناس على التعامل معه، وتشيع أنه بذرة التفرقة وتقسيم البلاد، لأن الحزبية مفتاح الصراع الذي قد يتسع لدرجة عدم القدرة على التحكم بنتائجه.
لم يخب ظن هؤلاء كثيراً. فمع أن هناك تذمراً شعبياً واسعاً من سيطرة المشايخ على مواطني قبائلهم، فإن أكثر من 50 في المئة من أعضاء البرلمان اليمني الحالي المكون من 301 عضوا هم من المشايخ وأبنائهم. ويكفي أن محافظة عمران (50 كم شمال العاصمة صنعاء) تتكون من 7 دوائر انتخابية يشغلها 7 مشايخ.
وباعتبار هذا النفوذ الواضح لمشايخ القبائل، فإن الأحزاب السياسية بدلا من عملها على التنافس القائم على البرامج الانتخابية للفوز بمقعد دائرة ما، تتنافس على استقطاب شيخ القبيلة إلى صفها، ومن ثم ترشيحه باسم الحزب الذي فاز بالشيخ!
مجلس واحد ومضى
لا زال اليمنيون يتذكرون برلمان 1993، أول بواكير الديموقراطية الوليدة، في ظل أكثر مراحل التوازن السياسي التي شهدتها اليمن. فعلى الرغم من فوز المؤتمر الشعبي العام بالمركز الأول، إلا أن حزبي الإصلاح (الإسلامي) والاشتراكي اليمني حصلا على عدد من المقاعد أهلهما للدخول في ائتلاف حكومي مع حزب المؤتمر.
لم يتمكن الأخير من حصد الفوز الكاسح إلا في العام 2003، لتصبح مشاركة بعض الأحزاب له في البرلمان هامشية وفاقدة الفعالية تقريباً. وكان منصب رئيس البرلمان لا يزال من حصة الجنوب حينها، وشغله الدكتور ياسين سعيد نعمان أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني حالياً.
كما أن برلمان 1993 ضم في قوامه امرأتين لم يتبق منهما في البرلمان الحالي سوى واحدة ليقول أحدهم عن عدد أعضائه “300 وواحدة” في سخرية من ضعف مشاركة المرأة في مقاعده رغم أنها تشكل قرابة نصف الأصوات الانتخابية التي حصل عليها أعضاؤه.
برلمان حزب المؤتمر
في انتخابات العام 2003 حصد حزب المؤتمر الشعبي 238 مقعداً برلمانياً من إجمالي الـ 301 مقعد ـ بعضهم انضموا إليه بعد انتهاء الانتخابات – سواء بالنفوذ الذي منحته إياه السلطة أو بالغش كما يتهمه معارضوه. لكنها نسبة فوز غير مسبوقة خلال ثلاثة انتخابات برلمانية حزبية شهدتها اليمن، ولم يحصل أقوى حزب إسلامي (الإصلاح) وصاحب المركز الثاني إلا على 46 مقعدا بتراجع مقدراه 10 مقاعد عن انتخابات 1993.
كما أن الحزب الاشتراكي اليمني، بعد تعرضه لعملية إقصاء شديدة القسوة، ومقاطعته لانتخابات 1997، لم يحصد سوى 8 مقاعد، كثالث حزب في البرلمان، وبتراجع مقداره 40 مقعدا عن انتخابات 1993. وبهذا مارس حزب المؤتمر شبه المتفرد بالقرارات البرلمانية منذ 2003 السياسات التي رغب بها من دون أي قلق من الكتل البرلمانية ضعيفة المنافسة.
برلمان متعصب لأعضائه
البرلمان اليمني المعمِّر معلوم عنه غضبه لأي أمر يمسه، أو يمس أحد أعضائه بخطر حقيقي. فهو هنا ينسى الحزبية ويتعامل كقوة واحدة. فقد وقف للمطالبة بمحاكمة كاتب صحافي تناوله بالنقد، رغم كونه مؤسسة تدّعي دعم حرية الرأي والتعبير.كما أنه هدد أكثر من مرة بسحب الثقة من الحكومة ـ ولم ينفذ أياً من تهديداته ـ آخرها مذكرة رفعها قبل أسابيع لرئيس الجمهورية بهذا الشأن بعد تعرض أحد أعضائه للاغتيال… رغم عشرات حوادث الاغتيالات التي عمت البلاد ورغم كل الكوارث التي حلت بالبلد.
