لليمن استثناءاته الفريدة مجتمعا ودولة, فالخلافات الشخصية التي تحل على يد الشخصيات الاجتماعية أكثر من تلك التي تصل إلى أجهزة الدولة الرسمية وأروقة القضاء ,وتمتلك البلاد قوانين غير مكتوبة تسمى (الأعراف) تكون مرجعية حل الخلافات مهما كان نوعها,ولا زالت سلطتها أقوى وأوسع من سلطة القوانين الرسمية.
ومن المعتاد أن ترى رجل المرور في شوارع صنعاء ينهي خلافا ناتجا عن تصادم سيارتين وفقا للقاعدة الشهيرة هناك”ثلثين وثلث” أي يتحمل المخطئ المتسبب الرئيسي في التصادم ثلثي كلفة إصلاح سيارة الضحية الذي تعرض للصدم ,بينما يتحمل الضحية الثلث المتبقي,وهذا طبعا خلافا للقانون لكنه القاعدة التي تتسبب يوميا في تهميش سلطة الدولة والعودة إلى مربع القبيلة والعرف الاجتماعي القائم على إرضاء الطرفين المتخاصمين غالبا. لايختلف الامر كثيراً حتى في القضايا الوطنية العريضة ، فالمبادرة الخليجية القائمة على مناصفة السلطة ، تشبه الى حد كبير مبدأ رجل المرور المتلخص في “ثلثين وثلث”.
وفقا لهذه الثقافة فإن هذه الثقافة أصبحت نهجا للدولة التي فشلت إلى حد كبير في تطبيق قوانينها التي سنتها ويجب أن تنفذها وتحميها ,واتجهت بالمقابل إلى خيارات الأعراف والحلول الوسطية وسلطتها,حتى لو كان الثمن هو سيادة القانون وهيبة الدولة نفسها فأصبحت لجان الوساطة المشكلة من الدولة تحل محل الدولة التي تكون طرفا في النزاع المراد إنهاءه في أحيان كثيرة, إذ تلجأ الدولة لتكليف مجموعة من الشخصيات القبلية والسياسية ,وأحيانا العسكرية (تسمى لجنة وساطة) لتقوم بحل النزاعات بين جماعات مسلحة تعتبر خارج قوانين الدولة , وتمتلك أسلحة ثقيلة أيضا رغم تجريم القانون لذلك, وبدلا من عمل سلطات الأمن على نزع أسلحتها , وإجبارها على نهج السلوك المدني لحل خلافاتها , تقوم بتوسيط هذه الشخصيات للوصول إلى حلول وسطية ترضي الطرفين ,ودائما ما تكون حلولا مؤقتة لا تستمر إلا لفترات قصيرة وهي حلول تؤحل النزاعات والحروب ولا تنهيها ابدا.
هذه الوساطات المتكررة تقترح أحيانا دفع مبالغ مالية لعصابات تخريبية تقوم بتدمير خطوط الطاقة الكهربائية ,وأنابيب النفط ,أو بخطف أجانب يقيمون على الأراضي اليمنية ,ليس بينهم مبين الخاطفين أي خلافات سابقة ,لتكف عن ممارسة التخريب , وهذا الأمر دفع ببعض المسلحين للقيام بالتخريب طمعا في الحصول على أموال من خزينة الدولة.
ووصل الأمر مؤخرا لتوسط مجموعة من علماء الدين بين الدولة وتنظيم القاعدة الإرهابي حيث قام مجموعة من علماء الدين بالتوسط بين الطرفين بموافقة الدولة التي رفضت لاحقا توقيع اتفاقية الهدنة التي خرجت بها لجنة الوساطة لتقوم الأخيرة بإصدار بيان حملت فيه الدولة المسئولية, رغم ما هو معروف عالميا أنه القاعدة تنظيم إرهابي خارج عن القوانين المحلية والدولية.
ومطلع هذا العام لم تتوقف اشتباكات الجيش مع عناصر القاعدة في منطقة رداع إلا بوساطة من عدة شخصيات ,رغم قتل القاعدة لعدد من عناصر الجيش والأمن هناك وخطفها ل3 من الأجانب تم الاكتفاء بالإفراج عنهم.
آخر الوساطات الرئاسية:
لمرات متعاقبة ولجنة الوساطة التي شكلها الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي تفشل في وقف إطلاق النار بين كل من الحوثيين والسلفيين الذين يخوضون حربا مسلحة بينهما منذ أسابيع استمرارا لمعركة بدأت عام 2011م,نتيجة رفض كل منهما للآخر فكريا حيث يتبع الحوثيون المذهب الشيعي الموالي لإيران ,بينما يتبع السلفيون المذهب الوهابي الموالي للسعودية..
وبينما نجحت الوساطة في إيقاف مؤقت للحرب ,فقد استأنفت الأطراف المتصارعة القصف بالأسلحة المتوسطة والثقيلة التي تملكها خارج القانون ,وصمت السلطة.
إذ يشترط كل منهما شروطا لاستمرار الهدنة تكون عادة هي الدافع لاستئناف القصف فمع بدء إحدى فترات الهدنة قال متحدث حوثي “عملية وقف إطلاق النار بشكل نهائي تتوقف على ما ستخرج به اللجنة من نتائج لقاءاتها مع السلفيين. إذا وافقوا على إخلاء المواقع العسكرية وتسلميها للجيش حسب الاتفاق الموقع مع اللجنة الرئاسية في وقت سابق، سيتم وقف إطلاق النار وما لم فإن المواجهات سوف تستمر”
الوساطات بين طرفين أحدهما حركة الحوثيين ليست الأولى فهي مستمرة منذ العام 2004م, عند نشوب أول حرب لها ,كانت الدولة طرفها الآخر,حين قام الرئيس السابق بتكليف مجموعة من العلماء والبرلمانيين وقادة أحزاب ومشايخ قبائل، لحل الأزمة بينه وبين حسين بدر الدين الحوثي، وفعلا أقنعت اللجنة حسين الحوثي بالحوار، وحددتْ موعدا ومكانا للقاء، إلا أن طائرة عسكرية قصفت مكان اللقاء قبل وصول لجنة الوساطة وحسين الحوثي إليه لتفشل المهمة..
