في مقابلةٍ مع قناة الجزيرة في كانون الأول/ديسمبر 2015، وصف حمود المخلافي، قائد إحدى المجموعات المقاتلة في تعز ضد الميليشيات الحوثية والقوات المُوالية للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، خصومَه بالـ”فرس” في إشارةٍ إلى انتمائهم إلى الطائفة الشيعية والدعم الذي يتلقّونه من إيران. وبالفعل، ينتمي كلٌّ من صالح وقادة الميليشيا الحوثية إلى المدرسة الزيدية، فرقة شيعية محلّية تختلف عن فرقة الشيعة الإثني عشرية في إيران. غير أن إعلان المخلافي يتماشى مع استقطاب طائفي متنامٍ في اليمن، ويرتكز على لغة مستوحاة من الصراعات بين السنّة والشيعة في العراق وسورية ولبنان برعاية السعودية وإيران، لا من الثقافة الدينية اليمنية.

تنمو هذه الظاهرة بسرعةٍ كبيرة. فحتى الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي قد وصف أحياناً الحوثيين، الذين طردوه من اليمن في آذار/مارس 2015، بالـ”الشيعة الإثني عشريين”. وقبل سنتين، أطلق القائد القبلي المُعادي للحوثيين، حسين الأحمر، على نفسه اسم “أسد السنّة” القوي، مصوّراً بذلك نفسه كمدافعٍ عن الغالبية السنيّة في اليمن ضد الطائفة الأخرى.

يستخدم الحوثيون أيضاً مفاهيم طائفية. ففي تموز/يوليو 2014، نعت قادة المتمرّدين الحوثيين بشكلٍ متكرّرٍ خصومَهم بالتكفيريين أو الداعشيين. وغالباً ماتُستخدَم كلمة “تكفيري” للإشارة إلى السنّة المتطرّفين. أمّا كلمة “داعش”، فتشير إلى الدولة الإسلامية المُعلنة ذاتياً، والتي لم تكن موجودة في اليمن آنذاك. وغالباً مايعيّر المقاتلون الشيعة في العراق وسورية خصومهم السنّة عبر استخدام هذه التعابير تحديداً، لكنها تشكّل إضافة جديدة على المفردات السياسية في اليمن.

مع أن اليمن يضمّ مجموعتين دينيتين أساسيتين (الشيعة الذين ينتمون إلى الطائفة الزيدية في الشمال، والسنّة الذين يتبعون المدرسة الشافعية في الجنوب والشرق)، إلا أن الانقسام الديني بقي ذا أهميّة محدودة على مرّ التاريخ. حتماً، لم يكن اليمن في منأى عن الصراعات الداخلية، غير أن ماكان يغذّيها عادةً هو التفاوتات السياسية أو الاقتصادية أو القبلية أو المناطقية. وإذ تزامنت هذه الصراعات أحياناً مع نشوب خلافات دينية، بيد أن هذه الأخيرة نادراً ما اعتُبرت دوافع رئيسة للصراعات، بل شكّل التعايش الديني والاختلاط أمرَين مفروغاً منهما لمعظم اليمنيين، واعتُبِرا سِمة طبيعية من الحياة اليومية.

لكن مع اندلاع الجولة الأخيرة من الصراع، في أعقاب الربيع العربي في العام 2011، ازدادت حدّة الخطاب الطائفي، وأُعيد تنظيم المجتمع اليمني وفق خطوطٍ طائفية، كما أعيد ترتيب العلاقات بين الناس وفق أسسٍ غير وطنية. وبدا أن الاستقطاب الطائفي المنتشر في المنطقة، من العراق إلى سورية وصولاً إلى لبنان، قد دخل أخيراً الحدود اليمنية.

استخدام رموز تاريخية كعلامات للانتماء الطائفي

أطلق الحوثيون على إحدى كتائبهم المقاتلة اسم “كتائب الحُسين” تيمّناً بالحسين بن علي بن أبي طالب، وهو شخصية بارزة لجميع الفرق الشيعية، بما في ذلك الإثنا عشرية والزيدية. باعتباره رمزاً دينيّاً، يحمل اسم الحسين إرثاً تاريخياً كبيراً، يُذكّر بالصراع الذي نشب بينه وبين الخليفة السنّي يزيد بن معاوية في القرن الثامن. يُحيي الشيعة كل عام ذكرى موت الحسين في مدينة كربلاء العراقية. كانت هذه المناسبة تمرّ مرور الكرام في اليمن إلى أن بدأ الحوثيون العام الماضي (2014) بحشد الدعم لطقوس عاشوراء، كما في العراق ولبنان وإيران. وهكذا، تُعيد سياسات الهوّية الحديثة تأجيج الحقد القديم بين الشيعة أتباع الحسين وخصومهم السنّة.

