في هذه الأيام أتجول في بيروت الحزينة بأمنيات كثيرة، منها أن لا ترى نهلة الشهال مشهد بيروت منكسرة هكذا.
لا يمكن لكاتب مهما كانت مهارته أن يتعامل مع مادة عن نهلة الشهال في أي حال إلا باعتبارها امتحاناً ومخاطرة، ووقوفاً على حافة اللغة دون حماية. كما أن عدم الكتابة عنها تقصير ونكران لا يمكن احتماله، فهي الكاتبة التي تعيد هدم وبناء أدواتك الكتابية بقسوة وسلاسة متلازمين، وهي المناضلة التي تمنحك سياجا من روحها وأنت تخوض في حقل الشأن العام الشائك دون خريطة ولا حماية، وهي الإنسانة التي تعلمك دروسا مجانية لتصبح إنسانا في محيط لا إنساني.
لا تخشى نسيان جانب من حياتها في مادتك، فحياتها كثيفة بحيث لا يمكنك الإحاطة بها، وشخصيتها مركبة بحيث لا يمكنك تفكيكها إلى كلمات. لكن وأنت تكتب عن نهلة، فكر كثيراً بتقييم نهلة لمادتك فنيا، واسأل نفسك إن كنت جديراً بالتصدي لمهمة الكتابة عن امرأة لن تقابل أهم منها في بيروت، ولن تحظَى بفرصة مقابلة شخصية تشبهها في حياتك.
أحب نهلة الشهال، وأفتقد الحديث معها وتلك الأيام التي كنت أمر فيها بمكتبها المتواضع في بيروت: أستلم مستحقاتي من الكتابة، وأستمع إلى بعض الملاحظات بشأن المقال الأخير، وأجيب عن أسئلتها الذكية دائماً حول اليمن، قبل أن أغادر محملاً بمستحقاتي وكيس من بيض الفري، تكون قد أتت به من محل خاص في محاولة لرفع نسبة الميتابولزم داخل جسدي النحيل.
كل ما تريده نهلة الشهال منا (كتاب السفير) الذين اتخذت قداستها عندهم أشكالاً مختلفة: أن نكتب وأن نكون بخير.
وحدها نهلة الشهال، المرأة التي تغسل البيض بالصابون، تماماً كما تغسل مقالاتنا حينما تحررها. والدفء ذته والحميمية ذاتها، تضع التعليق: “هذا سخيف” حينما ترى فكرة غير ناضجة، أو لا ترقى إلى المستوى الذي تريده صابونة نهلة، لأمزح أنا وصديقي عاصم ترحيني بأننا ندرج تعليقات كهذه من نهلة الشهال تحت بند “المديح”.
هذه الحدة هي مؤشر نقاء وديمومة شخصية المناضل الثوري التي بداخلها، وإن دلتها على تلك (السخافة) حاستها الصحافية الثاقبة، فنهلة الصحافية التي تنحت حروفها بالمنجل وتطرق رأس من يخالف قواعد المهنة بالمطرقة التي تتكامل مع المنجل في الراية الحمراء الشهيرة. هذه الصحافية التي تجد صعوبة في استبعاد حرف واحد من مادة لها أو أن تجده في غير مكانه الدقيق، تتلبسها روحها الأخرى للمناضلة الثورية العتيدة والصلبة. وحين يتعلق الأمر بالمهنية فهي تطلق رأيها، أو حكمها بالأحرى، كالرصاصة، وليس من مصلحتك ارتداء واق ضد الرصاص في هذه الحالة.
