سيطرت جماعة الحوثيّين المسلّحة على مقاليد السلطة في العاصمة اليمنيّة صنعاء في أواخر سبتمبر المنصرم، بطريقة استدعت إلى الذّاكرة سيطرة “حزب الله” اللبنانيّة على العاصمة اللبنانية – بيروت في أحداث أيّار 2008. ولقد عزّز ذلك المقارنة النمطيّة المتصاعدة بين “حزب الله” والحوثيّين، لكن في الحقيقة، رغم كلّ هذه التّشابهات البارزة للوهلة الأولى بينهما، فإنّ المقارنة بينهما لم تزل شكليّة ترتكز على الخطاب الإيديولوجيّ وبعض آليّات تحقيق الأهداف السياسيّة، إلاّ أنّ هناك فوارق بنيويّة وهيكليّة وسياسيّة واجتماعيّة عميقة بين “حزب الله” في لبنان والحوثيّين (أنصار الله) في اليمن.
والأهمّ من ذلك كلّه، لا يمكن لأيّ مقارنة بين الطرفين تجاهل عامل مهمّ وفارق جوهريّ في التّركيبة السياسيّة والإجتماعيّة بين اليمن ولبنان، إذ أنّ الطوائف هي التّعريف الأهمّ والفاصل في تقاسيم المجتمع اللبنانيّ، بينما الطائفيّة في اليمن تتداخل مع الجهويّة وتكرّسها، وما حدث في اليمن أوجد شرخاً وطنيّاً ومناطقيّاً وليس طائفيّاً فقط، بتكريسه للمفهوم العامّ أنّ السلطة والصراع عليها لا يزال مركزهما شمال الشمال المهيمن تاريخيّاً، الذي تراجعت حدّة تناوله، خصوصاً بعد تولّي الرّئيس هادي مقاليد الرئاسة. وبمعنى آخر أيضاً، فإنّ “حزب الله” انبثق من تركيبة طائفيّة قائمة لبنانيّاً، بينما الحوثيّون أحيوا نزعة طائفيّة كادت أن تنقرض يمنيّاً. وعلى أيّ حال، فالجهويّة، لا الطائفيّة لا تزال الأكثر حسماً في اليمن حتّى الآن.
كما أنّ مقارنة ما حدث في صنعاء في 21 سبتمبر بما حدث في بيروت في عام 2008، تعدّ مقارنة ضحلة ومضلّلة، ذلك أنّ الاتّفاق النّاتج من أيّار 2008 عمل على إنهاء الاحتقان السياسيّ الوليد لحظتها، وزاد من مسؤوليّات “حزب الله” كلاعب سياسيّ ضمن لاعبين آخرين، وعمل على تحقيق السلم الأهليّ. وفي نهاية المطاف، أدّى إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة في لبنان. أمّا في اليمن فكانت نتيجة سيطرة الحوثيّين عليها (صنعاء)، تخلّيهم عن اتفاقيّات السلم مع الأطراف الأخرى، وإنهاء آخر شرعيّة سياسيّة لرئاسة الجمهوريّة وكسر هيبة الدولة وتزايد ممارسات الحوثيّين كلاعب أقوى من دون تزايد مسؤوليّاتهم بالتوازي. وبينما حقّق اتّفاق الدوحة في عام 2008 نوعاً من السلام الإجتماعيّ والسياسيّ في لبنان، فإنّ اتفاقيّة السلم والشراكة في اليمن فتحت الباب أمام أنواع وأشكال جديدة من العنف الطائفيّ والمناطقيّ الذي لم تشهده اليمن من قبل. ويتنامى ذلك مع إصرار الحوثيّين على ممارسة دور الدولة تجاه جماعات مسلّحة أخرى، ممّا عزّز بدوره الشرعيّة الإجتماعيّة للجماعات المسلّحة، بما فيها القاعدة لأنّها انطلقت من حيثيّات طائفيّة مضادّة تجاه الحوثيّين. وبمعنى آخر، لقد بدأت مبرّرات طائفيّة تنشئ لحروب لم تكن طائفيّة أبداً.
يحاول الحوثيّون الاستفادة من تجارب “حزب الله”، فتبثّ قناة “المسيرة” من الضاحية في بيروت بدعم فنيّ من الحزب. وأخيراً، تعمّقت علاقات الطرفين، توازياً مع تكرار اتّهامات الدولة اليمنيّة لإيران بدعم الحوثيّين، ووضع أميركا لقائمة عقوبات جديدة ضدّ لبنانيّين ف آب/أغسطس 2013 قالت إنّهم صرفوا أموالاً للحوثيّين في اليمن. ولا ينكر الحوثيّون عادة هذا الرّابط القويّ مع “حزب الله”، ويعزّز ذلك من الاعتقاد بوجود قواسم بين الطرفين كوقوفهما في التّحالف الإقليميّ نفسه (طهران) على الصعيد السياسيّ. كما أنّهما في الوقت نفسه لهما ميليشيات مسلّحة تسند موقفهما السياسيّ وتفرضه حينما يلزم الأمر، إلاّ أنّ الميليشيات بالنّسبة إلى الحوثيّين هي الأداة الأبرزهذا إن لم تكن الحصرية – لا الاستثنائيّة – كما هي بالنّسبة إلى “حزب الله”.
