إن إحدى أسوء عادات الدولة في اليمن وأكثرها تكراراً، هي “تشكيل اللجان”. بمجرّد أن تبرز قضيّة ما أو مشكلة ما، حتى يهرع رئيس الدولة أو الحكومة مباشرة لتشكيل لجان تحقيق. في المقابل أصبحت “لجان التحقيق” تلك تثير الفوبيا أو الرهاب لدى المواطن اليمني، إذ إنه يخشى أن تميّع مشكلة أو قضيّة ما عبر تشكيل لجنة بحسب ما جرت العادة، لامتصاص غضب الشارع من قبل الدولة حتى يتمّ نسيان المشكلة… أو قد يعمل على حلّ مشكلة أخرى جديدة أكثر فداحة تُنسي القضيّة السابقة وتشكّل لها أيضاً لجنة تحقيق جديدة، وهكذا دواليك
في السياق نفسه وحتى حينما لا يكون الأمر متعلقاً بكارثة بل بقرار مستقبلي، عندما يرغب أصحاب القرار بالهروب من مواجهة أمر ما أو من حلّ مشكلة ما، فإنهم يهرعون لتشكيل لجنة للقيام بعملهم بدلاً عنهم.
في أقلّ من أسبوعَين اثنَين، انتهت أخطر اللجان اليمنيّة وأكثرها تأثيراً في مستقبل البلاد من عملها معلنة تقسيم البلاد إلى ستّة أقاليم تشكّل دولة اتحاديّة. هي انتهت من أعمالها بتحديد عدد أقاليم البلاد وشكلها، بناءً على معايير غير تنمويّة وغير مائيّة وغير جغرافيّة وغير ثقافيّة. وقد جاء تشكيل اللجنة هروباً من فشل مؤتمر الحوار الوطني في تحديد عدد الأقاليم وشكلها وبعد التفويض الذي منحه المؤتمر للرئيس بتشكيل اللجنة بطريقة غير ديمقراطيّة.
وثمّة لجان أخرى محدودة المهام كالتحقيق في اغتيال إحدى الشخصيات أو حتى التحقيق في هجوم إرهابي سقط فيه عشرات الضحايا، تبدأ أعمالها ولا تنتهي منها. وإن أنهت أعمالها بصمت فإن نتائجها تظلّ رهينة السريّة. كذلك قد تفشل في الوصول إلى الهدف الذي شُكّلت من أجله.
كتقليد ربما يشكّل استثناءً يمنياً، يقوم رئيس الجمهوريّة أو الحكومة بتشكيل لجنة تحقيق في قضيّة هي من صميم مهام أجهزة رسميّة كالأجهزة الأمنيّة بشكل أساسي. وهذه اللجان غالباً ما تشكَّل سياسياً وليس بطريقة فنيّة ولا احترافيّة ولا متخصّصة في المجال المناط بها. ومن الصعوبة بمكان إيجاد مبرّر منطقي لهذه التشكيلات عادة، بخاصة في ظلّ استمرار تأثير الأطراف السياسيّة المختلفة على عمل أجهزة الدولة. واختراقها بشكل أو بآخر يؤدّي إلى الحدّ من قدرتها على العمل بشكل طبيعي.
قبل أعوام عدّة شكّل الرئيس السابق علي عبدالله صالح لجنة للتحقيق في قضيّة نهب الأراضي في المحافظات الجنوبيّة من قبل أصحاب نفوذ عسكريّين وحكوميّين وقبليّين. انتظر البعض نتائج عمل اللجنة اعتقاداً منهم أن صالح كان جاداً في معالجة هذه القضيّة الحساسة جداً والتي تعدّ أحد أبرز عوامل ظهور القضيّة الجنوبيّة وتصاعدها. لكن عندما رفعت اللجنة التي عُرفت بلجنة “باصرة-هلال” تقريرها إليه، تمّ تجميد الملف من دون اتخاذ أي إجراء. حينها تمّ الكشف عن نتائج عمل اللجنة التي تلخّصت في تحديد مجموعة من الأسماء لشخصيات نافذة تقف وراء عمليات نهب أراضي الجنوب، وتمّ تخيير صالح بين وضع هذه الشخصيات تحت طائلة القانون وبين الحفاظ على الجنوب والوحدة اليمنيّة. لكنه اختار انقاذ حلفائه النافذين في القائمة وحماهم من دون أن يقوم بأي إجراء لتنفيذ توصيات اللجنة وإعادة الأراضي المنهوبة في الجنوب.
