ليست مجرد قصة حب, إنها تمرد محبة,إنها خيط روميو وجوليت في نسخة عربية أشد نضالا,وشعبية,وعبورا لجدران الجغرافيا السياسية.

هدى فتاة سعودية ,وعرفات شاب يمني ,طارت بينهما رسل الهوى فوقعا عاشقين ,في بلد العشق فيه بمثابة جريمة كاملة الأركان تستحق العقاب الأقسى ,فالسعودية مملكة مغلقة عاطفيا ,ولا تتمتع المرأة حتى بحق بديهي كقيادة السيارة,أما إن كان المحبوب يمنيا فالأمر أشد خطورة مما يمكن تصوره.

عمل عرفات في محل لبيع الهواتف النقالة كمئات الآلاف من اليمنيين العاملين في السعودية,ذلك الشاب كان على موعد غير متوقع مع إحدى عميلات محله التي تحولت لاحقا إلى حبيبة كاملة الغرام,لكن تقدمه لخطبتها بطريقة رسمية لم يكن ليواجه بأكثر من الرفض وعقاب الفتاة,و محاولة إرغامها على الزواج من أحد أقربائها لإبعادها عن كارثة عشق الشاب اليمني.

لم تجر الأمور على هوى أسرة الفتاة,فقد بلغ حب الطرفين لبعضهما مداه الذي دفعهما لمخاطرة الهرب خارج حدود السعودية باتجاه اليمن مع ما يعنيه ذلك من احتمالات الوقوع تحت قبضة الأمن السعودي أو اليمني لدخول اليمن بطريقة غير شرعية,ومع ما يمكن أن يصيب هدى تحديدا لو تم إعادتها لأسرتها بعد هكذا مجازفة قد يكون ثمنها الموت المحقق.

نداء الاستغاثة الأسطوري:

نجح الحبيبان في الوصول إلى اليمن ,ونجحت سلطات المملكة بطلب السلطات اليمنية إعادة فتاتها (المخطوفة) كما ادعت أسرتها ,وهو ادعاء يصاحب دائما فرار الفتيات خوفا من إلحاق العار بأسرهن نتيجة هجرتهن إلى من عشقن ,خارج إطار المسموح به بالطبع.

ولأن المملكة هي صاحبة الطلب فإن الأمن اليمني قام باحتجاز هدى في مصلحة الهجرة والجوازات بتهمة دخول البلاد بطريقة غير شرعية ,فلم تكن هناك من تهمة أخرى,أما عرفات فتهمته طبعا(الاختطاف) لفتاة سعودية ,لولا أن الفتاة أنكرت اختطافها ,وأقرت بفرارها معه راغبة وبكامل المسئولية,فسقطت التهمة عنه.

هذه المرة كانت هدى على علم بوتر حساس للغاية في الذات اليمنية ,فوجهت نداءها عبر وسائل الإعلام ,بعد اهتمامها بالموضوع ,نداء مختصر في جملة واحدة”أنا بوجوهكم يا أهل اليمن”.

هذا النداء يلامس تماما الأعصاب الحسية للكرامة لدى اليمنيين الذين يحتفظون بموروث قبلي يستدعي إغاثة وحماية كل من قال لك “أنا بوجهك” ولو كلفك ذلك حياتك. وكان النداء اكثر قابلية للاستجابة لانه مثل ايضا معركة سياسية خاضها اليمنيين مع جارتهم التي هم غير متناغمين معها والرافضين لسياستها الرسمية والدينية تجاه بلادهم.

ولاستغاثة المرأة تأثير مضاعف بالطبع,أما أن تكون سعودية ويتزامن نداؤها مع ترحيل السعودية عشرات الآلاف من اليمنيين من أراضيها بتهمة مخالفة قانون العمل ,المبرر الذي لم يقنع اليمنيين ,فذلك صب في مصلحة الفتاة بطريقة درامية,فقبل جلسات محاكمة الفتاة لدخولها البلاد بطريقة غير شرعية,فاضت مواقع التواصل الاجتماعي بآلاف التعليقات المناصرة للفتاة ,المؤكدة لخروج اليمنيين للتظاهر أمام المحكمة ومنعها من الحكم بإعادة هدى إلى المملكة,لدرجة تأجيل إحدى الجلسات لشدة تدافع الحشود خارج المحكمة.

