منذ بداية العقد الحالي واليمن – بلدا وكيانات وأفرادا- تنتقل من انشقاق إلى آخر ، انشقاقات أفقية وعمودية بين كياناتها ومؤسساتها وأحزابها ومجتمعاتها ، حتى بدا العقد الحالي عقدا للانشقاقات والانقسامات بامتياز.
لم تكن لهذه الانشقاقات بداية محددة زمنيا,إذ تستمر الخلافات تحت السطح لسنوات أحيانا,لكن ملامح الانشقاق الأهم بدأت من تحالف القوى التقليدية الصانعة للقرار السياسي (عسكرية في الغالب) والتي سيطرت ل3 عقود على صلاحيات الحاكم عمليا، وبدت معالم التوتر بين صالح وأقاربه على شكل تعيينات معينة تصب لصالح نجله الصاعد أحمد (دشنها بتسليمه قيادة الحرس الجمهوري) على حساب اقارب اخرين و دقت تلك التعيينات جرس الإنذار الأول بان هذه التحالفات بدات تتشقق وبدات عواقبها تنعكس على اليمن جيشا ودولة ومجتمعا ، ثم ما لبثت ان بانت للعلن بشكل رسمي حينما انشق الواء علي محسن الاحمر بالفرقة الاولى مدرع التي يقودها عن صالح وتحول الى اكبر خطر عسكري يواجهه صالح.
أتى إعلان اللواء علي محسن تأييد الثورة ضد صالح بعد أحداث مجزرة الكرامة الدامية في 18 مارس 2011 ، بمثابة المؤشر الأكثر دلالة على تهاوي نظام صالح من داخله وانتظاره اللحظة المناسبة فقط لإشهار هذا الأمر للعامة,وبعد عقود من التستر على حقيقة انقسام الجيش اليمني حسب ولاء مكوناته لشخصيات القادة أصبح الأمر واضحا دون مواربة فالقادة الذين كان اللواء محسن وسيلتهم للوصول إلى مناصبهم تحولوا فجأة إلى ثوار يصفون صالح ونظامه بأسوأ الصفات ,والآخرون الأقرب لصالح أصبحوا يتحدثون عن المنشقين مع محسن ككائنات فضائية تم اكتشافها بالصدفة البحتة على فسادها وخطورتها الكبيرين,وكان إعلان بعض الوزراء والنواب والمسؤولين من حزب صالح انشقاقهم عن نظامه هو الديكور المدني لصراعات العسكريين.
المؤتمر الشعبي العام (حزب صالح) وهو أكبر الأحزاب اليمنية نفوذا حتى العام 2011,لم تعترف قيادته بأنه مجرد مظلة لقوى وشخصيات تجمعها المصالح التي يعد الحزب أسرع طرق الوصول إليها,وأنه يضم قيادات توالي فكريا أحزاب وتنظيمات أخرى من اليمين إلى اليسار,لكن لم يكن أحد بحاجة لهذا الاعتراف بعد مارس 2011,وتحدث المنشقون والباقون على ولائهم بنفس الخطاب الذي استخدمه قادة الجيش,ليتكون أهم حزبين أفرزتهما أحداث 2011 هم من الخارجين من عباءة المؤتمر كحزب التضامن الوطني,ومن بقي مؤتمريا بعد ذلك أصبح عليه أن يختار بين الولاء ل صالح(رئيس الحزب) وبين الولاء لهادي(رئيس الجمهورية-أمين عام الحزب) بعد أن تباينت مواقفهما وأصبحت مؤشرات الخلاف أكثر من الوئام بينهما خاصة منذ إصدار هادي قرارات عزل قادة الجيش الموالين لصالح,أما الحزب الثالث الأهم في 2011, فكان حزب الرشاد (ديني سلفي) فلم ينشق عن الحاكم بل عن جماعته الدينية التي تحرم الديمقراطية وتعتبرها صنيعة غربية لتفكيك المسلمين .
ولأن معظم محركي الانشقاقات العسكرية والحزبية والواقفين لهم على النقيض هم شخصيات من قبيلة حاشد التي ينحدر منها الرئيس صالح وحلفاؤه ،فقد أتى دور القبيلة ذاتها لتنقسم بالتوازي مابين مؤيد للثورة ومناهض لها ، وأصبح مشائخها يحشد أحدهم مع صالح والآخر مع محسن كما حصل بين أولاد الأحمر وأولاد أبو شوارب,وجليدان ،والأمر ينطبق أيضا وبدرجة أقل على قبيلة بكيل وهي أوسع من حاشد انتشارا لكن حاشد أوسع نفوذا بالمقابل,ليتصارع شيوخها على الزعامة سرا وعلنا.