وفي الجانب الآخر، شكّلت الميليشيات المعادية للحوثيين بدورها كتائب تحمل أسماء طائفية أو تتميّز بنزعة مناطقية. فكتيبة عبد الرقيب عبد الوهاب مثلاً تحمل اسم القائد العسكري الشاب الذي اشتهر بدوره في حصار العاصمة صنعاء الذي دام سبعين يوماً في الفترة مابين عامَي 1967 و1968، خلال الحرب الأهلية اليمنية بين الجمهوريين والملكيين. كان الملكيون يقاتلون للحفاظ على حكومة إمام زيدي كان يحكم شمال اليمن باعتباره مَلَكية مستقلة آنذاك. لكن الجانب الجمهوري ضمّ في صفوفه مقاتلين زيديين أيضاً، لذا لم يكن الصراع دينيّاً في جوهره.

مع ذلك، حين بدا أن الانتصار على الملكيين أكيدٌ، انشقّ الجمهوريون إلى فصيلَين مختلفَين خلال أحداث آب/أغسطس من العام 1968. هيمن الزيديون الآتون من المناطق الجبلية في شمال اليمن على الفصيل الأول، بينما تسلّم عبدالرقيب عبدالوهاب، المتحدّر من أسرة سنيّة شافعية من مدينة تعز، قيادة الفصيل الآخر. ولحقت الهزيمة بالفصيل ذي الهيمنة الشافعية، وقًتل عبد الوهاب لاحقاً في العام 1969. إذن، ومع أن أحداث آب/أغسطس 1968 كانت أساساً صراعاً على السلطة بين قادة الجيش وقادة الأحزاب، إلا أنها جرت وفق خطوط طائفية ومناطقية. ثم غاب هذا الصراع تدريجيّاً من الذاكرة الشعبية، إلى أن أحياه الاستقطاب الطائفي مجدّداً الآن بعد مرور نصف قرن، وعاد اسم عبد الرقيب عبد الوهاب يتردّد باعتباره رمزاً سنيّاً في النزاع ضد الحوثيين.

الدين في المشهد السياسي اليمني

على الرغم من أن الطائفية الزيدية والشافعية لم تلعب دوراً عامّاً رئيساً في اليمن سابقاً، إلا أنها مارست تأثيراً كامناً وخفيّاً، فيما تعاظم نفوذ السياسات الدينية في البلاد منذ التسعينيات ولم يبقَ أيٌّ من الأحزاب السياسية اليمنية في منأى عن الطائفية.

في العام 1990، توحّدت الدولتان المستقلّتان في شمال اليمن وجنوبه تحت راية الجمهورية اليمنية، في ظلّ نظام سياسي قائم على التعدّدية. وتم تأسيس عددٍ من الأحزاب الطائفية والمذهبية، على الرغم من أن قانون الأحزاب السياسية والأحكام الدستورية تحظّر تشكيل أي حزب سياسي على أسس طائفية أو مناطقية.

كان حجم بعض هذه الأحزاب صغيراً، مثل حزب التحرير، وهو عبارة عن مجموعة سنيّة أصولية تعمل في دول عدّة. لكن ثمة أحزاب أخرى تمتّعت بحضور قوي على الساحة السياسية.

على سبيل المثال، وعلى الرغم من التنوع الكبير في تركيبته القبلية والسياسية، اعتُبر حزب الإصلاح عموماً الحزب السنّي الأكبر في اليمن، لكن الحزب لم يذكر هذا الأمر بشكلٍ صريح في أيٍّ من منشوراته قط. وتمكّن الحزب من الحصول على ثاني أكبر كتلة برلمانية في ثلاث دورات انتخابية متتالية.

يقع على الجهة المقابلة من الطيف الديني حزبُ الحق الذي تأسّس ليمثّل الزيدية السياسية. في أول انتخابات نيابية جرت في دولة اليمن الموحّدة في العام 1993، لم يفُز حزب الحق سوى بمقعدين في محافظة صعدة. وقد شغل حسين الحوثي أحد المقعدين، وهو الذي أسّس في مابعد الحركة الحوثية التي استقت مبادئها من تعاليم والده، الذي كان يدعو إلى إحياء الزيدية. وشغل المقعد الثاني عبدالله الرزامي الذي أصبح لاحقاً نائب قائد الحركة الحوثية.

