مقابلة لإذاعة الوضع مع الباحث فارع المسلمي، الكاتب في السفير العربي، وأحد مؤسسي “مركز صنعاء للدراسات الاستراتجية”.
أجرت المقابلة: نهلة الشهال
معنى نقل البنك المركزي إلى عدن
استطالت الحرب وأدت لكوارث دون وجود أفق لتوقّفها، ما يحمل معه مخاطر بدمار البلد: جرى نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، وتعثّرت كل محاولات التفاوض حول حلّ ما للوضع العنيف في البلد.. ما هو موضوع نقل البنك المركزي من صنعاء؟
نُقِل البنك المركزي بعد ما يُقارب 20 شهراً من التدخل السعودي في اليمن وما يقارب العامين من انقلاب الحوثيين على السلطة قبل ذلك.. وجدت الكثير من الأطراف المحلية والإقليمية أن البنك المركزي هو السلاح الأكثر فتكاً حالياً لتقطيع أوصال الحوثيين، وهذه وجهة النظر تتشارك فيها الحكومة اليمنية في المنفى بقيادة الرئيس هادي وبعض القوى الإقليمية التي تدفع به وتقاتل معه. الخطورة وسيلة تؤدي بالمعنى الواسع إلى حرق اليمن، والأثر المباشر الذي تحدثه على حياة اليمنيين هو أكبر بكثير من أي أذى يتعرّض له الحوثيون وصالح جراءها. فالخطوة تقطع أوصال اليمن واليمنيين وليس أوصال الحوثيين. أولاً، صحيح أن هناك مبلغ بسيط جداً يستطيع أن يحصل عليه الحوثيون من الاعتمادات المالية، لكن هناك بالمعنى الواسع موارد مالية هائلة لهم خارج إطار البنك المركزي، وهذه يمكن قصقصتها من دون أذيّة اليمنيين بشكل مباشر. ثانياً، حتى السوق السوداء التي يكسب منها الحوثيّون عشرات ملايين الدولارات يمكن مواجهتها بدلاً من مواجهة البنك المركزي. بمعنى آخر، خلال عامين من الحرب في اليمن، كان البنك المركزي هو آخر مؤسسة تجمع الجمهورية اليمنية وآخر مؤسسة تتعامل مع عدن وصنعاء (لكن كان هناك مشكلة مع مأرب أنها لم تحول الواردات للبنك المركزي ولم تحصل على مستحقّاتها بناء على ذلك). بالنسبة لبقية المحافظات، بقيت هذه المؤسسة شريان الدولة في اليمن وآخر مخطوطة لها. تفكيكها هو بداية لانهيار الدولة وتفتيتها بالشكل العام. ثالثاً، الظروف والقدرات الحكومية كانت غير قادرة على إدارتها ولا تزال كذلك، بعد عام من تحرير عدن، والرئيس في الخارج، وإذا كانت عدن جاهزة لنقل البنك إليها فلينتقل لها الرئيس والحكومة أوّلاً بشكل كامل ودائم. إضافة إلى هذا كله فما يقارب 21 مليون يمني بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة.. لقد جرى تفكيك الثقة الدولية بالمؤسسة المالية الوحيدة في اليمن.تحارب اللبنانيون 15 سنة، لكن لم تمسّ المؤسسة المالية. على أي حال في نهاية المطاف خطوة نقل البنك المركزي تؤدّي إلى إطالة الحرب وهي خطوة غير مدروسة، وخاصة إذا ما قورن بين القيادة الجديدة والقيادة السابقة للبنك التي كانت تتمتع بثقة محلية ودولية مهمة وبنزاهة، وهي من العملات النادرة في بلد كاليمن. إضافة إلى كل هذا تؤسس الخطوة إلى زيادة الدور الإقليمي والخارجي والدور الدولي في اليمن، لأنّها في النهاية تسحب الأزمة من أيدي اليمنيين. وفي معناها العام، فالخطوة تعبر عن عدم مسؤولية في أحسن الأحوال من قبل قيادة هادي..
