تدخل اليمن “باباً ليبياً” جديداً مع التنازع بين “الشرعية” و”الدستورية”. فمساء الأحد في الثالث من نيسان/ ابريل الجاري، فاجأ الرئيس اليمني العديد من اللاعبين المحليين والإقليميين، كما عموم اليمنيين، بإعفاء نائبه ورئيس حكومته خالد بحاح من منصبيه، وتعيين الجنرال علي محسن الأحمر وهو المثير للجدل والأقرب للإخوان المسلمين، نائبا له بعد أسابيع من تعيينه نائبا للقائد الأعلى للقوات المسلحة وكذلك تعيين أحمد عبيد بن دغر رئيساً للحكومة، وهو أصلا نائب رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يرأسه.. علي عبد الله صالح.
إطار دولي لإنهاء الحرب
جاء ذلك في وقت كان اليمنيون يترقبون تطورات العمل السياسي والإعداد للقاء الكويت بين أطراف الصراع وبإشراف أممي، وهو المنتظر في 18 نيسان/ابريل الجاري، والساعي للخروج من الحرب الدائرة في البلد منذ أكثر من عام حيث تقود السعودية تحالفاً عسكرياً عربيا مؤيداً للرئيس هادي، بعد انتزاع الحوثيين والرئيس السابق علي عبد الله صالح السلطة الفعلية منه ووضعه تحت الإقامة الجبرية لشهر كامل في مطلع 2015.
فخلال الأسابيع القليلة الماضية، نشطت التحركات الإقليمية والدولية بخصوص اليمن بشكل غير مسبوق. ومثّل ذلك شيء من حضور اليمن على الأجندة العالمية بينما كانت حرباً منسية لأكثر من عام. ويترافق الصعود الخفيف لليمن غرباً مع زيارة أوباما المرتقبة إلى الخليج وتصويت البرلمان الأوروبي على حظر مبيعات الأسلحة للسعودية. وأثمرت تلك الضغوط والتحركات الأقليمية والدولية بخصوص اليمن، علاوة على مجموعة تفاهمات دولية وإقليمية مترابطة، وبدا أن الطريق إلى إنهاء الحرب في اليمن قد بدأ يتبلور.
نصت التفاهمات (الخليجية – الغربية، ومعها الروسية) على إنهاء الحرب في اليمن بشكل تدريجي حتى أيار/ مايو القادم الذي تقرر أن يكون ساعة الصفر لإنهائها تماما: سيناريو مشابه لما صوت عليه مجلس الأمن بخصوص سوريا قبل أشهر، ولكن هنا بشكل غير معلن كون اليمن أقل إثارة للجدل دولياً.
وتفاهمات حوثية ــ سعودية
ومنذ الثامن من آذار/ مارس الماضي، بدأت تظهر مؤشرات الاتفاق على شكل تفاهمات سعودية – حوثية مباشرة لتهدئة الجبهة الحدودية والغارات الجوية على العاصمة صنعاء. وقبل ذلك بيوم واحد، كان وفدا حوثيا قد دخل أراضي المملكة لمواصلة الحوار مع الرياض وهو لا زال بالرياض حتى اللحظة، كما أكد لأول مرة وزيرا الدفاع السعودي، ولي ولي العهد محمد بن سلمان وكذلك وزير الخارجية عادل الجبير. وتأكيدا لهذا الالتزام والتفاهمات، وقبل قرارات هادي المفاجئة بإقالة البحاح وتعيين الاحمر وبن دغر، كان كان محمد بن سلمان قد أكد (لشبكة بلومبيرج الفرنسية) قرب إنتهاء الحرب في اليمن. كانت الفكرة الجوهرية ــ ولا تزال ــ أنه إذا ما تم تحقيق اتفاق بين الحوثيين والسعودية فسيسهل حينها التفاوض (أو “التعامل”) مع صالح. كذلك، تضمنت الخطوط العريضة لهذا الخط المجدول، سفر هادي إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعلاج وتسليم تدريجي لصلاحياته لنائبه، واستغلال مفاوضات الكويت لبحث التفاصيل الفنية للمفاوضات بعد منحها هذا الغطاء السياسي الأممي والخليجي.
هادي يقلب الطاولة
وكانت السعودية، المنخرطة في المشاورات بكثافة، قد مشت في هذا المسار حتى من دون العودة إلى حليفها هادي. وبمجرد إحساس هذا الأخير بالخطر وبأن حلفائه بدأوا بالتفكير الجاد لمرحلة ما بعده، قرر إرباك المسار المحتمل فأصدر على الفور قراراته، بعد لقاء عاجل بمستشاريه حذرهم فيه من وجود خطة معينة لتجاوزهم جميعا خلال الساعات القادمة وإنهاء مسار الحرب الذي أصبح رأس المال الوحيد الذي يملكه هو وأغلب المقربين منه.
هكذا اصطدمت خسارات انتهاء الحرب وامتيازاتها بفرص السلام بشكل مباشر لأول مرة، واستطاعت تعقيد الموقف.