كما ناضل البرلمان طويلا من أجل إقرار قانون يعامل عضو البرلمان بموجبه كوزير كامل الدسم وإلى الأبد أيضاً. وفي أحلك الأزمات التي مرت بها البلاد، ونزاعه مع الحكومة حول موازنة مصلحة شؤون القبائل التي عارضها البرلمان (كون موارد البلاد لا تسمح)، ودعوته لسياسة التقشف، كشفت هيئة الظل الشعبية مؤخرا عن صرف الحكومة في العام 2012 قرابة 15 ألف دولار لكل برلماني لشراء سيارات، وكأنما تم انتخاب البرلمان للدفاع عن مصالح أعضائه.
يقرأ ويكتب، ويؤجل
لا زالت شروط الترشح لعضوية البرلمان اليمني إرثاً جاهلياً كما يبدو، يعكس نفوذ القوى التقليدية. فليس بحاجة لأكثر من أن تكون يمنياً لا يقل عمرك عن 25 عاماً، ولم يسبق الحكم عليك في قضية مخلة بالشرف، وقادر على القراءة والكتابة، لتنافس أستاذاً جامعياً على مقعد برلماني وتفوز به على الأرجح. فقد حدث أن تمت عرقلة ترشح أساتذة جامعات من قبل بعض الأحزاب لمصلحة بعض المشايخ أو رجال الأعمال.
لهذا فقرارات البرلمان الحالي في معظمها تخضع لاجتهادات الأعضاء المتواضعة، ليصل الأمر بأحد النواب أن يقاطع وكيلة وزارة التربية وهي تتحدث عن محو الأمية ويتحدث عن “نحو الأمية” من دون أن يدرك الفرق بين هذه وتلك. لهذا وبعد سنوات من الجهد، لم يزل قانون الصحافة والمطبوعات الحالي في أدراج البرلمان، رغم مناصرة بعض الأعضاء له ومشاركتهم في صياغته. كما تعثرت قوانين عدة، أو خرجت مشوهة ناقصة من تحت قبة البرلمان عندما يتعلق الأمر بأي مفهوم خاطئ أو مصلحة غائمة لأحد أو لكل أعضائه.
ويتحرك بعض أعضاء البرلمان بترسانة أسلحة حية، ويهدد بعضهم مسؤولين أو سياسيين بالسلاح.
لهذا فشل البرلمان في مجرد مناقشة قانون جاد لمنع حمل السلاح، وما هو قائم لا يفرق جوهرياً بين تنظيم/ منع حمل السلاح أو الألعاب النارية. من جانب آخر، ولأن معظم أعضاء البرلمان مالكي عقارات مؤجرة، فلم يقر قانون المؤجر والمستأجر المنتظر.
ولأنه برلمان يقرأ ويكتب، فقد عرقل حتى قانون زواج الصغيرات، لأسباب دينية في الظاهر، لكن في الواقع فإن الكثير من البرلمانيين هم من المتزوجين بأكثر من امرأة، وقد يكون بعضهن من القاصرات. وعلى صعيد آخر، فلم يعترض أعضاء البرلمان على تمديد فترته ثلاث مرات، لكنهم يعترضون على من يعترض على التمديد.وهم على أية حال يتعاملون مع الأمر بكيفية واستنساب.
فقبل أشهر، كاد البرلمان والأحزاب المتصارعة فيه – بعد خروج عدد من أعضاء حزب المؤتمر عن حزبهم (الحاكم سابقاً) وتكوينهم لثلاث كتل برلمانية جديدة ـ أن يُدخل البلد المأزوم في دوامة أزمة جديدة، في تقليعة تجاذب سياسي غير عقلاني. فبينما يبارك البرلمانيون التمديد لمجلسهم فإن بعضهم رأى أن هيئة رئاسة المجلس غير شرعية، ويجب إعادة انتخابها، في محاولة لإزاحة حزب المؤتمر من رئاسة المجلس، آخر قلاعه كحزب في التأثير على مسار العمل السياسي.
يلوح في الأفق أخطبوط الحوار الوطني ليبسط أذرعه على البرلمان برمته في مقترح لتحويل أعضاء مؤتمر الحوار إلى جمعية تأسيسية تقوم بأعمال مجلسي النواب (البرلمان) والشورى حتى انتهاء مرحلة الانتقال السياسي للبلاد، وبعد تعذر انتهاء الحوار في موعده.