رسم معالم حركة الحوثيين صراعٌ محلّي مع مركز دار الحديث، مدرسة دينية سنيّة تأسّست في أوائل الثمانينيات في دمّاج، وهي قرية تقع في محافظة صعدة ذات الغالبية الزيدية. وقد روّجت هذه المدرسة للنسخة المتشدّدة من الإسلام السنّي المعروفة بالسلفية، وحظيت بدعم المملكة العربية السعودية. أقدم كلٌّ من الحوثيين والسلفيين على تشويه سمعة الطرف الآخر، وغالباً ما جرت مناوشات بينهما. وحين اندلعت الحرب بين الحوثيين والحكومة اليمنية في أوائل العقد الماضي، كان من الطبيعي أن يقف سلفيو دمّاج إلى جانب الحكومة ضد أعدائهم. وبعد انهيار الحكومة خلال اضطرابات الربيع العربي في العام 2011، تنامت سلطة الحوثيين وبدأوا بتوسيع رقعة نفوذهم في شمال اليمن. وفي أوائل العام 2014، تخلّص الحوثيون من سلفيّي دمّاج، أعداؤهم منذ فترة طويلة، واتهموهم بتأييد تنظيم القاعدة وبتشكيل حاضنة إيديولوجية “للإرهاب السعودي”. لم يستطع سلفيو دمّاج الصمودَ أمام الحوثيين، فخسروا وفرّوا إلى جنوب البلاد.

لطالما صنّفت المجموعات الدينية المتشدّدة، مثل الحوثيين والسلفيين، بعضها البعض مستخدمةً تعابير طائفية ضيّقة، لكن هذا الصراع لم يكن ظاهراً للعلن في السابق، وانحصر الخطاب الطائفي المتطرّف في دوائر مغلقة. لكن ذلك بدأ يتغيّر مع تحوّل الصراع اليمني إلى حرب أهلية بعد العام 2011، واعتُبر الخطاب الطائفي وسيلة جديدة وفعّالة لجذب مزيدٍ من المقاتلين للانضمام إلى صفوف كلٍّ من الطرفين. وأدّى هذا الاستقطاب الطائفي إلى تعاظم نفوذ مجموعات متشدّدة كانت مهمّشة في السابق.

بعد أن بدأ السلفيون الذين هُجِّروا من دمّاج بالعودة إلى مسقط رأسهم في المناطق السنيّة، ساهموا في نشر توصيفهم الطائفي للصراع في صفوف اليمنيين الممتعضين أصلاً من الحوثيين. وقد انضم العديد منهم إلى مجموعات مسلّحة مناهضة للحوثيين، أو أنشأوا مثل هذه المجموعات، للقتال إلى جانب تنظيم القاعدة أو الرئيس هادي. وبدأ المقاتلون المناهضون للحوثيين في عدن ولحج ومأرب وتعز يعطون تعريفاً آخر للسلفيين الذين تم تهجيرهم: إذ لم يعودوا مجرّد تلاميذ، كما كانوا في دمّاج، بل أصبحوا مجاهدين يحاربون الروافض (مصطلح ازدرائي يُستخدم لإهانة الشيعة والحوثيين).

بدورهم، يُسهم الحوثيون أيضاً في تسميم الوضع عبر استخدام تعابير زيدية شيعية مهينة وشيطنة خصومهم السنّة. وقد تبنّت إذاعات الراديو المحلّية الموالية للحوثيين خطاباً طائفيّاً غير مسبوق. وسيطرت المجموعات الحوثية التي دخلت صنعاء في أيلول/سبتمبر 2014 على المساجد، وأصبحت الخُطب الدينية عبارة عن استفزاز ديني واجتماعي ضد خصومهم، ناهيك عن أن هذه المجموعات أقدمت على تفجير مساجد ومراكز ومنازل يملكها خصومهم السياسيون والدينيون.

كانت حدّة الخطاب الطائفي تتصاعد مع كل خطوة جديدة نحو الصراع، حتى بلغت ذروتها في أيلول/سبتمبر الماضي، حين دعا الحوثيون مناصريهم في صنعاء إلى الجهاد في تعز وعدن، واضعين الصراع في إطار حرب مقدّسة ضد من اعتبروهم أعداء لهم في الدين، عوضاً عن خصوم سياسيين. وكما هو الحال عادةً في مثل هذه الصراعات، قام الطرف الآخر بالأمر نفسه تقريباً، إذ سعى السلفيون ومناصروهم إلى تعبئة أتباعهم ضد الحوثيين.