المرأة التي تتصدر المشهد والروح أينما حلت، كانت شابة في مقتبل العمر حين نشبت الحرب الأهلية اللبنانية منتصف السبعينات، وبدأت عملها في الجامعة فور تخرجها، لكنها تركت قاعة المحاضرة وذهبت إلى جبهة القتال، وتركت حمل كراريسها، لتحمل على كتفها كلاشينكوف أثقل بكثير من أوراقها، وأسرع وأوضح تأثيرا في معركة الوعي يومها. تركت نهلة الشهال خلال الحرب طلابها ومعلميها ومضت لتلقي التوجيهات للمقاتلين بكلمات أقل بكثير مما تتطلبه المحاضرة. وإذا كانت تعلم طلابها كيف يفهمون مجتمعهم، فقد علّمت رفاقها في الجبهات كيف يقومون بالتغيير المباشر للمجتمع وليس مجرد فهمه، وإذا كانت سرعة اتخاذ القرار مهارة أهم من اتقان القنص للمقاتل، فقد برهنت نهلة أنها مقاتل يتخذ قراره في اللحظة صفر، بمجرد اتخاذ قرار المشاركة في الحرب. أليست الحرب وسيلة لاستعادة الوعي بأن القوة لا تصنع أكثر من انتصارات موقتة؟
اليوم تترأس نهلة الشهال “السفير العربي” الصادرة من بيروت وإحدى أشهر أسماء المؤسسات الصحافية العربية، وتديرها من واحد من أكثر مكاتب العالم العربي تواضعاً وبساطة. توقفت الحرب- أو على الأقل واحد من أنواع الحروب- فانتهت معركة الرصاص لتبدأ معركة الكلمات، وتعمل نهلة على البحث عن “بصيص الضوء وسط ظلمة الخراب”.
الرفيقة نهلة، كما نحب نحن الذين بسن بناتها أن نشير إليها بها، مثقفة إنسانية وازنة وانتماؤها العربي اللبناني ليس أكثر من صبغة بيولوجية، فهي لا تتردد حتى في أن ترسل النصائح والتصويبات للحزب الشيوعي الفرنسي، وفي الوقت نفسه تتحدث عن وزيرة العمل المكسيكية الحالية، بالشغف الذي تتحدث به عن طريقة العراقيين في إعداد الشاي، أو الطريقة التي يجب أن تنتهي بها الحرب في اليمن.
في مستهل العشرينات من عمرها، كانت نهلة الشهال قيادية في الجناح العسكري لمنظمة العمل الشيوعي اللبناني، وتعد واحدة من القلائل الذين كان يسمح لهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات بركوب سيارته الخاصة بمعيته في شوارع بيروت، وسط أهوال الحرب الأهلية اللبنانية، وتعقب الإسرائيليين له من البر والجو في محاولات قتله المتكررة.
تتحدث عن تجربتها مع (أبو عمار) بمزيج من كل شيء يعتمل بداخلها من تاريخه. لكن قصتي المفضلة من تجربتها النضالية تتعلق بتزويرها جوازات السفر للمقاتلين اليساريين ليسافروا إلى أوروبا بمن في ذلك زوجها: المناضل والمثقف العراقي المحترم عبدالأمير الركابي الذي تأخر في الجوازات بسبب الاشتباه الأمني (الحقيقي) بصحة جواز سفره، فشخصه الموجود أمامهم مختلف عن الشخص الموجود في الجواز الذي يحمله. لم تتردد نهلة في أن تلومه هو لاحقاً، قائلة إن الحق “كان عليه، صعب يتزور وجهه” ولا يصح استخدام ذلك للتشكيك بمهارتها في تزوير الجوازات حينها!
نهلة وطرابلس: من مدينة الاخر
ستكون محظوظاً للغاية لو استطعت استكشاف مدينة طرابلس بعيون نهلة الشهال، فطرابلس أم نهلة وهي ابنتها ومقاتلتها الحقيقية والوفية التي شهدت تحولات هذه المدينة/ الأم من ميناء زاخر إلى ركام صدئ للحرب الأهلية، ومدينة يتزعمها البؤس والفقر “اللي بيوجع” على حد تعبيرها. ستكون عباراتها المكثفة عند المرور بأصغر زقاق أو مبنى قديم: “هنا قدت المعركة الفلانية، وهنا انفجرت قنبلة، من هذا الجهة خضنا معارك ضد الجيش السوري لأسابيع، وهنا – ليس كما يعتقد السياح والأجانب- أطيب كنافة بطرابلس، وهنا بالطبع أعظم “فتة” وخضروات طازجة”، وهكذا تعيد تعريف طرابلس خارج القواميس المكتوبة عنها.
ستجد أيضاً التقدير الحميم لها من أبناء المدينة وأنت تتمشى مع نهلة أو (الدكتورة) كما تُنادى في طرابلس. الكبار والصغار ينادونها بمزيج من الاحتفاء والتقدير “أهلا يا دكتورة، مرحبا يا دكتورة، تحياتي دكتورة، احتراماتي مدام نهلة”. لا يجب أن تتفاجأ بأصحاب المحلات والباعة الطرابلسيين وهم يوقفونها ليسألوها عن رأيها في الأوضاع والسياسة والحروب وهي تجيب عن أسئلتهم بعمق وبساطة وحب والتزام وكأنها المحلل الخاص لكل واحد من سكان المدينة القديمة والسوق القديم.
