تتفرّد اليمن بتقاليد عريقة وعنيفة في الوقت نفسه تضفي طابعاً خاصاً على حفلات الأعراس المكلفة والباذخة مقارنة بمستوى دخل الفرد المتدنّي. وترتبط طقوس الأعراس بالزيّ التقليدي وبالسلاح الأبيض وكذلك الناري الذي قد يسقِط قتلى من بين المحتفلين، كما حدث في محافظة إب وسط البلاد حين قتل شيخ قبيلة برصاص محتفلين. وقد نتج عن الحادثة توقيع وثيقة شعبيّة تجرّم إطلاق النار في الأعراس، مع الإشارة إلى أن القوانين اليمنيّة تحظّر ذلك إلا أنها لا تطبّق عملياً. وقبل عام فقط، أصيبت طائرة مدنيّة تابعة للخطوط الجويّة اليمنيّة برصاصة طائشة أطلقها محتفلون بعرس أحد سكان المنطقة المحيطة بمطار صنعاء الدولي، فيما كانت تستعدّ للهبوط وعلى متنها 150 راكباً.

في الإطار نفسه، يتزايد انتشار ظاهرة الأعراس الجماعيّة. ففي تشرين الأول/أكتوبر الماضي شهدت مدينة صنعاء عرساً جماعياً لنحو أربعة آلاف عريس وعروس. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ما من اختلاط في تلك الحفلات. فالعرسان يحتفلون في قاعات خاصة بهم، بينما العرائس يحتفلن في أخرى خاصة بالإناث يُمنع إدخال إليها الهواتف المزوّدة بكاميرات للتصوير.

والعرس الجماعي الأكبر في اليمن نظّمته مؤسّسة اليتيم للتنمية بتمويل من أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، وهي المؤسّسة ذاتها التي نظّمت قبل عامَين عرساً جماعياً كان الأكبر حينها. لكن تمويله كان من قبل ولي العهد السعودي الراحل سلطان بن عبد العزيز. وللأمر علاقة بتحوّلات تحالفات الإخوان المسلمين إقليمياً، التي تُعتبر مؤسّسة اليتيم إحدى أدوات نشاطهم الاجتماعي. فقد تحوّل اتجاه بوصلة التدفّق المالي بعد الربيع العربي – تحت غطاء الأعمال الخيريّة – من الرياض إلى الدوحة.

الزواج كشراكة بحسب الحاجة

يكفي أن تدرك سنّ البلوغ في اليمن، ليصبح الزواج همّك الأول. فالشباب والشابات بمعظهم يتزوّجون ما بين 15 و20 عاماً، مع الإشارة إلى انخفاض سنّ زواج الإناث مقارنة بالذكور. فيصبح زواج الصغيرات واحدة من القضايا المطروحة على طاولة الحوار الوطني، وذلك بعد عرقلة إقرار قانون ينظّم الأمر من قبل البرلمان وبضغط من القوى الدينيّة التي ترى أن الزواج المبكر ضرورة لحماية الشباب من الانحراف الجنسي.

إلى ذلك، بمجرّد احتياج أسرة ما إلى عضو عامل جديد يساعد على إنجاز متطلبات الحقول الزراعيّة -في الأرياف تحديداً-، فإنها تسعى إلى تزويج ولدها بغضّ النظر عن سنّه وقدرته الماديّة. وهنا، نجد عرفاً محلياً خاصاً بهذه الحالات بهدف تجاوز مشكلة عدم بلوغ الأنثى جسدياً وبالتالي عدم قدرتها على تلبية طلبات الزوج الجنسيّة. ويقول العرف باشتراط تأخير عمليّة الاتصال الجنسي لسنوات عدّة. وفي العادة أيضاً، تتولى الأسرة اختيار الزوجة المناسبة لولدها في ظلّ الفصل الاجتماعي بين الجنسَين، الأمر الذي يمنع الشاب من التعرّف إلى فتاة قبل الزواج إلا في نطاق محدود وخارج علم الأسرة بالطبع. أما الفتاة، فأسرتها تعلِمها فقط بتقدّم شاب لطلب الزواج منها، في حين يبقى قرار القبول أو الرفض أمراً محصوراً بالأب. لكن في حالات قليلة، عندما يكون الأخير على درجة من التعليم والثقافة، فإنه يأخذ موافقة ابنته على محمل الجدّ.