وفي نظرة أعمق للواقع، نجد أنّ أغلب المقارنات التشبيهيّة لا تتجاوز ذلك التّسطيح الشكليّ الإخباريّ الجارف في وسائل الإعلام العالميّة والإقليميّة، والذي يظلّل أكثر ممّا يفسّر عند تغطية الأحداث في اليمن، فمن ناحية جيو – استراتيجيّة مثلاً يشكّل “حزب الله” حليفاً قويّاً لإيران ويخوض صراعاً مباشراً مع أعدائها التقليديّين كالسعوديّة، بينما الحوثيّون هم أقرب إلى كونهم أداة إيرانيّة – لا حليف كـ”حزب الله”- تقتصر أنشطتهم على الجغرافيا اليمنيّة، وتحديداً شمالها، ولا دور لهم خارج اليمن حتّى الآن.
كما أنّ الفارق الأبرز بين الجماعتين، هو اعتبار “حزب الله” حزباً سياسيّاً معترفاً به قانونيّاً في لبنان، ولا يختلف كثيراً عن الأحزاب اللبنانيّة الأخرى، إلاّ بكونه لم يتخلّ عن ميليشياته المسلّحة كتلك الأحزاب، بينما تمارس جماعة الحوثيّين في اليمن نشاطها في اليمن بفعل قوّتها على الأرض، وهي ليست حتّى مسجّلة كحزب سياسيّ. كما أنّها على عكس “حزب الله” تقتصر تجاربها وخبراتها على الحرب، لا السياسة، إذ ما زالت السياسة مساحة غير آمنة وفعلاً مستجدّاً بالنّسبة إلى الحوثيّين الوليدين من حروب 10 سنوات، مقارنة بـ”حزب الله”، الذي تمتدّ تجربته لـ3 عقود كانت حروبه استثناء لا قاعدة فيها.
من جهة أخرى، فإنّ جماعة الحوثيّين (أنصار الله) ما زالت في مرحلة التوسّع وتشكّل الهويّة، وحتّى هويّتها الفكريّة الدينيّة لم تستقرّ بعد على الأقلّ لدى عناصر الجماعة التي تتراوح بين المذهب الزيديّ (وهو مذهب إسلاميّ وسطيّ بين السنّة والشيعة، وإن حسب تاريخيّاً على الشيعة)، وبين بعض الأدبيّات الشيعيّة التي لا يقرّها بعض الزيديّة في اليمن. كما أنّ الجماعة لا تعترف علناً بعلاقتها التبعيّة لإيران، وإن صرّحت بعلاقتها بها كدولة إسلاميّة تمثّل أنموذجاً لمقاومة الغرب وإعجابها برموزها الدينيّة كخامئني مع احتفائها بأيّ إنجاز إيرانيّ وإحيائها المناسبات الدينيّة نفسها التي تحييها الطوائف الشيعيّة في إيران والعراق ولبنان وبحشود استعراضيّة، كظواهر جديدة على الطائفة الزيديّة التي ينتمي إليها الحوثيّون، ويعدّ إحياؤها عملاً سياسيّاً أكثر منه عقائديّاً.
من ناحية بنيويّة ولوجستيّة، فإنّ “حزب الله” امتلك لعقود حليفاً إقليميّاً أقرب جغرافيّاً (سوريا)، بما قدّمه ذلك من تسهيلات مصيريّة لتطوّر مسيرته على الصعيدين العسكريّ والسياسيّ، بينما يمتلك الحوثيّون جواراً جغرافيّاً مع من يمكن اعتباره خصماً تقليديّاً وفكريّاً (السعوديّة)، وهذا بقدر ما منح الجماعة حظوة إيرانية باعتبار المملكة خصماً إقليميّاً لها، إلاّ أنّ المملكة لا تنظر إليها بالعين نفسها التي ترى بها “حزب الله”.
على الرغم من أن الإمارات حذت حذو السعودية وأضافت جماعة الحوثيين إلى لائحة الإرهاب، لا يعني ذلك أن دول مجلس التعاون الخليجي باتت في حرب مفتوحة مع الحوثيين. والأهم من ذلك، رغم الانتهاكات الفادحة لحقوق الانسان التي قام بها الحوثيون في اليمن والتي تُعتبر أفدح بكثير من أفعال حزب الله طيلة فترة وجوده أي أكثر من ثلاثة عقود، لا تزال النظرة إلى الحوثيين على الصيعد الإقليمي جيدة نسبياً مقارنة بأفعالهم على أرض الواقع. وهذا الأمر مهم إذ أن الولايات المتحدة تواصل محادثاتها النووية مع إيران وتوفر للطرفين أوراقاً جديدة للتفاوض. ونظراً لمدى أهمية الحوثيين بالنسبة إلى الولايات المتحدة في الوقت الراهن، يمكن لواشنطن أن تدفع إيرن إلى التأثير على الجماعة الحوثية لتأخذ خطوات أكثر إيجابية في اليمن.