للغة هي مقياس كلّ شيء وفاتحة كلّ كتاب وأسرع مؤشر وأقله ضبابية لفهم الساسة وتجار الحروب ولفهم الأجندات والنفوس. اليمن يحكمها اليوم خطابان كلاهما قاتل. يتزعم أحدهما الحوثيون والرئيس السابق صالح، والآخر الرئيس هادي وحكومته.
مكّنت وسائل التكنولوجيا العامة من “قفش” اللصوص والمخادعين بشكل أكثر وأسرع، لتوثيق ما يصدر عنهم للرأي العام، وللمستقبل. اللغة تصطادها تقنيات البث المباشر وتعرّي بها أقنعة كثيرة، وتجعل منها كنزاً تحليلياً لمراكز الأبحاث وأجهزة المخابرات، إضافة إلى رصدها لغة الجسد، مادة النفسانيين المفضلة لتعرية الساسة، وهم يتستّرون بأغلى البدلات وربطات العنق. وهذا في العالم كله.

صالح والحوثي

في مقابلة له مع قناة “روسيا اليوم” في أواخر نيسان/ أبريل 2016، قال علي عبد الله صالح عن الحرب المدمّرة وعواقبها في اليمن “نحن شعب متعوّد.. كنا نأكل الرز مع الدجاج، الآن نأكل الرز بلا الدجاج”. ببساطة! في بلد يجوع بالمعنى الحرفي ما يقارب 80 في المئة من سكانه.
أربعة عقود من العمل السياسي وآلاف الخطابات التي ألقاها صالح دفعته بحكم الثقة إلى الاستغناء عن الخطابات المكتوبة، لكنّها وضعته أمام نفسه أكثر من أي وقت مضى.

إذ لم يعُد اليوم يتعامل مع الألفاظ كرجل سياسة أو دولة بل كزعيم مافيا متحرّر من كل شيء وكل التزام، حتى لغوي.. كخصم يريد إيلام خصومه. لكنه في خطابه يفصح عن نفسه أكثر مما يقول عنهم. في مقابلة له مع قناة العربية أواخر العام 2009 قال مدافعاً عن حروب صعدة التي خاضها ضد الحوثيين أن الدولة لم تخسر شيئاً: “هو جندي وسيأتي بدله”.. هكذا تحدث عن حياة عشرات الآلاف من اليمنيين راحوا ضحية حروب لم يفهم أحد أسبابها حتى اليوم. وهي حروب حوّلت صعدة من مدينة الرمان والفلاحين والأغاني واليهود والقبائل اليمانية المتعايشة والمتنوعة بسلام ومحبة، إلى مدينة محافظها أكبر تاجر سلاح في اليمن والقرن الأفريقي، وتتوسّع مقابرها أكثر من مزارعها.
خطاب صالح يتشابه كثيراً مع خطاب خصمه سابقاً الذي يتحالف معه الآن (عبد الملك الحوثي)، ويخضع الشخصان لعقوبات دولية بموجب قرار مجلس الأمن الدولي منذ العام 2014. قال عبد الملك الحوثي إنّ على المحتجين على صفقة “المجلس السياسي” والشراكة التي عقدها مع علي عبد الله صالح مؤخراً أن “يضربوا رؤوسهم بأقرب صخرة”. هكذا، دون أدنى حساسية تجاه أمهات وأطفال آلاف من أبناء صعدة أو حتى من أعضاء جماعته الذين سحقهم صالح بحروبه الستة ضدهم. تساوى هؤلاء في خطاب الحوثي مع الجنود في خطاب صالح، من دون أن يفكر أحدهما في تبرير تحالفه مع مَن اعتبره خصماً تاريخياً لسنوات، وحشد طاقاته لشيطنته أمام أنصاره.. حتى ليصعب تصور كيف أمكنهما نزع تلك المشاعر المتبادلة بينهما في الطريق إلى “الكرسي”، أو على الأقل التساؤل عن أي من الخطابات يعكس حقيقة ما يحمله كل منهما للآخر.

