تستهويني كثيراً الجلسات الطويلة مع والدي، خاصة تلك التي تستمر حتى الفجر. نحكي كثيراً عن الناس والحياة، نرمم ذاكرة بعضنا حول حدث ما، نصدر بعض الأحكام حول تلك القصص الإنسانية التي لم نتناولها من قبل، يمد كل منا الآخر بجديد محيطه، ونتبادل النكات والخطط الحازمة، تلك التي تجعلنا نحس وكأننا على وشك السيطرة على العالم.
سواء في القرية او المدينة، نظل نتحدث حتى بعد ان ينام جميع من في البيت، ونتخلى عن الرسميات الاجتماعية فاخلع رداء “الابن المتمرد” ويخلع رداء “الاب الصارم” ، وننادي لبعض – حينما يحتد النقاش- ب “ياخي”.
نتجادل كثيراً، ارتبك واخسر فأفر إلى اقتباسات لأسماء عجيبة في كتبي لا يعرف من هي، فما يلبث أن يتحدث بحزم وثقة المنتصر قائلاً: “لا تتفلسف”!
هذه الـ”لا تتفلسف” تعني بوضوح إعترف بالهزيمة، ولا تكابر، لقد وقعت يا فتى.
يعلم أني قد خسرت أمام حكمته، ولكنه يعلم أني لن أعترف له بذلك، فيقهقه مذكراً إياي بفارق العمر بيني وبينه بالقول “أنا أبوك، ولدت قبلك!!”، مستمتعاً بقدرته على إفحام فتى العالم المدلل، إضافة إلى احتفاظ ذاكرته بأوسع أرشيف ممكن للـ”حماقات” التي ارتكبها هذا الفتى، بدءا من رؤيته وجه العالم عبر نافذة السوق الأسبوعي، ثم المدرسة وعقوباتها الأسطورية التي لم ينج منها، وانتهاء بهذا الحديث الذي سيفتح له مجلدا خاصا في أرشيفه المتراكم، الذي يضيف إليه دائما لكنه لا يحذف منه لسوء الحظ.
أيام الدراسة، حفظت اسمه في تلفوني باسم “الرازم” (الرازم مصطلح يمني للتعبير عن شدة الضغط من شخص ما، أو الكابوس الليلي المرعب)، وبعدها باسم “المباحث” فالرازم كان يهجم أكثر من مرة وفتاه في وضع تلبّس، ولا يحاول أن يخفف من وقعته بل يصر على الضغط الكامل بما لا يترك مجالا لأخذ النفس والتأهب للمواجهة.
كان عادة يحضر الى المدرسة أكثر مني أنا، في ما كان يسميه مجازاً ب “زيارات مفاجئة ونادرة لولي الأمر”، لدرجة أني كنت امزح مع إخوتي أن والدنا هذا الشهر لن يحصل على درجات المحصلة لأنه غائب 4 أيام.
خلافا للزيارات السارة لولي الأمر لمدرسة صغيره، فأبي عوضا عن ذلك لم يكن ليجد حرجاً في أن يعبر عن غضبه من إحرازي للمرتبة الثانية بدلاً عن الأولى في الرابع الابتدائي – وأنا أتعلم في المدرسة التي بناها وتعلم، ثم علّم فيها، وكان حينها لا يزال يديرها – إلا بربطي بجوار بقرته المفضلة لمدة يوم كامل.
وحينما حاولت أمي أن تشفع لي وقت الظهيرة، أجابها قائلاً وبتلقائية مفرطة أنه “لا يعاقبني، بل يعاقب البقرة بي”. وهي عقوبة لا يزال يعبر لي دوماً عن ندمه لعدم تأجيلها لي حتى الآن. في المقابل، كنت انسى تلك العقوبات واخواتها حينما احرز مرتبة الاول واحظى بجائزتي السنوية المهيبة المتمثلة بكرتون من شوكولاتة السندباد.
لم يكن حازما بخصوص التعليم معي وحدي، وان كنت قد نلت القسط الأوفر من عقاب الإهمال. يحز على قلبه انه لم يستطع مواصلة تعليمه بعد مرحلة القراءة والكتابة، مع انه أدار مدرسة بقدرات استثنائية.
ولذلك اهتم بتعليم أشقاءه وأبناءه منذ عقود. أرسل إخوته إلى المدينة للدراسة ، ” وكان يبيع ابن الماعز او العجل بمجرد ان يكبر ليرسل ثمنه لاخوته التلامذة في المدينة وهو يردد “العلم تجارة لا تبور”.
منذ تخرجي من الجامعة، غيرت اسمه (على الهاتف) إلى “المباحث”، لأنه يطرح علي دائما أسئلة متعلقة بي شخصياً ولا أملك لها إجابات، بل لم أسأل نفسي هذه الأسئلة من قبل، وبالتالي ظلت تمثل المسكوت عنه، أو الثقب الأسود في فضائي الضيق. ولم تخترقه أية مركبة مفاهيمية من قبل، ليأتي رائد هذا الفضاء الخاص ويحيله إلى مسار مألوف بجملة واحدة ودون أي اختبارات مسبقة لضمان البقاء في مسارات التحليق الآمن.
