في 19 أيّار/مايو المنصرم، عبّر الرئيس الأميركيّ باراك أوباما عن قلقه من تدهور الوضع في العراق وسيطرة تنظيم “الدولة الإسلاميّة” على مدن عراقيّة، مقترحاً ما يعرف أخيراً بـ”النموذج اليمنيّ”، كحلّ لأزمة العراق السياسيّة والأمنيّة. وتكمن اهم معالم النموذج اليمني في تسليم الرئيس السابق صالح السلطه لنائبه عبدربه منصور هادي ، وخطة لاعادة هيكلة الجيش وتنفيذ حوار وطني شامل ، التزمت الاطراف المشاركة فيه بترك السلاح ، ولم تنفذ ذلك في الواقع.
ليست المرّة الأولى التي يمتدح الرئيس أوباما النموذج اليمنيّ، كما أنّه ليس وحده من فعل ذلك، ففريق المتغّنين بـ”النموذج اليمنيّ” يشمل أيضاً دبلوماسيّين ومبعوثين دوليّين، جميعهم يمتدحون الاستثنائيّة اليمنيّة، ونموذج التدخّل الدوليّ الناجح في إحدى دول الربيع العربيّ، اليمن. وبالطبع، يضاف إليهم الساسة اليمنيّون في العاصمة صنعاء والأطراف المتصارعة التي تستغلّ فواصل استراحاتها بين المعارك، لتعبّر عن امتنانها للدور الدوليّ والإقليميّ لـ”النموذج اليمنيّ” المتمثّل في خارطة الطريق التي رسمتها المبادرة الخليجيّة.
لكن في الواقع، فإنّ “النموذج اليمنيّ” الفاعل أمنيّاً وسياسيّاً الذي يتحدّث عنه الرئيس الأميركيّ والتقارير الدوليّة لا صلة لها بالحقيقة، فالصورة في اليمن مختلفة عن تلك التي قد تبدو من الخارج أو التي تتحدّث عنها التقارير الأمميّة.
لم يكن استدعاء أوباما لـ”النموذج اليمنيّ” غير موفّق من ناحية سياسيّة وانتقاليّة فقط، وإنّما أيضاً من الناحية الأمنيّة. فما لم يتنبّه إليه الرئيس الأميركيّ هو أنّ “الدولة الإسلاميّة” قد سبقته واستلهمت “النموذج اليمنيّ” الذي يرغب في استلهامه للعراق. ففي الحقيقة، إنّ سيطرة “الدولة الإسلاميّة” على مدن عراقيّة، أتت بعد تجربة –تعدّها القاعدة ملهمة- لأنصار الشريعة التابعين إلى تنظيم القاعدة في اليمن تمثّلت في السيطرة على مدن يمنيّة وتطبيق الشريعة فيها. لأكثر من عام، سيطر تنظيم القاعدة على محافظتي إبين وشبوة، وذلك بين العامين 2011 و2012، وهو التنظيم الذي تراه الولايات المتّحدة الأميركيّة التنظيم الأكثر تهديداً لأمنها القوميّ وليس “الدولة الإسلاميّة”.
ومنذ دخول اليمن رسميّاً في “النموذج اليمنيّ”، بالتوقيع على المبادرة الخليجيّة في نوفمبر2011، تكرّر في المحافل الدوليّة والدوائر الدبلوماسيّة والإعلاميّة استدعاء “النموذج اليمني” كحلّ ممكن لسوريا. هكذا يتمّ الاستدعاء المتكرّر لـ”النموذج اليمنيّ” كنموذج ناجح لبناء الدولة والقيام بعمليّات تحوّل انتقاليّ ناجح، وللقضاء على الجماعات المسلّحة وإنهاء الحرب الأهليّة. وهي مقارنة فجّة، إذ أنّه وفي الوضع الحاليّ لليمن، فإنّ عدد السفارات العاملة في صنعاء حاليّاً أقلّ من تلك التي في دمشق.
ورغم الحرب في سوريا، استطاعت الحكومة تأمين العاصمة دمشق بشكل افضل وخلق بيئة اكثر امنا للدبلوماسيين، إلا أن الحكومة اليمنية فشلت في ذلك إذ عجزت عن بناء مؤسسات الدولة وإرساء الأمن
في الحقيقة، فإنّ العديد من اللاعبين المحليّين والدبلوماسيّين الدوليّين الذين يتغزّلون بـ”النموذج اليمنيّ”، ويقارنونه بالسيناريو السوريّ، هم أنفسهم يعبّرون وراء الأبواب المغلقة، عن خشيتهم من أنّ صمود الأسد الدمويّ قد يمثّل نموذج إلهام للرئيس اليمنيّ السابق، وذلك –على الرغم من شرعيّته كتخوّف- وحده ينسف كلّ الادّعاءات بنجاح “النموذج اليمنيّ”. إذ كيف يمكن اعتبار نموذج انتقال سياسيّ فعّالاً إذا كان رئيس النظام السابق لا يزال يمثّل تهديداً حقيقيّاً وحيويّاً للعمليّة الانتقاليّة؟
لقد فشل “النموذج اليمنيّ” في القيام بأبسط أسس التحوّل الانتقاليّ والاستقرار السياسيّ والأمنيّ وأهمّها، وهو بناء الدولة. فبعد أكثر من عامين على بدء عمليّة الانتقال السياسيّ، وبعد أقلّ من شهر على تغزّل أوباما به، نشرت مجلّة الفورين بولسي قائمتها لأكثر الدول هشاشة، واحتلّت اليمن المرتبة الثامنة، بفارق 5 نقاط لصالح العراق التي احتلّت المرتبة 13، بينما كانت كلّ دول الربيع العربيّ الأخرى، بما في ذلك ليبيا وسوريا اللتين احتلّتا الترتيب الـ41 والـ15، في ترتيب أفضل من اليمن.