وبعد 4 سنوات من الحرب بين الدولة والحوثيين ,تطور الأمر لتصبح الوساطة إقليمية في أول خطوة لتدويل الصراع بين الدولة والمتمردين الحوثيين,كانت قطر راعيتها ,ونتج عنها ما عرف باتفاقية الدوحة المجحفة في حق الدولة والتي جعلت من الحوثيين ندا لسلطة الدولة,وبدورها أيضا فشلت ونشبت بعدها حرب جديدة.
وقبل آخر الوساطات التي لم ينته دورها بعد ,كان الحوثيون طرفا في 3 صراعات مسلحة ومتزامنة, أحدهما في محافظة إب ,والأخرى في محافظة ذمار وسط البلاد طرفها الثاني مجموعة من السلفيين ,والثالثة في عمران شمالا كان طرفها الثاني مسلحون من قبيلة حاشد موالون لأسرة الشيخ الأحمر المعروفة بموقفها المعادي للحوثيين, نجحت هذه الوساطات في التهدئة لأن ميدان الصراع كان هامشيا ,ويهدف إلى المناورة لكسب المعركة في مناطق أخرى أبرزها منطقة دماج بمحافظة صعدة معقل الحوثيين الرئيسي والخارجة تقريبا عن سيطرة الدولة ,إذ تخضع لسيطرة الحوثيين باستثناء منطقة دماج التي تقف مذهبيا على النقيض لمذهب الحوثيين ,ويتواجد فيها أكبر وأهم مركز للتعليم الديني السلفي(سنة وهابية) يلتحق به متعلمون من عشرات الجنسيات ,ويمتلكون أسلحة خفيفة ومتوسطة مكنتهم إلى جانب عقيدتهم الدينية المتشددة من التصدي لمحاولات الحوثي المتعددة لإخضاع منطقتهم لسيطرته , ولا زالت لجنة الوساطة الرئاسية تخوض ماراثوناتها المستمرة انتقالا بين دماج (مركز السلفيين) ,ومران (مركز الحوثيين) دون الوصول إلى حلول ترضي الطرفين ,ودون حتى الترهيب بسلطة الدولة.
الوساطات كطعم للآخر:
قد تلجأ الدولة لذلك تكتيكيا ,وقد يكون سبيله الأقل كلفة أحيانا أخرى,وفي أحيان أخرى تكون لجنة الوساطة نفسها طعما لاستهداف الخصم كما حدث للجنة التي أرسلها الرئيس السابق في مايو 2011,لحل النزاع المسلح بينه وبين أسرة آل الأحمر في العاصمة صنعاء بعد نقض تحالفهما التاريخي وخرج آل الأحمر للمطالبة بتنحي صالح مطلع العام نفسه, إذ تم قصف منزل الأحمر أثناء تواجد لجنة الوساطة الرئاسية ,وسقط عدد من القتلى والجرحى بعضهم من أعضاء اللجنة , ما دعى باقي أعضائها إلى إصدار بيان حملوا فيه صالح المسئولية , وأعلنوا وقوفهم إلى جانب آل الأحمر. وقد وجه النائب العام بالتحقيق مع الرئيس السابق وبعض أقربائه حول الحادث بناء على دعوى قضائية من الطرف الآخر.
قبل هذه الحادثة بأكثر من شهر اتهم اللواء علي محسن الأحمر ذراع صالح اليمنى ,وابن منطقته القبلية(الذي انضم للثورة ضد صالح حينها مع أولاد الأحمر) الرئيس السابق (صالح) بأنه سعى إلى قتله عبر تدبير مكيدة على شكل وساطة قبلية واسعة للصلح بينه وبين صالح كانت أقرب إلى المظاهرة ,فإلى جانب أفراد الوساطة الأساسية توجه إلى مقر اللواء محسن قرابة 3 آلاف فرد من أبناء منطقته ,وعند وصول هؤلاء وخروج اللواء لاستقبالهم انطلقت عيارات نارية متفرقة قتلت وأصابت عدة أفراد ,لكنها فشلت في قتله, وبالمقابل اتهم صالح خصمه محسن بمهاجمة لجنة الوساطة والاعتداء عليها.
قتل الوسطاء:
رغم الأثر السلبي الذي يتركه العرف الاجتماعي على القوانين الرسمية,فإن قتل الوسيط بين طرفين مهما كان موقفه يعد وفقا لهذه الأعراف (عيب أسود) , أي جرم بالغ العقوبة ,ويجعل من يقوم به تحت رحمة أولياء دم المقتول ليحكموا عليه أي حكم يرضيهم مهما كان مجحفا , مع أن وصمة العار والدونية والاحتقار والنبذ الاجتماعي تظل عالقة بمن يغدر بالوسيط مهما تحمل من عقاب.
وعليه فإن الدولة حين تستخدم الوسطاء كطعم أحيانا – وإن كانت مسئولية ذلك تقع على شخص الحاكم وليس الدولة – تكون قد أفسدت الأعراف كما حطمت القوانين التي يجب عليها حمايتها ,وأخذت بأسوأ ما في الأمرين , ما لم تعمل السلطة الجديدة على الخروج من دوامة الوساطات إلى دروب القانون.