بعد ذلك بسنوات، خرج الشعب ضدّه [صالح] وكانت بعض هذه الشخصيات النافذة من ضمن المنشقّين عنه. فخسرها وخسر الشعب معها.
في عهد الرئيس عبد ربه منصور هادي تزايد عدد هذه اللجان مع ازدياد القضايا والحوادث الأمنيّة بشكل غير مسبوق، حتى أصبح ذلك أكثر الأخبار تكراراً في اليمن.
في مطلع كانون الأول/ديسمبر 2013، هاجم “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” مستشفى العرضي الذي يقع في داخل مجمّع وزارة الدفاع في قلب العاصمة صنعاء. إلى جانب شناعة العمليّة التي قتل وجرح فيها مئات من اليمنيّين والأجانب العاملين في المستشفى، فإن اختراق “القاعدة” لهذا المركز الحساس مستهدفاً قلب الجيش اليمني اعتبِر أمراً موازياً في الرعب والصدمة.
وبدلاً من عزل أي من القادة العسكريّين أو اتخاذ أي إجراء آخر، شكّل رئيس الجمهوريّة لجنة للتحقيق في الحادثة مطالباً إياها بتسليمه نتائج التحقيق في خلال 24 ساعة. لكن مع تشكيل هذه اللجنة أصيب الرأي العام بالإحباط نظراً لتجاربه الطويلة مع لجان التحقيق العبثيّة. وحينما انتهت من عملها، لم تخب توقّعات الرأي العام المتدنية أساساً من هذه اللجنة.
فعلى الرغم من أن اللجنة قدّمت تقريرها مع انتهاء المهلة الممنوحة لها، إلا أن التقرير كان في غاية الهشاشة والسوء. وبالتالي يمكن القول بأن الخيبة العامة عند تشكيل اللجنة كانت في محلّها. وذلك إذ إن التقرير لم يكن سوى عرض لعمليّة الهجوم وطبيعة الخسائر، من دون حتى الكشف عن مصدر الهجوم أو من يقف وراءه أو كيفيّة حدوثه.
إن أي محرّر في أي صحيفة لم يكن ليقبل بهكذا تقرير عن الحادثة من صحافي مبتدئ لديه. لكن اللجنة لم تتردّد في تقديمه كتحقيق عسكري هام في قضيّة حساسة وموجعة.
وحتى يومنا هذا، لم تعلن اللجنة عن أي نتائج أخرى أو عن توصّلها إلى أي استنتاجات جديدة . وما نشرته في حينها، تمّ نشر بعضه في الصحف والمواقع الإخباريّة وعلى شبكات التواصل الاجتماعي.
إلى ذلك، لم تعلن اللجنة حتى اليوم عن انتهائها من مهامها ولم يتمّ الإعلان عن حلها أو انتهاء فترة عملها، تماماً كما هي حال العشرات من شقيقاتها من اللجان السابقة. واستمرّ الأمر على ما هو عليه حتى بعد إعلان “القاعدة” مسؤوليتها عن العمليّة ونشرها تسجيلات فيديو ذات صلة على شبكة الإنترنت. وقد أشارت “القاعدة” إلى أن الهدف كان الانتقام لمقتل نائب زعيمها سعيد الشهري، مبرّرة العمليّة بوجود مقرّ عمليات للتحكّم والتنسيق خاص بالطائرات الأميركيّة من دون طيار في مجمّع العرضي.
وعادة تتلاشى هذه اللجان من دون أن تلغى، كأن قرار تشكيلها هو من دون سقف زمني أو أن أدائها لمهامها يتمّ وفقاً للرغبة وليس بناءً على هدف واضح يجب تحقيقه أو إعلان الفشل في تحقيقه.