أما ساحات المعتصمين ضد نظام صالح,والتي كانت نتيجة وسببا في الوقت ذاته لصراع أجنحة الحكم,فقد انتظرت دورها في الانشقاق حتى ظهور المبادرة الخليجية,فمنح حزب الاصلاح الاسلامي رضاه عن المبادرة وعلى النقيض وقف انصار الحوثي من المبادرة واعتبروها خيانة للثورة ومنهم / بمساعدتهم انبثقت مكونات ثورية جديدة كجبهة انقاذ الثورة.
وبينما كانت العاصمة صنعاء تنخرط منشقة في العملية السياسية ، أصابت الجنوب انشقاقات من نوع آخر بين تيارات الحراك المختلفة ، فمنها من رأى الثورة الشبابية استجابة لمطالب الحراك الجنوبي,حتى لو انطلقت في الشمال, ومنها من اعتبر الأمر شأنا خاصا بالقوى المتصارعة في صنعاء,ورفضت الانخراط في العملية السياسية تحت مظلة المبادرة الخليجية ، وهكذا انشق الحراك الجنوبي إلى نصفين حسب الموقف من المبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني,بعد انقسامات سابقة بعضها فعلي وبعضها اختراقات قوى أخرى. و ثم ما لبث التيار الموالي للحوار أن انشق من داخله أكثر من مرة لينسحب – في فترات مختلفة- قائدي ممثلي الحراك في الحواراحمد بن فريد الصريمة ومحمد علي احمد بن علي,ليتولى خالد باراس دورهم مؤخرا .
التكتل الأهم والأذكى الذي حافظ على وحدة موقفه رغم تباين مكوناته كان تحالف أحزاب اللقاء المشترك الوجه الرسمي الذي عبر سياسيا عن ثورة الشباب لاحقا, بدوره وبعد رحيل صالح أصبح كل مكون فيه يشعر بثقل تحمل ومجاراة مواقف الآخر ,كما دلت مهاترات إعلام أحزاب الإصلاح (الإسلامي),والاشتراكي (اليساري) والناصري(القومي) إثر أولى صفقات التقاسم للمناصب العليا بعد تشكيل الحكومة,وكانت قد بدأت جذور هذا الانقسام حينما انضم اللواء علي محسن – القريب من حزب الاصلاح- إلى صفوف الثورة. وظهر الخلاف بين المشترك الى العلن مؤخرا ليلقي بظلاله على موقف هذه الأحزاب من وثيقة حلول القضية الجنوبية ليوقع الإصلاح عليها,بينما يقترب الحليفان الآخران من موقف حزب المؤتمر ,لولا أن تراجع الجميع ووقعوا مؤخرا وإن ببعض الشروط التي يبدو أنها ستتلاشى تدريجيا,ويبقى الشرخ قائما.
خلال 3 اعوام مرت حتى الان من هذا العقد الجديد في اليمن ، فان الانشقاقات والانقسامات لم تكن فقط حكرا على الكيانات السياسية وتلك المرتبطة بالدولة والجيش ، فحسب ، فالمجتمع ايضا مر بانشقاقات وانقسامات جديدة شرخت هوية المجتمع اليمني الى انقسامات جديدة ، وان كان بعضها قديم الفكرة.
ولكن الانقسام الأكثر خطورة الذي تعرض له المجتمع ، هو الانقسام الطائفي الذي برز للسطح فجأة رغم مؤشراته التي ظلت تحت الرماد,حتى السنوات الأخيرة حيث تفكك كل حلف منطقي بين أفراد المجتمع,ليلوذ أفراده بظهر القبيلة أو المذهب ,والأخير أصبح أشد جذبا وخطرا من كل الانقسامات الأخرى لأنه لا ينهي تحالفا بل يؤسس لصراع قادم قد لا يتوقف, بعد أن شهدت اليمن تعايشا دينيا على الاقل شبه سمحا لعقود طويلة, ومع اشتداد المعارك بين السلفيين والحوثيين واجبار السلفيين على مغادرة,وبالتزامن مع إحياء الحوثيين لفعاليات دينية بدلالات سلالية كالغدير والمولد النبوي ،فإن انقسام العامة رأسيا وأفقيا برز الى السطح ، كما عبر هذا الانقسام عن نفسه بفوهة البندقية خلال الاشهر الماضية.
وبناء على المؤشرات أعلاه فانقسام القمة أدى إلى تفكك القاعدة الشعبية لليمنيين دون وعي,بما يخدم توجهات قادة القوى النافذة وأصبح المجتمع تحت رحمة فتاوى شيوخ الدين وأطماع الساسة,وشيكات دول الإقليم,وتجار السلاح فهؤلاء هم المستفيدون الحقيقيون بل وصناع البيئة القابلة للانفجار عند رغبة أحدهم خاصة إن أعلنها من منبر المسجد الذي لم يعد جامعا للمسلمين في اليمن.