عادة، يمكن القول بوجود “نموذج يمنيّ” ناجح في حال استقرار الأمن في البلاد وانحسار تأثير المجموعات المسلّحة ومخاطرها، واستقرار الاقتصاد الوطنيّ وتوحّد الجيش، وإجراء انتخابات نزيهة تصعد من خلالها قيادة جديدة إلى حكم البلاد، ودوران عجلة التنمية في شكل طبيعيّ، وتوقّف نزيف الدماء المستمرّ في البلاد، وتوفّر الخدمات العامّة ولو بحدودها الدنيا. لكنّ الواقع في اليمن حاليّاً، يقول عكس كلّ ذلك.
في الواقع الأمنيّ اليمنيّ، تستمرّ –وترتفع بين الحين والآخر- عمليّات القتل والاغتيالات، وقطع الطرق. وتقوم العناصر المسلّحة بضرب خطوط الكهرباء وأنابيب النفط من دون رادع، بل وتتوقّف الحركة بين المدن الرئيسيّة أحياناّ نتيجة قيام مسلّحين بقطع الطرق التي تصل بينها. والخطف لم يعد حكراً على البشر، بل تعدّاه ليشمل حتّى ناقلات النفط .
أمّا الجماعات المسلّحة، فقد زاد نشاطها وبرزت قوّتها على الأرض، على حساب صورة الدولة وحضورها. ففي منتصف شهر رمضان، أحكمت جماعة الحوثي سيطرتها على اللواء 310 في محافظة عمران، وعلى المحافظة كليّاً، وقتلت قائد المعسكر بعد أشهر من المواجهات العسكريّة الشرسة معه، وهو موالٍ للإخوان المسلمين. وعزّز ذلك من درجة العنف والتوتّر الأمنيّ والطائفيّ الذي تعيشه باقي مناطق اليمن، مع اكتفاء الرئيس اليمنيّ بتشكيل لجان الوساطة –وهي عرف ازدهر منذ بدء العمليّة الانتقاليّة في اليمن، ولم يثبت حتّى الآن أيّ نجاح، عدا تقويضه هيبة الدولة- من دون اتّخاذ موقف من الحرب، أو اعتبار قائد المعسكر يقاتل خارج قرار الدولة وعقابه، ولا حتّى اعتباره يقاتل تحت راية الدولة ودعمه، إذ لم يتّضح مسار الدولة المتناقض في الحرب والسلم معاً، من دون إحراز أيّ تقدّم في أيّ من الجهّتين.
وقد روّع بروز الحوثي المفاجئ العاصمة صنعاء، كون حدودها الشماليّة والغربيّة أصبحت مفتوحة أمامه الآن، فعمران لا تبعد عن صنعاء أكثر من 50 كيلومتراً. ليس واضحاً وسط كلّ هذه الفوضى، أيّ نموذج بالضبط بالإمكان استلهامه للشعب العراقيّ، مقارنة بتلك الاختراقات التي يمكن أن تستلهمها جماعاته الطائفيّة المسلّحة من نظيراتها في اليمن.
بناء على ذلك، فإنّ أقصى ما حقّقه “النموذج اليمنيّ” هو التطبيع مع الموت وتنويع أسبابه، اذ ارتفعت حوادث الانفلات الأمنيّ وزاد عدد النزاعات المسلّحة، وتمّ تدريجيّاً الاعتياد المتكرّر عليها، مع الإشادة المتكرّرة بـ”تجنيب اليمن حرباً أهليّة”، وهي إحدى أكثر الجمل إثارة للشفقة، حيث كان يخيّم على اليمنيّين في عام 201، شبح الحرب بين فئات الجيش. ولكن الآن، تخيّم عليهم أشباح حروب أهليّة عسكريّة وطائفيّة ومناطقيّة متعدّدة. وتغيّرت أولويّة اليمنيّينن، من تجنّب حرب أهليّة واحدة، إلى تجنّب حروب أهليّة متعدّدة.
لقد استنزفت حياة اليمنيّين في اضطرابات عنيفة خلال العامين الماضيين، قتلت الآلاف منهم، وعلى طريقها، أصابت الوضع الاقتصاديّ بكوارث أبرز معالمها، وصول عدد اليمنييّن الذين هم في حاجة إلى مساعدات إنسانيّة، إلى أكثر من 14 مليون يمنيّ، بينهم أكثر من مليون ونصف طفل، وفقاً للأمم المتّحدة نفسها، ومقارنة بـ8 مليون يمنيّ في عام 2011.
لقد حوّلت المبادرة الخليجيّة اليمن إلى بلد تتنازعه الأطراف الخارجة عن القانون بدعوى عدم شرعيّة السلطة القائمة حاليّاً، لتجاوزها كلّ فتراتها الانتخابيّة الزمنيّة المحدّدة. ومع ارتفاع التوتّر الأمنيّ ومستوى الخطر في اليمن، أصبح احتمال رؤية أجنبيّ يمشي في شوارع صنعاء، منخفض كاحتمال رؤية نقاب في مدينة كلاس فيغاس.
دولة فاشله تسقط بهدوء تحت اداراة الميليشيات المسلحة ، هو النموذج اليمني الذي يتم الحديث عنه كحل ممكن للعراق وسوريا .