النهاية نفسها آلت إليها أعمال اللجنة المكلّفة بالتحقيق في قضيّة الهجوم على السجن المركزي في صنعاء قبل أسابيع [13 شباط/فبراير 2014]، والذي تمّ في خلاله تهريب 29 سجيناً. وتجدر الإشارة إلى أنه تمّ توقيف بعض الضباط على خلفيّة الحادثة لاتهامهم بالضلوع والتنسيق مع الجهات المنفّذة، إلا أن اللجنة حتى الآن لم تعلن نتائج تحقيقها ولا أحد يعلم ما آل إليه تحقيقها ذاك.
وفي أمثلة أخرى، نفّذ هجوم في محافظة حضرموت في كانون الثاني/يناير الماضي على قيادة المنطقة العسكريّة الأولى وتمّ احتلال مبناها لساعات بعد قتل عدد من الضباط والأفراد، وفي شبوة شنّ هجوم عنيف في بداية شهر آذار/مارس الجاري على عشرات من عناصر الجيش… لكن اللجان “العبقريّة” لم تكشف عن أي متّهم وإنما كالعادة جمعت معلومات يعرفها الرأي العام وسبق وتمّ نشرها في الصحف، من دون أن تعلن رسمياً عن أي نتيجة.
أما في ما خصّ قذيفة الدبابة التي أطلقت من مقرّ لواء عسكري على خيمة عزاء في الضالع في كانون الأول/ديسمبر الماضي وسقط جرّاءها عشرات المدنيّين بين قتيل وجريح، فإن اللجنة التي تشكّلت للتحقيق في الحادث لم تنفِ التهمة الموجّهة إلى قائد اللواء ولم تؤكدها وسط تصاعد المطالبة بإقالته ومحاكمته. كذلك لم تعلن اللجنة عن إجراءات بحقّ جهة حكوميّة ارتكبت جريمة طالت مواطنين عزّل وهزّت جنوب اليمن وشماله. http://almasdaronline.com/article/53847
ثمّة قضايا أخرى أكثر أهميّة مثل قضيّة أراضي المحافظات الجنوبيّة التي شكّل الرئيس هادي لجنة لمعالجتها (من دون سلطات واضحة) بعد دراسة الشكاوى المقدّمة إليها، وذلك بناءً على توصيات مؤتمر الحوار الوطني والنقاط العشرين المرفوعة بغرض إثبات حسن النوايا في معالجة القضيّة الجنوبيّة. أشهر عدّة مرّت على تشكيل اللجنة، لتعلن قبل أيام فقط أنها تلقّت مئة ألف ملف في قضايا أراض منهوبة. وإذا كانت هذه اللجنة قد تسلّمت منذ بدء عملها أي قبل عام واحد تقريباً هذا الكمّ الهائل من الشكاوى، فهل ستتمكّن في سنوات من دراسة هذه الشكاوى بشكل موضوعي والاستماع إلى الأطراف الأخرى بهدف التوصّل إلى حلول حقيقيّة لقضيّة بهذا الحجم؟
إن قضايا عملاقة كقضيّة الأراضي تحتاج إلى عشرات اللجان المشكّلة من خبراء. وإذا كانت لجنة معالجة قضايا المسرّحين من وظائفهم من أبناء المحافظات الجنوبيّة قد عملت على إعادة المئات من هؤلاء المسرّحين قسرياً إلى وظائفهم، فإن الآلاف ما زالوا بانتظار حلول مماثلة لم تكن اللجنة تمتلك القدرة على التعامل مع ملفاتهم حتى الآن.
بناءً على هذه التجارب السيّئة مع لجان التحقيق المشكّلة بشكل استثنائي وفي الغالب من خارج الأجهزة المختصّة ومن الذين تنقصهم الخبرة للتعامل مع قضايا استثنائيّة وعاجلة مماثلة، أصبح المواطنون في اليمن يؤمنون بأن أقصر الطرق للقضاء قضيّة هامة هو من خلال تشكيل لجنة للتعامل معها.