هل دُرست أو وُزنت أم أنها تأتي من ضمن الأشياء التي هي أوّلاً رمزية ومن جهة ثانية كيدية؟
هي كيدية. لكنك قد تكايد أحياناً بإطلاق الرصاص على قدمك ولا تكايد بإطلاق الرصاص على قلبك. وبخصوص مسألة إن كانت مدروسة ، فنقل البنك المركزي هو كخيار الحرب ليس مدروساً، ولم يُتخذ لأسباب يمنية أو لتحسين وضع اليمنيين. وهي تمسّ الحلقة الأضعف في هذه المعادلة العسكرية والحربية كلها (أي مسألة حياة المواطن اليمني)، وتمّ التعامل معها بخفة. شخص مثل علي عبد الله صالح مثلاً، تقول الأمم المتحدة أنّ لديه ثروات ما بين 30 و60 مليار دولار، فماذا سيكسب أو يخسر من حجز البنك المركزي؟ 10 أو 20 أو 30 أو مئة مليون دولار؟ يمكن قصقصة أجنحة هذا الرجل إذا كنت جاداً في مواجهته، من دون قصقصة أجنحة اليمن. هذه مشكلة الحرب: هناك الكثير من المسببات والأدوات التي أدّت لهذه النتيجة، ولكن تمّ تجاهل هذه الأسباب سواء داخلياً أو محلياً أو إقليمياً، والقفز كما العادة إلى إجراءات لا تؤذي إلا الناس.
قصة أخرى للدلالة على الوضع: قبل شهرين، كان هناك اجتماع لمجلس حقوق للإنسان في جنيف، والعام الماضي حصل الاجتماع نفسه. تقدمت هولندا ومجموعة من الدول الأوروبية بمشروع تشكيل لجنة تحقيق دولي لانتهاكات الحرب في اليمن، حيث تنافس الحوثيون والسعودية على ارتكاب جرائم حرب مختلفة وعلى انتهاك حقوق الإنسان، وكلّهم تفنّن في هذه الانتهاكات.. على أي حال كان هناك مقترح لتشكيل لجنة حقيقية، هي الرّهان الوحيد لانتصار ضحايا الحرب ولتحقيق العدالة لليمنيين بالشكل الأدنى – حتى لا نكون ساذجين ونقول أنها تمأسس لمرحلة العدالة. عملت الحكومة اليمنية في جنيف ببعثات على منع تشكيل لجنة التحقيق الدولية وإفشال المقترح، بل قامت بتسفيه مطلب تشكيل اللجنة بتشكيل لجنة وطنية، هي تعرف جيداً أنها عديمة المعنى وتعرف أنها من دون سلطة وليس لها قوة أخلاقية وتمّ تشكيلها للاحتيال على تشكيل لجنة تحقيق دولية. إذا كانت الحكومة تتحدث عن الحصار الدامي الذي تتعرض له تعز مثلاً، وهذا حقيقي فالحوثيون وصالح خنقوا تعز العام الماضي وارتكبوا جرائم حرب وارتكبوا كثيراً من الأمور البشعة في تعز وسواها، لكن لا يمكن الانتصار لتعز في هذه الحالة ووضع حد لهذه الانتهاكات إلا بتشكيل لجنة تحقيق دولية تشكل رادعاً على الأقل. الحكومة منعت تشكيل اللجنة، وهي تريد أولاً أن تحمي الغطاء الأكبر لها أي السعودية، متجاهلة أن هذا يفقدها القيمة الشرعية الأخلاقية البسيطة المتمثلة في أنّها تمثل كل اليمنيين وليس بعض اليمنيين. وهذه نقطة جوهرية في موضوعة الشرعية. لكن أهمّ من هذا كله أنّها دافعت عن انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، مما يمكننا من القول إنّها حَمَت وحصّنت الحوثيين. هذه المقاربة مهمة، لأنّها تثبت أن هذه الحرب ليست من أجل اليمنيين ولا يمكن أن تكون من أجل اليمنيين.
الاتهام بـ”الحيادية” في الحرب
هناك مسألة سبق أن تناولناها في السفير العربي هي اتّهامكم، أنت وعدد من الشبان والشابات، بنعت يُقصد منه التشنيع وهو أنكم “محايدون”، والمحايدة في هذه الحالة تبدو وكأنها خيانة، وكأنها تخلٍ عن البلد، فيما أنت تشير إلى أن هذه الحرب بكل مفرداتها وأطرافها هي حرب مدمّرة وعبثية ولن يكون لها مخرج أو حلّ من داخلها..
