لا يمكن لبلد فقير وهش كاليمن حاليا اتخاذ قرارات مستقلة,ولا يمكنه الفكاك من خلافات الأغنياء من حوله .عدم سحبه لسفيره من قطر على غرار تصرف كل من السعودية والإمارات والبحرين مؤخرا لا يعني رضا قطر ، كما أن عدم انتقاده لهذا الإجراء ضد الدوحة واعتباره شئنا يخص الدول التي اتخذته وحدها لا يعني رضا هذه الدول عن صنعاء بالمقابل ، رغم أن وجود علاقات جيدة مع هؤلاء الخصوم في الوقت نفسه أمرا مصيريا لليمن باعتبارها الأكثر دعما له ونفوذا في أراضيه.
منذ سنوات واليمن فريسة لخلافات ( وأحيانا لاتفاقاتها كما حدث في 1990) الأشقاء,وتصاعد الأمر أكثر منذ اندلاع أحداث الربيع العربي واختلاف عواصم المال الخليجي ذات النفوذ القوي في اليمن خاصة الرياض والدوحة ومؤخرا أبو ظبي التي كان مدخلها الرئيس خلافها مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي له نشاط واسع في اليمن ويعد فرعه اليمني (التجمع اليمني للإصلاح ) أحد أبرز اللاعبين السياسيين في المشهد اليمني,وتتهم الرياض قطر بدعم هذا التنظيم الذي وضعته مؤخرا على قائمة الخاصة بالحركات الإرهابية في العالم إلى جانب نقيضه الموضوعي –في اليمن – الذي تمثله الحركة الحوثية التي خاضت المملكة ضدها رسميا حربا مسلحة إلى جانب الجيش اليمني في 2009, والذي قالت الرياض أن قطر وإيران داعميها الأساسيين للإضرار بالمملكة.
لكن الملف اليمني أشد تعقيدا من فهمه على هذا النحو ,فالإخوان المسلمون سبق وان كانوا على اتفاق مع الرياض ، على عكس حالهم الآن ولم تتحالف قطر مع الإخوان في اليمن حتى العام 2011.
هذا المشهد أربك نخب صنعاء وسياسييها ودبلوماسييها بشكل كبير. ما هو الموقف الذي يمكن أن تتخذه اليمن ؟ وكيف يمكن لها قراءة علاقة الأحزاب والحركات المحلية مع حلفائهم الإقليميين في ظل كل هذا التناقض ؟ فسلطتها الهشة ,ووجود أكثر من جبهة قتال مفتوحة على الأرض بين وقت وآخر بين هذه الأحزاب والحركات تجعل خياراتها محدودة للغاية ,وتكتفي أحيانا بتوجيه التهم إلى طهران بالتدخل في الشأن اليمني لأنها تدرك ذلك ومظاهره المتعددة ,ولا تستطيع إيقافه أو إيقاف المتورطين المحليين فيه,لكن انتقاد طهران في كل الأحوال ليس بخطورة المجازفة في تبني اتهامات الأطراف المحلية والإقليمية اتهام بعضها البعض بالتورط في الشأن اليمني. بل إن انتقاد طهران ، هو ربما الأمر الوحيد الذي سترضى عنه دول الخليج كافة ولو بدرجات متفاوتة.
مصالح اليمن المالية تحديدا تضيق دائرتها في المستوى الإقليمي بين الرياض والدوحة وأبوظبي والكويت,وما هو خارجها ليس كثيرا,وتبني أي موقف قد يغضب إحدى هذه العواصم أمر لا تقدر عليه صنعاء على الأقل حاليا.
منذ العام 2012، تعهّد المتبرّعون لليمن بأكثر من 7،8 مليار دولار من المساعدات والقروض ولكن في الواقع لم يُصرف سوى 2،2 مليار دولار بما فيها وديعة بقيمة مليار دولار من السعودية في مصرف اليمن المركزي. من 7،8 مليار دولار، تعهّدت دول الخليج وحدها بأكثر من 55% والسعودية تعهّدت بتقديم المبلغ الأكبر بقيمة 3،25 مليار دولار.
ليس المال الرسمي الذي تبحث عنه الحكومة اليمنية وحده هو المحك إذ أن المال غير الرسمي من الدول الشقيقة لجماعات محلية هو في نفس الوقت مشكلة ويقف عليه حاضر اليمن بل ومستقبله أيضا.