أسئلة من ذلك النوع الصعب والمتعلقة بخطط الماجستير والمستقبل ،الخ.
آخر لقاء مطول اكتفى بالقليل من الأسئلة، ثم قال “شكلك مرتاح هذي المرة”.
فأجبت نعم، في السفر الى الخارج ابتعد عن القات وأخفف التدخين، محاولا تمرير الأخيرة كخبر سار مع انه أصلا خبرا جديدا وسيئا بالنسبة له. صمت بغضب مستسلما لمحاولتي في “حلْب” سعادته عني، فأحيانا وفي أوقات نادرة يسمح بتمرير هكذا ركلات دون إطلاق أي صفارة، أو رفع راية جانبية حتى.
قبل أسابيع كان منتعشاً عبر الهات،فومعبرا عن رضاه لما حدث مؤخرا من أنشطة متعلقة بي ، فحاولت إعادة تسجيل مزحة ثقيلة – مدعيا – أني أغبطه على “أولاده” وأنني شخصياً أحس بالشفقة على أولادي من بعدي كون “أولاده” وضعوا لهم سقفاً استثنائيا ومهولاً.
لكنه صدها بمقولته التاريخية التي فحواها إنني هدف تسلل اصلاً، متحديأ إياي أن اكتب إليه بخط يدي، ليتأكد إن كان خطي قد تغير منذ الابتدائية.
هنا تحديدا أمقت التاريخ وأرشفته لهفواتنا التي ننساها فتلحق بنا قسرا، لنسقط من ذروة تخيلنا الوصول إليها إلى سفح الفصل الدراسي الذي لا يموت، ولا يسمح بالتزوير، لأن شهود العيان يمتلكون الإرادة الكافية، بل والفائضة ربما لإبقائه حيا، لأضحك بعمق متسائلا عما إذا كان للقيادات السياسية أرشيفا شعبيا بهذه اليقظة، هل ستحرص على الوصول إلى المناصب القيادية العليا كما يحدث، وهل سيصل أي حزب سياسي إلى مقاعد البرلمان بهذه الأريحية المطلقة، وماذا عن احتفال النجوم بأعياد ميلادهم المثبتة قسريا على عقد العشرينات. هنا أقهقه وأنسى ركام حصتَي الخط والإملاء، وذاكرة أبي.
كلما اعتقدت بتجاوز مرحلة الوصاية، وصعودي هذا السلم الزمني الطويل بمقياس التجربة، أتذكر أنه فعلا “أكبر مني،”ويصعد درجات أخرى لا يمكن سد فجوتها بالتوازي مع صعودي درجات أدنى، ولا يمكنني – كأي ابن تجاه أي أب- تجاهل إضافاتها من الخبرات والتجارب العميقة التي أتعلم منها بمجرد استحضارها الذهني.
أهي الأرض ومزارعها؟ أيمنح قرب المرء منها كل هذه الحكمة والذكاء الاجتماعي؟ ربما، لأن كل ما وجدته في الكتب والجامعات لا يمنح شيء من الحكمة التي يملكها هو، حتى عن أمور لا علاقة له بها في العادة. من المستحيل تقريبا أن اطلب مشورة احدهم في بيروت عن أمر يتعلق بالقرية، لكني استنجد بحكمته في أمور تتعلق ببيروت وواشنطن وغيرهما.
أتذكر كيف علمني أن أميز بين النساء، كيف أضرب على الطاولة، وكيف أكون قوياً بالصراخ حيناً وبالبكاء حيناً آخر، وأن أهتم بقريباتي، وألا أنهي الحديث أولاً، و الأهم كيف أصعد جبلاً أسرع من هبوطي من ذروته.
هذا الرجل (الأكبر مني)، لم يمنحني خبرة مصيرية يمكن باكتسابها منافسة وسامته التي لا زالت تجذب انتباه صديقاتي، وتدفعهن للتعبير عن إعجابهن، وهو أمر اغار منه. إنها عشوائية الجينات الوراثية كما يبدو، أو أنه فعلا أكبر مني أكثر من اللازم لدرجة خوضه حياة غير مرئية منحته كل هذا الألق الذي انزلق من كروموسومات الوسامة والفراسة والفطنة، فلم أنل منها ما أريد.
(أكبر مني ) صغيرة يا رجل لتوضيح البون، فطالما بدوت لنفسي حكيما لأكتشف كم أنا طائش ومتهور فقط في حضرتك، لأن الأشياء تعبر عن نفسها بدون لغة ولا شهادات اعتماد. أعترف دون تمرير أي ركلات، ودون صد أي ضربات جزاء بالمقابل… أكبر بلا مقارنة، أكبر بلا حدود.