إلى ذلك، نجد نوعاً خاصاً من الزيجات قائماً على العلاقة الاجتماعيّة ما بين أسرتَين أو على اتفاق ما بين شابَين مثلاً على تبادل أختَيهما. فيتزوّج كلّ شاب من أخت الآخر من دون مقابل مادي كما هي العادة في بعض مناطق اليمن، ويسمّى هذا الزواج “زواج الشغار” وغالبا ما تكون نتائجه كارثيّة على الفتيات. ففي حال قام شاب منهما بتطليق زوجته (أخت صديقه) فعلى الآخر القيام بتطليق زوجته أيضاً حتى لو كانت حياتهما مستقرّة وسعيدة. فالأمر أشبه بفضّ شراكة بين طرفَين. وهذا النوع من الزواج قد تكون دوافعه ماديّة بحتة، بخاصة في الأسر الريفيّة الثريّة وذلك بدافع التحايل على الإناث اللواتي يرثن نصف ما يرثه الرجل عند موت الوالد/الوالدة وحتى لا تذهب ثروة الأسرة التي ترثها الأنثى إلى شخص من خارج الأسرة.

الزواج والسياسية

تتأثّر الزيجات أيضاً بطبيعة النظام السياسي القائم. فعلى سبيل المثال، قام نظام الرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي (1973-1977) بوضع قوانين صارمة تحدّد مهور الزواج بمبالغ بسيطة (في شمال اليمن حينها) وتحرّم طقوس الاحتفال الباذخة وإطلاق النار فيها كتعبير عن الفرحة. لكن قوانينه اختفت باغتياله، لتصبح حفلات الأعراس من دون ضوابط إلا في ما يتعلق بإطلاق النار. فثمّة قوانين تحرّمها لكنها لا تُطبَّق. الأمر ذاته ينطبق على النظام الذي كان سائداً في جنوب اليمن أثناء حكم الحزب الاشتراكي اليمني الأقرب إلى العلمانيّة (1978-1990). فقد جرّم تعدّد الزوجات (يحقّ للرجل المسلم الزواج من أربع زوجات في الوقت نفسه) وعاقب أحد أبرز قياداته عندما جمع بين زوجتَين بإزاحته من منصبه الحزبي.

في اليمن هذا البلد الفقير جداً، قد تتجاوز تكاليف عرس شاب ثري عشرات الآلاف من الدولارات الأميركيّة، مع مظاهر اجتماعيّة تقتضي التقليد والمباهاة. أما الشاب الفقير فقد يُحرم من الزواج أحياناً لعدم قدرته على إقامة احتفال بما تقتضيه عادات المنطقة. ومن هنا ظهرت جمعيات خيريّة (وهي جمعيات للتعاون الاجتماعي وغالباً ما تكون دينيّة) متخصّصة في تيسير زواج الشباب. فتجمع الأموال من فاعلي الخير لتقيم حفلات عرس جماعيّة لمن هم غير قادرين على تحمّل التكلفة. ثم تترك الشاب ليتحمّل بمفرده نتيجة زواجه فقراً وتعاسة وأولاداً من دون إعالة.

وهذه الجمعيات كجمعيّة البرّ والعفاف ومؤسّسة اليتيم التنمويّة، لها شروطها أيضاً. ففي الغالب يكون الشاب الذي ترغب في إدراجه على قائمة عرسها الجماعي، مقرّباً من موقفها السياسي/تيارها الديني، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مموّليها. وكما سبق وتحوّل تمويل الأعراس الجماعيّة التي تقيمها مؤسّسة اليتيم من الرياض إلى الدوحة بعد تغيّر خارطة التحالفات السياسيّة الإقليميّة للإخوان المسلمين، فإن ذلك ينطبق أيضاً على مؤسّسة الصالح الاجتماعيّة الموالية للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، التي  تختار الشباب الذين يستفيدون من أعراسها الجماعيّة من بين الموالين لحزب صالح ولجمعية الإصلاح التابعة لحزب الإصلاح (إخوان مسلمون) أيضاً.