وثالثهما هادي، مثلهما

السؤال هو لماذا يضطر البعض إلى التعامل مع خطابات صالح والحوثي بتلك الدرجة من الأهمية، وهما دستورياً خارج السلطة؟ لأن الحاكم المفوض دستورياً والمنتخَب، والمسؤول الأول حالياً، هو تلميذ المدرسة الخطابية والسياسية نفسها. قال الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي في مقابلة مع صحيفة الوطن السعودية في آذار/ مارس 2016 ما مفاده أنه “لديّ مقاتلون، وأنتم (الخليجيون) تحتاجون لمن يقاتل معكم، فمنّي الرجال ومنكم المال”. كان هذا هو أكبر قدر من الخيال يمتلكه الرئيس اليمني الحالي في وعيه لما يمكن أن يقوم به اليمني: “القتال من أجل المال”. صورة كاشفة وفاضحة لطريقة تفكير رأس البلد القابع في المنافي. هذا الوعي ليس نتاج لحظته بل إنّ له سياقاً تاريخياً في مسيرة هادي ودوره العابر للعصور: تأمين المقاتلين لمن أراد.
حينما غادر آخر جندي بريطاني محافظة أبين جنوب اليمن (1963) كان الرئيس هادي حينها أحد المقاتلين الكبار في قبيلته (آل مارم)، أمّنت آل مارم خروج آخر الضباط الإنجليز بسلام. حصلت مقابل ذلك على نفوذ واسع في القرار الأمني والقتالي والعسكري في البلاد، كمكافأة كان أحد أبطالها عبد ربه منصور هادي نفسه. وقد استمرت تلك المهمة الأمنية لآل مارم حتى بعد نزوح مجموعة من قادة الجنوب إلى صنعاء بعد أحداث كانون الثاني / يناير 1986 (التي كانت مواجهة بالغة الدموية بين قيادات اليمن الجنوبي حينها)، لتأمين حياة من نزح من القادة الجنوبيين إلى صنعاء. وينحدر هادي ورئيسه وقتها (علي ناصر محمد) من محافظة أبين التي تنتمي إليها القبيلة، وكانت المناطقية إحدى السمات الأساسية لذلك الصراع. “وعيه” ذاك لم يستطع هادي الخلاص منه حتى وهو يترأس البلد بعد ثورة عارمة منحته دعماً داخلياً وخارجياً لا مثيل له في التاريخ اليمني. فحتى وهو في قمة البلد لم يستطع إلا الإفصاح عن وعيه الكامن، المشابه لوعي صالح الذي قرأ من دفتره نفسه على حد قول واحد من كبار قادته العسكريين، أو على حد تعبير ساخر لكاتب يمني “إن كل الناس خلقهم الله إلا عبد ربه فقد خلقه علي عبد الله (صالح)”. بل وفي قلب قصة صعود هادي نفسها في ظل نظام صالح، كان توفير المقاتلين وغطاء جنوبي لصالح أثناء حرب 1994 (التي شنها صالح ضد “جمهورية اليمن الديمقراطية” التي أعلنها علي سالم البيض، واعتبرت محاولة انفصالية للجنوب عن اليمن الموحد في 1990)، هي كلمة السر التي وضعته بعد أشهر من نهاية الحرب في منصب الرجل الثاني دستورياً.
يتشابه المعلم والتلميذ في أحلامهما ووعييهما، وأكثر من ذلك في مشاريعهم الحربية. أن تصعد في زمن الحرب إلى قمة الهرم، فلن تفكر في الجنود الذين صعدتَ على دمائهم بل في كيفية توفير مورد آمن ومستمر منهم.
في مقابلته تلك مع “روسيا اليوم” أفصح صالح أيضاً عن عدم انزعاجه من مقاتلة رجاله في الجبهات الجيش التابع للحكومة الشرعية. قال إنّ أهم شيء هو “أن يجلبوا سلاحاً جديداً”. خيال غنائمي و”حربجي”، يجعله زعيم عصابة، لا أكثر ولا أقل.

“أصحاب أزا ل” و “أصحاب أبين”

لم يختلف عبد ربه منصور هادي كثيراً. ففي إطار مدحه لمخرَجات “مؤتمر الحوار الوطني” انصب اهتمامه على أنّها كانت ستضمن توزيعاً عادلاً للنفط والثروات الطبيعية بين الناس. هذه الجزئية (التي كررها الرئيس هادي مراراً في مقابلته الأخيرة مع قناة الجزيرة من نيويورك في 22 أيلول/سبتمبر 2016)، هي ما يشي بأسوأ ما في المخرجات التي تمتدحها الأمم المتحدة والعالم، في تعريف مختل للتسوية والموارد وملكيتها، وكيف أن هذه ثروات للأجيال وللبنى التحتية وليست لـ “التقاسم”، ناهيك من تقاسمها بين مجموعة من الفاسدين واللصوص والمجرمين.. هذا منطق المافيات، وهو نفسه خطاب صالح.. منقحاً ومطوراً. في المقابلة نفسها، قال الرئيس هادي إنّ الكل في اليمن قَبِل بالأقاليم باستثناء “أصحاب إقليم أزا ل”، وهو يقصد العاصمة صنعاء وشمال الشمال.. هكذا يتحدث عن ملايين اليمنيين بنفَس مناطقي وعنصري بينما هو أقسم يميناً دستورية بأن يكون رئيسهم. وفي تسريب حديث نشرته قناة الجزيرة مؤخراً لصالح، كان يحذر قائداً عسكرياً شمالياً في منتصف العام 2014 من السماع “لصاحب أبين”، ويقصد عبد ربه منصور هادي رئيس الجمهورية حينها.