إن لم تكن مناصرة الفتاة إيمانا بالحب كقيمة إنسانية راقية ضحى من أجلها الحبيبان,فلأن المملكة لا يجب أن تنجح بهزيمة الكرامة اليمنية ,ولا أن تفرض رغبتها على القضاء اليمني هذه المرة,كان الحكم الذي حظي بتغطية إعلامية غير مسبوقة مرجحا لكفة الحب ,وجريئا بما يكفي ليقول لا لرغبة الرياض ,بل اعتبره البعض بمثابة بيان استقلال للقرار اليمني المقيد بعقال الرياض المغمس بالنفط.

تأييد دولي لهدى:

بموجب حكم القضاء اليمني تم الاكتفاء بفترة احتجاز الفتاة كعقوبة لدخولها البلاد بطريقة غير مشروع,وأيضا حقها في التقدم لطلب اللجوء إلى السلطات المختصة,بعد أن عبرت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة عن قلقها من سوء تعامل سلطات الهجرة اليمنية مع هدى,بما قد يعرضها للخطر ,وأيدت تضامنها معها للحصول على حق اللجوء.

غداة النطق بالحكم ,تبرع عدد من اليمنيين ماديا وعينيا لصالح الحبيبين ,لتمكينهما من الزواج ببعضهما ,فتبرع البعض بعدة آلاف من الدولارات ,وآخر بشقة سكنية,وهكذا احتفت المواقع الاجتماعية اليمنية بصورة ذلك اليمني الكهل الذي ساند الحب بتوفير شقة لإيوائه كبطل حقيقي.

أما رواد هذه المواقع على الجهة الأخرى من الحدود ,وبعد فترة من الصمت الواثق بالانتصار كما يبدو والثقة بقدرة الرياض على تأديب فتاتها ,والشاب الذي تجرأ على حبها بكل هذه الدرجة من العلنية والاستماتة,فقد دونوا تعليقات تشير إلى أن اللجوء لليمن ليس أمرا يحتفى به ,فاليمن ليست اسكندنافيا.

جدران الفصل الملكي:

في المملكة يعد زواج الأجنبي بسعودية واحدة من الأمور المعقدة للغاية,رغم ارتفاع درجة العنوسة ,وفي ظل تعدد الزوجات أيضا,فهناك نظرة عمرها عقود تفسر كل طلب زواج بفتاة سعودية بطريقة ملخصة ومكررة”يطمع بالجنسية/الإقامة/الثروة” ,أما الدين ,والحب والإنسانية فأمور ضئيلة التأثير في هكذا مواضيع,لا ترقى حتى إلى حكم التدخين.

لكل ما سبق ربما كان دافع اليمنيين لمناصرة هدى وعرفات بهذا القدر رسالة أخلاقية وإنسانية ,بأننا نحترم المرأة وندافع عنها, ونرفض هيمنتكم على عواطفنا ,ونتعامل بكرم رغم فقرنا,وأصبح لدينا سيادة لا تطالها ضغوطكم الممقوتة.

في حائطه على الفيسبوك علق الكاتب والشاعر اليمني الشهير عبدالكريم الرازحي الذي ناصر حب هدى وعرفات بشدة وبعد انتصار قضيتهما عن جاره(رمزا للسعودية): “نفكر نحن بعقل الجسور. يفكر دوما بعقل الجدار.”

كل السرد اعلاه ، لا يقترح بالضرورة ان اليمنيين شعب رومانسي بالمقابل ، ابداً فذلك قد يكون استنتاج مرتفعة درجة خطأه.  ذلك انه من الصعب تخيل نفس الموقف من المجتمع اليمني اذا مافرت فتاة يمنية مع حتى فتى يمني. على الارجح ، ستجن عشيرتها وتتبرئ منها في احسن الاحوال.

لكنها السياسة والسيادة ، حينما يصبح حماية الحب احد وسائل  الدفاع عنها.

نشر هذا المقال في Al-Monitor

10