أبرز نتائج «مؤتمر الحوار الوطني» إعلان اليمن دولة اتحادية أو فيدرالية من ستة أقاليم، اثنان منها في الجنوب وأربعة في الشمال. القرار العجول اتخذ بمباركة من «المجتمع الدولي» والدول الإقليمية الراعية لـ»المبادرة الخليجية»، الإطار المرجعي لما يجري حاليا في اليمن.
والاعلان لا يقبل النقض، مما يخالف المبادرة الخليجية نفسها ومخرجات الحوار الوطني التي تنص على خضوع قرارات كهذه للاستفتاء لأنها ترسم مصير اليمن بملايينه ال25. لم يراع التقسيم المعتمد العوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية والسكانية والتاريخية، بل كان سياسيا بامتياز.
والأقاليم هي عدن وحضرموت في الجنوب وآزال والجند وسبأ وتهامة في الشمال. تنشر «السفير العربي» تباعا ملامح كل واحد من تلك الأقاليم. بعد آزال وعدن، هذا إقليم حضرموت.
الإمكانات والنفوذ
لا يتعلق الأمر فحسب بمعادلة المساحة والسكان. فحضرموت هو أكثر الأقاليم احتواء على ثروات طبيعية كالنفط والغاز المسال، والمياه. وهو يمتلك السواحل الأكثر امتداداً على بحر العرب والمحيط الهندي. وتمتد حضرموت داخليا على الحدود المتاخمة لسلطنة عُمان شرقا، والسعودية شمالا، أي على طول منابع سعادة الخليج النفطية.
لم يكن هذا الإقليم بعيدا في أي فترة عن مواقع صنع القرار اليمني خلال ربع قرن من الوحدة، فخمسة من رؤساء الحكومات اليمنية من أصل سبعة ينحدرون من محافظتي شبوة وحضرموت. والإقليم يتمتع بوزن من العيار الثقيل عند رفع أي مطلب رسمي، إذ يسعى الجميع للإصغاء لمطالب أبنائه. وعندما انطلقت فيه قبل أشهر انتفاضة شعبية عرفت بـ«الهبة»، لم يكن من الرئاسة اليمنية إلا السعي لإرضاء أبنائه وتوفير مبالغ ضخمة من المال والعشرات من قطع السلاح والسيارات، وفقا للأعراف اليمنية التي «تُحكِّم» المتضرر من تصرفات الطرف المعتدي، وبالتالي تمنحه حق اتخاذ القرار في موضوع الخلاف.
المئات من أثرى رجال الأعمال السعوديين والخليجيين من أصول حضرمية، بمن فيهم بعض أعمدة اقتصادات الخليج، كعبد الله بقشان وبن لادن وبن محفوظ، وحتى في شرق أفريقيا كالملياردير العمودي، كما أن عشرات الآلاف من أبناء محافظات الإقليم مغتربون في دول الخليج المختلفة وإن كانوا يعملون في التجارة والقطاع الخاص السعودي مثلا، فإنهم أيضا يشغلون وظائف رسمية في الإمارات وقطر والبحرين، معظمها في سلك الشرطة والجيش.
فالأسرة الحضرمية لا تعتمد إلا قليلا على عوائد مالية محلية في حياتها، وفي حال قرر عدد من هؤلاء استثمار جزء من أموالهم في هذا الإقليم، فإن الثروات الطبيعية التي يكتنفها تعد فائضا لا حاجة ملحة لاستخراجه من مرقده تحت أقدام أبنائه. وإلى كل ذلك، يوجد في الاقليم أهم مشروع اقتصادي يمني أنشئ في القرن الجديد وهو ميناء بلحاف لتصدير الغاز المسال.
وكما صدَّر هذا الإقليم للعالم ألحان المحضار، وروائع أبو بكر سالم بالفقيه، وتراث علي أحمد باكثير، من روايات ومسرحيات، فقد صدَّر أيضا أسامة بن لادن وأنور العولقي اللذين قتلا بأياد أميركية بعد أن شغلا صدارة قائمتها لأخطر الأشخاص في العالم على أمنها. وبالمقابل، فالأب الروحي للفكر الاشتراكي الماركسي الذي حكم الجنوب قرابة عقدين (قبل 1990) هو باذيب الأب (نجله وزير في الحكومة الحالية).