تشير وثائق ويكيليكس إلى سخرية الرئيس اليمني السابق صالح في إحدى زيارات ضيفه، قائد القوات المركزية الأميركية حينها، من الضحايا اليمنيين للطائرات الأميركية من دون طيار، (“درونز”)، وتبجحه بالكذب على البرلمان اليمني بأنّ الطائرات يمنية قائلاً: “استمروا في القصف، سنستمر في القول إنّها طائرات يمنية”. اليوم يتبجح صالح بمناهضته للطائرات السعودية تحت مسمّى الوطنية، بعد أن كان قد فتح السماء لأميركا بل وحتى للسعودية في آخر حروب صعدة.

0ddd07b9-0943-4c1c-bebe-0af98c59bc09

لم يكن هادي أقل شجاعة في أذى اليمنيين من صالح، فقد ذهب به المطاف إلى الافتخار علناً بطائرات “درونز” قائلا إنّها تنافس العقل البشري، بينما كانت تحصد حياة اليمنيين في مسقط رأس الرئيس هادي نفسه، محافظة أبين. إنّهما خطابان يتنافسان ويتفننان في إلحاق الأذى باليمن واليمنيين.
وهو لم يستطع إخفاء جهله بما يحمله ويروّج له كمشروع وطني. فقد قال في تلك المقابلة مع صحيفة الوطن السعودية إنه “يمكن الحديث عن عدد الأقاليم في الدولة الكونفيدرالية”، بعدما سببته النسخة الملغَّمة التي حاول فرضها من كوارث. قال الكونفيدرالية بدلاً من الفيدرالية التي يتفق معها أو يعارضها أصحابه وخصومه، دون إدراك للفروق الجوهرية بين المصطلحين. وأكّد لاحقاً كثيرون من رجاله ووزرائه أنّه في الواقع لم يكن يعرف الفرق بين الفيدرالية (التي يتبنّاها) والكونفيدرالية التي نطق بها، وهو أمر يكشف مستوى الثقافة السياسية لرئيس يتحدث كالمسيح المخلص عن اليمن الاتحادي المقبل.
أمّا علي صالح فلم يتردد في خطاباته الأخيرة في دعوة أنصاره للقتال على الحدود مع السعودية وفي الوقت نفسه دعوة السعودية للحوار المباشر معه. وبعد قصف مجلس العزاء في صنعاء منذ أيام، دعاهم لـ “الثأر” منها، مثله مثل أي كائن بدائي يعيش ويتغذّى على الحروب.
وفي منتصف العام 2011 ذمّ علي عبد الله صالح من مقر إقامته للعلاج في الرياض، عبر مؤتمر بُث لأعضاء حزبه في صنعاء، الدور المصري الذي قام به عبد الناصر في اليمن منتصف القرن الماضي دعماً للجمهورية، وامتدح بالمقابل دور السعودية التي وقفت حينها بصف الملكية. اليوم يتغنى بدور مصر ناصر.. بعد أن قُطع عنه الحبل السري للنفط والسلاح الخليجي، والسعودي تحديداً.
الخطاب الداعي إلى تقاسم الدولة، الذي يتبنّاه هادي وحكومته قولاً وفعلاً، قد يمكن فهمه ممن يقف خارج الدولة. أما أن يأتي ممن يقف على رأسها، فتلك كارثة كبرى. تحاصص السلطة قد يكون قابلاً للفهم، لكن تحاصص الدولة هو هدمها. ثم إنّ المسؤولية تختلف هنا بين مَن مُنح المسؤولية وخانها، وبين مَن انتزعت منه ويعرفه الشعب كعدو متوقع. والواقع الأكثر سوءاً هو أن الخطابات ليست التشابه الوحيد المشترك بينهما.

التشابه في السلوك أيضاً

قبل العام 2011 كان علي عبد الله صالح يلحّ بطلباته من المانحين تقديم مساعدات للبلد الأفقر في العالم، بينما كان الفساد في عهده قد استشرى إلى درجة أن منزل السفير اليمني (أحد أقاربه) في واشنطن حينها كان أكبر مساحة من البيت الأبيض. وللمرء أن يتصوّر المفارقة، وأن يتخيّل ردة فعل العالم وهو يسمع هذه الأنظمة تبحث عن “مساعدات” لدولها وشعوبها، بينما هي غارقة في الفساد.
في أواخر العام الماضي 2015، دعت المندوبة الماليزية في مجلس الأمن إلى التحقيق في فساد استغلال السلطة اليمنية المقيمة في الرياض للحصار البحري المفروض حينها على اليمن، وكان مجلس الأمن الدولي يدعو للتحقيق في فساد استغلال هادي لقرار أصدره المجلس نفسه قبل عام. بشاعة هذا الفساد وأثره هائلان، فأكثر من 20 مليون يمني بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدات الإنسانية. وهكذا تتكرر الصورة الكالحة الفاضحة لمن يحكم اليمن قبل الثورة وبعدها.. قبل الحرب وخلالها.

* باحث من اليمن