إن كان خيانة لهذه الحرب فهو شرف لكثير من الناس، أن تكون محايداً عن سوءَين لا يختلفان إلا بدرجة معيّنة. هذا أمرٌ لا يجب الدفاع عنه أو تفسيره. نحن في وضع ، بالمنطقة بشكل عام وليس في اليمن فقط، لا يوجد فيه أبيض وأسود، ولا يوجد خيار بين خطأ وصح، بل بين خطأ وخطأ آخر بالمعنى المباشر. لكن بالمعنى السياسي، نحن نعتقد أنّ هناك وضعاً في اليمن، هذا البلد الذي عاش ثورة شعبية عارمة في 2011 و2012 لعلها أكثر الثورات سلمية في المنطقة. ما تمّ حينها من سياقات، بقيادة كلّ هذه الأطراف، سواء الرئيس هادي أو حلفاء من الثورة من الإخوان المسلمين، أو برعاية مجلس التعاون الخليجي والأمم المتحدة، كان عملاً ممنهجاً لفكفكة اليمن، وكان سياقاً مختلاً ليحاول منع الانتقال باليمن إلى وضع مختلف.. بمعنى آخر، هذه الحرب التي تجري في اليمن هي نتيجة طبيعية لمجموعة من السياقات السياسية التي حلّت خلال السنوات الثلاث، وهي لم تقع من السماء.. هناك جزئيات: مثلاً إسقاط صنعاء من قبل الحوثيين، وهذه جزئية مهمّة. تمّ ذلك برعاية إقليمية، وتمّ ذلك برعاية من الرئيس في صنعاء، وبتواطؤ من الكثير من الأطراف الغربية والإقليمية التي كانت لها حساباتها المعينة لإسقاط صنعاء. يمكن للمرء أن يُجادل حول حتمية دخول السعودية الحرب في اليمن والقول بأنّ الحوثيين دفعوا بالأمور إلى الحافة… لكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يُدافع عن القوة الفتاكة التي استخدمَتها في اليمن. هناك سوء وسوء آخر.. والعمل حالياً هو على إنهاء هذا السوء وليس الانخراط فيه. وتسود الآن مرحلة إعادة تعريف اليمني بزيود وشوافع، مطلع ومنزل، هذا يخزّن قاتاً على اليمين وهذا يخزّن على اليسار، وهويّات بدائية، ونحن نعتقد أن الانخراط فيها خيانة لليمن. الانخراط في هذه الحرب ليس حلاً، هذا أولاً، ولن يؤدّي إلى حسمها حتى بالمعنى البراغماتي، ولن يقود اليمن إلا إلى مزيد من الدمار. هذه الأطراف المحلية والإقليمية والدولية التي تقود الحرب الآن تناوبت على تدمير هذا البلد، والتناوب على الاصطفاف معها هو تناوب على تدمير هذا البلد.
كيف يخلق سياق جديد. هذا السياق يعني الناس كلّها.. هذه نقطة مهمّة، وهي كيف يمكن أن تراهن على حكومة أو أطراف سياسية تعمل بشكل ممنهج على منع تحقيق العدالة لليمنيين، كما في جنيف على سبيل المثال؟ لا يمكن لأيّ شخص يحترم نفسه وبلده أن يكون من هذا السياق بالمعنى الأخلاقي وليس بالمعنى السياسي فقط. ثمّ مرة ثانية نحن بلد لدينا فائض قومي هائل من الحروب، وآخر ما نحتاجه هو حرب، وآخر ما يجب أن نسمح به هو استخدام بلدنا لمجموعة مغامرين محليين كالحوثيين أو مجموعة مغامرين إقليمين ودوليين يحاولون استخدام اليمن لمعارك أُخرى.. شيء آخر مهم: لماذا هذه الأطراف تسوء كلها؟ الحوثيون مثلاً قبل بداية الحرب الأخيرة وقبل دخول السعودية الحرب قاموا بإجراء مناورة عسكرية على الحدود على جنوب السعودية وهذه خطة مجنونة ولا حاجة لها بالمعنى السياسي، وإذا كان لديك أدنى اهتمام باليمن أو أي مسؤولية نحو اليمنيين، فهناك 3 مليون يمني يعيشون في السعودية. تريد أن تفتح جبهة، وتستخدم اليمنيين كوقود لأغراض أخرى؟ كيف يمكن لهذا أن يكون سياقاً وطنياً؟ هذه اصطفافات نرفضها بالمجمل ونرفض أنْ نكون جزءاً منها، وهذا هو أفضل ما يمكن أن يعمله المرء لليمن والمنطقة حالياً.