من جهة أخرى، فإن الزواج في اليمن نافذة غير رسميّة للتحالفات السياسيّة والقبليّة. فعلاقة المصاهرة ما بين اللواء علي محسن (مستشار الرئيس للدفاع والأمن) وبين القيادي في الحراك الجنوبي/القيادي السابق في تنظيم القاعدة طارق الفضلي، أدّت إلى علاقة تحالف عميق بين الشخصَين انعكس على الانتماء السياسي للأخير ليتحوّل إلى قيادي في حزب المؤتمر الحاكم سابقاً. كذلك فإن وصول أفراد من أسر يمنيّة عدّة إلى مناصب قياديّة عليا في الدولة في فترة حكم صالح، قامت أساساً على علاقة المصاهرة مع أفراد أسرته. وقد فقدت هذه الشخصيات مناصبها بمجرّد خروج الرجل من السلطة رسمياً في العام 2012. ومن بين تلك الشخصيات وزراء وقيادات حزبيّة. والأمر نفسه ينطبق على التحالفات القبليّة. فقد عمّقت علاقة نسب بين أسرة الأحمر زعيمة قبائل حاشد وبين إحدى الأسر المشايخيّة  في قبيلة بكيل، تحالفات الطرفَين المتنافسَين في العادة. وقبل أشهر تحوّل عرس يمني إلى قضيّة سياسيّة شغلت الرأي العام، حين قام مرافقون في موكب عرس يتبع لشيخ قبلي وقيادي حزبي بإطلاق النار على ثلاثة شبان، بمجرّد اقتراب سيارتهم من سيارة العروس. فسقط شابان منهم قتيليَن. وقد شنّت وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقيّة حملة كبيرة ضدّ الشيخ وحزبه، كذلك فعلت الأحزاب المتنازعة مع حزب الشيخ. وحتى اليوم ما زال القاتل طليقاً خارج قبضة الأجهزة الرسميّة، على الرغم من معرفة هويّته، نظراً لحماية الشيخ له.

الطبقات الاجتماعيّة والزواج

ما زال اليمن مقسّماً اجتماعياً إلى طبقات تزيد حدّتها في شمال الشمال، حيث لا يمكن لك كمواطن عادي لا تتحدّر من عائلة النبي محمد أي أنك لست من آل البيت أو الأسر الهاشميّة بحسب ما يطلق عليهم، أن تتزوّج من فتاة من أسرة هاشميّة. لهذا ترتفع نسبة العنوسة بين الإناث في هذه الطبقة. في المقابل إن كنت من طبقة المزاينة والمهمشين (المزين مصطلح يمني يطلق على كلّ من يمارس مهنة الجزارة والحدادة والحلاقة وأحياناً بيع الخضار، والمهمش هو ذو اللون الأسود غير المنتمي إلى أسرة معروفة النسب لعدّة أجيال) لا يمكن لك أن تتزوّج من أسرة قبليّة عاديّة، لأنك لا تحظى باحترام المجتمع المحيط. فقد يترتّب على أي أسرة قبليّة تقبل بتزويجك إحدى فتياتها أن تحرم بقيّة فتيات الأسرة من الزواج، لأنك ارتكبت عيباً اجتماعياً يصعب غفرانه. وهذه الأعراف غير المكتوبة تتحكّم إلى حدّ كبير في اقتصار زواج أفراد كلّ طبقة على أفرادها، في ما يشبه العزل الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين. وعلى الرغم من أن عدداً كبيراً من الأسر المتعلمة بشكل جيّد لم تعد تتمسّك بهذه التصنيفات وتجاوزت أعراف المجتمع القبلي، إلا أن القاعدة لم تُكسر تماماً بعد بخاصة كلما اتجهنا شمالاً إلى حيث تتدنّى نسبة التعليم وترتفع صرامة أعراف القبيلة.

في اليمن تتماهى الأعراس مع السياسة وتتشابه نتائج الأمرَين أيضاً كسلوكَين لا يُنظَر إلى تفاصيلهما إلا بعد الذهاب في مساراتهما التي تنتهي بما لا يفرح من يختبرهما.

نشر هذا المقال في Al-Monitor

10