منذ تدعم السعودية القوى القبلية والدينية في اليمن بشكل غير رسمي سواء عبر سفارتها بصنعاء أو بشكل مباشر عبر الرياض ومؤسسات اللجنة الخاصة ,إلا أن تغييرها لموازين لعبتها الإقليمية نقل الإخوان المسلمين (حزب الإصلاح) في اليمن من دائرة الحلفاء إلى دائرة الأعداء.
لقد كانت علاقة الإخوان والقبائل في اليمن بالسعودية مصيرية واستحال مع هذه العلاقة العميقة ومتشعبة المصالح توقع حدوث هذه المتغيرات بين كفتي ميزان ,كانت إحداها فقط (كفة الرياض) ترجح الميزان لصالحها باستمرار .
ولقدرة الدوحة على اللعب في الملفات السعودية شديدة الحساسية في اليمن كملف العمالة اليمنية التي قامت الرياض بترحيل عشرات الالاف من اليمنيين المغتربين لديها بعد اقرار العمل الجديد (ولا زال ترحيل المزيد مستمرا ليصل العدد إلى 12500 مغترب خلال يناير – مارس 2014 عبر مطار صنعاء وحده) ,فقد أعلنت قطر بانها ستفتح ابوابها للعمالة اليمنية,وأمرت قيادتها بمعاملة اليمنيين المقيمين على أراضيها كمواطنين قطريين من حيث فرص التعليم والصحة , ومهما كانت مبررات الرياض لتلك الإجراءات في الوقت الراهن الذي تدرك فيه الوضع الحرج لليمن ,فقد أكسبها ذلك غضبا شعبيا واسعا في اليمن.
ولكن على الجانب الرسمي والشعبي، لا يمكن مقارنة الارتباط اليمني بالمملكة من حيث المصالح مع قطر فلا زال هناك قرابة مليوني مغترب يمني في أراضي السعودية ,التي لا زالت أبرز مانحي اليمن حتى الآن,لكن في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل مدى قدرة قطر على تحريك الملفات اليمنية شديدة الكلفة بارتباطها بالأطراف الأكثر تأثيرا على الأرض على الأقل .
في أواخر نوفمبر 2013، تعهّدت قطر بتقديم 350 مليون دولار لصندوق ائتمان بغية التعويض على الجنوبيّين الذين يقولون إنّهم طُردوا بطريقة غير عادلة من الخدمة العامّة. وهذا الصندوق غير مرتبط بقيمة 7،8 مليار دولار التي تعهّد بها المتبرّعون.
في وسط كل هذه التناقضات ، يقف الرئيس اليمني هادي – المرتهن محليا بإرضاء هذه القوة وخارجيا لتوافقات الخليج والمجتمع الدولي ، أعزلا ومفضلا بفعالية مواصلة عادته في الصمت خصوصا عن أكثر المواضيع حساسية في اليمن. وأكثر من ذلك يقف عموم اليمنيين في ورطة هذا الصراع الذي يدار من خارج الحدود ويمول من قبل دول أقليمية كلها تعلن دعمها لاستقرار اليمن ، وتنكر تدخلها في شئونه الداخلية.
مقابل اتهام هادي لإيران بدعمها للحوثي في الشمال ,والحراك في الجنوب قبل أسبوع تقريبا,فقد أشاد بشكل مكثف بجهود الرياض ودعمها لليمن,بينما لم يشر بالاتهام أو الإشادة للدوحة في سياق حديثه ,و اليمن عادة لا تعاني المواقف الرسمية لهذه الدول منها بل المواقف غير الرسمية لأنها الأكثر تعبيرا عن توجهاتها نحوه ,والأشد تأثيرا في واقعه,والأقل قابلية للقياس والإثبات في نفس الوقت.
ونتيجة لكل هذا، فان اليمن على بعد خطوة من الارتهان الكلي لرغبات خصوم الإقليم والسقوط في واقع الكارثة. كما وقع في السابق ضحية لاتفاق إقليميّ في العام 1990 عندما رفض المشاركة في حرب الخليج ضدّ صدام حسين وطرد أكثر من مليون عامل يمني حينها.
لا شيء جديد في ثقل كفتي ميزان علاقة اليمن بالخليج فالكفة المرجحة دائما في يديّ دول الخليج الغنيّة التي باتت في مقدّمة النزاع بين دول الخليج، ما يزيد الوضع تعقيداً في بيئة معقّدة وغير مستقرّة سياسياً.