كان وجود الأحزاب القومية واليسارية في اليمن، على الرغم من ضعفها، يحدّ من انتشار الخطاب الطائفي. لكن الصراعات الأخيرة في اليمن عرّت الجوانب المظلمة للأحزاب السياسية، وحوّلتها إلى ميليشيات تحارب بعضها البعض بدلاً من السعي إلى إحداث تغيير سياسي. لذا من غير المستغرَب أن ملف التغيير السياسي لم يتقدّم قيد أنملة منذ نهاية العام الماضي، حين أطفأت شعلتَه الأخيرة سيطرةُ الحوثيين على صنعاء، واستُبدل العمل السياسي بالنار والبارود. كما أن عملية عاصفة الحزم التي انطلقت بقيادة المملكة العربية السعودية في نهاية آذار/مارس الماضي، قضت على ماتبقى من المنظمات العلمانية أو التنظيمات العابرة للطوائف في اليمن، وباشرت بتحويل سائر الأحزاب السياسية اليمنية إلى ميليشيات.

نقل العداء السعودي-الإيراني إلى اليمن

يبدو تأثير الصراعات الإقليمية جليّاً في الكلمات والعبارات التي تستخدمها الشخصيات الطائفية لدى طرفَي النزاع في اليمن.

الواقع أن تنامي الصراع الطائفي في اليمن مرتبطٌ بشكلٍ واضح بالصراع الطائفي الإقليمي الأوسع بين المملكة العربية السعودية وإيران. فالخطاب الذي يتبنّاه كلٌّ من الرياض وطهران يرمز إلى أن الطرف السعودي يعتبر أنه الزعيم الفعلي لجميع السنّة، وأن الطرف الإيراني يرى نفسه الزعيم الفعلي للشيعة. وينعكس هذا الأمر بوضوح في التصريحات العامّة والمواقف السياسية إزاء الصراعات المحليّة في المنطقة، من بغداد ودمشق، مروراً ببيروت، ووصولاً إلى صنعاء.

ينظر النظام الملَكي السعودي، الذي يدعم الرئيس هادي ومناصريه، إلى الحوثيين في اليمن على أنهم امتدادٌ طائفي وسياسي لإيران. وترى طهران التي تدعم الحوثيين أن المملكة العربية السعودية خصمٌ إيديولوجي يسعى إلى تعزيز نفوذ خصوم حلفاء طهران. ويغذّي كلٌّ من الطرفين الحرب من خلال دعم القوى الطائفية وتعزيز السردية الطائفية في وسائل الإعلام الإقليمية.

والمحصّلة هي أن اليمنيين باتوا الآن ينعتون بعضهم البعض بعبارات تنضح بالكراهية، من قبيل “الفرس” أو “الدواعش”. وهم غارقون في حربٍ جذورها محلية، لكن سياساتهم مغمّسة في خطاب طائفي استُقدم من الخارج، وبدأ يملي على اليمنيين كيفية النظر إلى أعدائهم وأنفسهم ووطنهم.

تجفيف المستنقع الطائفي

شهد اليمن، خلال بعض الفترات المستقرّة من تاريخه الحديث، تلاشي اللغة الطائفية إلى أن شارفت على الزوال نهائيّاً، مايثبت أن الخلافات والنزاعات السياسية هي التي تغذّي الخطاب الطائفي وليس العكس.

لذلك، ينبغي أن يكون إنهاء الحرب الراهنة في اليمن، واستعادة التوازن السياسي، إضافةً إلى وقف الدعم المالي الإقليمي للميليشيات الطائفية، أولى الخطوات الرامية إلى مكافحة الطائفية في البلاد.

لكن هذه الخطوات لن تكون كافية لإنهاء الصراع الأهلي اليمني. فعلى الرغم من أن الطائفية لم تُطلق شرارة الحرب، إلا أنها باتت الآن أقوى من ذي قبل. وواقع أن الانقسام بين السنّة والشيعة لايملك جذوراً تاريخية عميقة في اليمن، لايعني أنه لايمكن أن يثير المزيد من النزاعات في المستقبل. ومن أجل البدء في دحر تأثير الطائفية، ينبغي على طهران والرياض أن تتوقّفا عن تنفيذ أجنداتهما الطائفية الخاصة في اليمن، وأن تكفّا عن توفير السلاح والمال والدعم السياسي والإعلامي إلى جبهات الموت في المنطقة.

نشر هذا المقال في مركز كارنيغي

10