لكن حضرموت كإقليم لا يصدر المرارة للعالم رسميا، بل يحتكر صنفين من أهم 3 أصناف للعسل اليمني العالي الجودة، هما عسل الدوعني والجرداني اللذين تغنى بهما الفنان بافقيه، وعدد من الإبل التي تفوز في مسابقات الهجن الخليجية، خاصة في الإمارات، تنحدر من المهرة. والمهرة محافظة يمنية هي لشدة هدوء أهلها وسلامهم الاجتماعي لا يكاد احد يسمع بها على الاطلاق، لا محليا ولا خارجيا.
القاعدة التي أسسها أسامة بن لادن (بجنسيته السعودية) لم تكتف بالانتشار العالمي بل قررت أن يكون لها موطئ قدم على أرض المؤسس، فأنشأت إحدى إماراتها الإسلامية في عزان (محافظة شبوة) في 2011، قبل أن يتم إخراجها منها عسكريا. إلا أن ذلك لم يكن غير جولة من معاركها المستمرة مع الجيش والأمن اليمني الذي فقد العشرات من أفراده في هجمات القاعدة على مقراته الأمنية والعسكرية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بل وصلت قوة القاعدة إلى أن سيطرت على قيادة «العسكرية الأولى» في المكلا (عاصمة الإقليم) لأكثر من 23 ساعة.
ملامح دولة مستقبلية
خلال العقدين الأخيرين ردد الكثيرون من نخب صنعاء واللاعبين في الشأن اليمني، بأن السعودية لديها طموحات تاريخية في مد أنابيب تصدير النفط السعودي إلى سواحل البحر العربي عبر ميناء المكلا، هربا من التهديدات الإيرانية لمضيق هرمز، الممر النفطي الهام الفالت من قدرة المملكة على تأمينه. علاوة على ذلك، فان التقارب في معدلات الثروة والسكان والثقافة القائم بين اقليم كحضرموت وأي دولة خليجية أخرى يزيد مما يرونه مشروعا تحت الرماد.
وبغض النظر عن كل ذلك، وسواء أكان تحليلاً أم خيالاً، فان حضرموت (المحافظة) تتمتع بنزعة هوية متفردة عن باقي اليمن شمالا وجنوباً، ويتحدث الناس هناك دائما عن «الشعب الحضرمي» حتى في الأحاديث اللاسياسية أو العابرة.
مع إعلان حضرموت إقليماً من أربع محافظات، أصدرت المكونات السياسية في المهرة بيانا رافضا لضمها إلى حضرموت، إحدى مسوغاته أن اسم الإقليم (حضرموت) ذاته يمسح الهوية التاريخية للمهرة وسُقطرى (لا زالت هاتان المحافظتان تستخدمان لغتهما التاريخية الخاصة غير المكتوبة في أحاديثهما اليومية، إلى جانب اللغة العربية)، وطالبتا بتشكيل إقليم مستقل بهما بحسب حدودهما المعينة في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1967، أي وفق ما خطه الاستعمار البريطاني لجنوب اليمن قبل مغادرته لها، وقبل جهود دولة عدن لتوحيد 21 سلطنة ومشيخة كانت تحكم جنوب اليمن في ظل معاهدات الحماية مع سلطات الاحتلال (التي كانت تسمى أصلا «المحميات») والتي قسمت بدورها جنوب اليمن إلى قسمين (شرقية وغربية)، وكان الإقليم الحالي يدعى المحمية الشرقية.
مؤخرا، التقى الرئيس هادي أصحاب هذه المطالب من المهرة وسقطرى. ونوقش في اللقاء تغيير اسم الإقليم إلى الإقليم الشرقي لمعالجة الحساسية من تسميته الحالية. ولكن قبل ذلك، كان الحزب الاشتراكي اليمني قد تمسك برؤيته للفيدرالية من اقليمين بدلا من ستة اقاليم. ويمكن قراءة ذلك على انه نتاج لمخاوف الحزب من تعزيز نزعة التفرد الحضرمية التي تمتلك حساسية ضد الشمال والجنوب والحزب الاشتراكي نفسه.
على الرغم من كل إمكانياته الاستثنائية ليكون الإقليم المثالي، بخلاف سائر الأقاليم اليمنية، يواجه حضرموت كإقليم ضمن دولة اليمن الاتحادية القادمة (إن تمَّ ذلك) مخاطر التفكك. أكثر من ذلك، فهو قد يمنح إشارة البدء لمسابقة تحويل الأقاليم الاتحادية إلى دول مستقلة مع وجود مطامع من هذا النوع في شمال اليمن أيضا، وفي عدن. وإن كانت رغبات التفكك اليمنية – كما التوحد – لا تتشكل محليا الا بعد ان تكون صورتها قد اكتملت خارجيا.