وبمجرد صدور التعيينات، تلقى هادي في منتصف الليل زيارة مسؤولين سعوديين (وهو كان قد حرص على حشر اسم الملك سلمان والتحالف في ديباجة قراره الجمهوري) للاستفسار عن دوافع هذه القرارات، فأكد لهم أنها لا تهدف إلى تقويض ما تقوم به السعودية، واكد استمرار رحلته القادمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وحماية لنفسه من الغضب السعودي، دعا هادي قادة الأحزاب التي تقف الى جانبه لإصدار بيانات سياسية (تراجع بعضهم عنها لاحقا) تدعم قراره. الرعاة السعوديون لم يعجبهم على أية حال هذا الوضع، المفاجئ لحساباتهم، وهو أتى بعد عام (3 نيسان/ ابريل2015 ) بالضبط من استدعائهم لخالد بحاح من نيويورك و إصدار القرار الجمهوري بتعيينه نائبا للرئيس من قبل الرئيس هادي: تسليم تدريجي لصلاحياته لنائبه العابر للتجاذبات الطائفية والجغرافية، والتكنوقراطي الذي لا يتمتع بخلفية سياسية كبيرة وصاحب بعض الشعبية (بالمقارنة)، لرفضه الاستمرار في الحكومة تحت سلطة الحوثيين في كانون الثاني/ يناير 2015، وهي شعبية خسرها مع استمرار الحرب لأكثر من عام.
لم يكن عزل هادي لبحاح مجرد تنحية له لتعطيل فرص السلام اللائحة في الأفق بخجل فحسب، لكنه كان محاولة استقواء بعلي محسن الأحمر علماً أن الاخير بقي على صراع مباشر مع الحوثيين.
وعلاوة على المأزق الحالي الذي تواجهه السعودية، كون هذه القرارات تسبب إرباكا لحساباتها الملتزمة بها غربيا، فهي أيضا مسمار حاد في خشب الشرعية المترهلة أصلا. ذلك أن تعيين رئيس وزراء يحتاج إلى موافقة البرلمان، على الرغم من محاولة الرئيس هادي الاحتيال على ذلك بمخرج غير دستوري. كما أن حكومة خالد بحاح ( بالرغم من كل التشوهات التي أصابتها منذ تشكيلها) كانت قد حصلت على تصويت البرلمان بعد تشكيلها في تشرين الاول/أكتوبر 2014، بصفتها تمثل أخر توافق سياسي اجمعت عليه الأطراف السياسية والكتل البرلمانية حينها، قبل انخراطها في حرب شاملة. ولذلك خيط ولو رفيع من “شرعية التوافق” والشرعية الدولية..
من يكسب ومن يخسر؟
بشكل عام، فإن أكبر خسارة هي لآمال السلام والجهود للاتجاه إليه، كما ولـ”الحراك الجنوبي” الذي أصبح عدوه اللدود، علي محسن الأحمر، قاب قوسين من هرم السلطة، وهو في الواقع الرجل الأول إذا ما أخذنا بالاعتبار عدم فاعلية هادي وسفره المرتقب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الرغم مما تمثله رمزية هذه القرارات من كسر لصالح بتصعيد خصمه اللدود علي محسن الاحمر، فهي في الواقع انتصاراً له، كون صعود الأحمر يعطيه ويعطي الحوثيين فرصة للعب المريح المبني على استقطاب خصوم الأحمر الواسعين، إضافة الى اللعب على المخاوف المحلية والخارجية. وبالإجمال، ومنذ صعوده الى السلطة، وحتى مع نشوب الحرب الاخيرة، فإن عبد ربه منصور هادي وعلي عبد الله صالح لا يزالان أكثر شخصين يخدمان بعضهما البعض، وييسران لبعضهما تحقيق اهدافهما بالرغم من وجودهما في معسكرين نقيضين في المرحلة الحالية.
على أن المستفيد المباشر الآخر من هذه التغييرات هو اللواء الأحمر نفسه بالطبع، الذي بدا له أن الرابع من نيسان/ يشبه كثيراً 21 آذار/ مارس 2011 حينما استطاع “عبور” نظام صالح بالانضمام حينها إلى الثورة. يبقى أن قرارات هادي من جهة، ورفض بحاح لها علناً من جهة ثانية، هي أكبر عملية صراع (بل كسر عظم) بين الرجلين، وهي مرحلة مفصلية نهائية بين طرفين من المعسكر نفسه. وهي إما ستقود اليمن إلى سيناريو ليبي متكامل الأركان، حيث بلد متشظي ومتداعِ بشرعية بلا سلطة – ومنقسمة على نفسها – وسلطة بلا شرعية ( الحوثي وصالح)، وأما أنها ستجبر دول الخليج على إعادة التفكير جذريا بكافة حلفائها (وأعدائها) في اليمن، وطريقة تعاملها مع الحرب التي خلفت أزمة إنسانية عظمى..