كيف قاتلت نهلة الشهال وانخرطت في الحرب الأهلية مطولاً ولم تتعافَ من الحرب وحسب، بل حافظت على سويتها وإنسانيتها المطلقة إلى درجة مغيظة ومرهقة من هذا المزيج الإنساني المختلف؟
تقهقه وأنا أعلق على كونها محللة السوق والعامة، وتروي بابتسامة، كيف أنها أكثر من مره تأتي إلى البلدة القديمة ويوقفها أحياناً اثنان أو ثلاثة من أصحاب المحلات فيفتح نقاش عام في السوق وفجأة يتجمع الباعة وأصحاب المحلات للنقاش والسماع والحديث ويمطرونها بالأسئلة وهي تجيب. أستطيع تماماً تخيل المشهد وفي ذلك واحدة من أعظم سمات نهلة الشهال: التعامل مع السياسة والناس باحترام وعدم الترفع الثقافي الفوقي المعتاد على عموم الناس، بل النزول إلى الناس على الأرض، إنها ببساطة تعقد ندوات متجولة لأحب جمهورها إلى نفسها وبعيداً من أي أضواء.
في خضم الحرب في مدينة طرابلس، قادت نهلة مجموعة من الشباب لقتال مسلحين موالين لحافظ الأسد حينها. وقد حاصرت مجموعتها أولئك الشباب في إحدى زرائب المدينة. وحينما لاحت هزيمة “العدو”، قامت بتأمين حافلات ومخرج آمن له ليستطيع الفرار والانسحاب. تروي بهدوء وسرور كيف خاضت معركة تلك اللحظة مع شبابها وهي تقنعهم بأن يتوقفوا عن ملاحقة الخصوم والسماح لهم بالفرار: “هلأ خلاص هزمناهم، لو قتلنا الأربعين الباقيين وبس قتلوا منكن واحد، شو بدي بهيك أمر؟ كيف هذا انتصار؟”، وهكذا تجادل – عالمة السيوسولوجيا- رفاقها المقاتلين في الجبهة لكي يحافظوا على أنفسهم وتعريفاتهم للهدف والرسالة وحتى الحرب والفوز والانتصار، وبذلك فإنها فعلاً لم تفقد إنسانيتها ومبادئها حتى في أحلك الأوقات.
تدير معاركها بحكمة وحزم، وتنتزع حقوقها بقوة وإصرار، تلك هي نهلة ابنة الطبيب اليساري الذي شجع رغبتها في نسبة بناتها (عدن وفرات) إلى نفسها ليحملن لقبها بدلا عن لقب والدهن، لأسباب أهمها أن نهلة “أرادت” ذلك. وبالحديث عن المرأة، تجادل نهلة أن على المرأة في العالم العربي أن تبذل عشرة أضعاف جهد الرجل على الأقل، لكي تستطيع فقط لفت انتباهه أو انتباه العالم إليها. تضيف ضاحكة، الرجل “خلاص بعدما تدهشه، يصير يعبدك (كامرأة قيادية)”، و”هيك انتو الرجال العرب” بمزيج من التعميم الساخر والضاحك.
يمكنك أن تفهم نهلة أكثر إذا ما سمعتها تؤكد أنها لم تدخن سيجارة واحدة في حياتها كلها. فأسألها وهي تمزق بذلك الصورة التقليدية لليسار(ية): “مش معقول يسارية وما عمرك دخنت سيجارة؟”. “ولا واحدة، ولا مرة واحدة. قلت لك، احنا نبذل عشرة أضعاف مجهودكم (الرجال)”، بمزيج من لهجة التقريع والتنبيه والتذكير بالحظوظ التي نولد بها فقط لكوننا رجالاً، ليس في هذا الجزء من العالم فحسب ولكن وفي كل مكان. “ما بتفكر بالطبيعة كيف هي غير عادلة بجوهرها لما تذكر أنك فيك تنجب لآخر العمر والبنت لا؟”، وهي تهز رأسها وتطرح لغماً معرفياً وتصويبياً على هيئة سؤال.
ترفض نهلة العتيدة التعامل مع نفسها كضحية بل كمناضلة، وخلال الحرب الأهلية، مع حصار السوريين طرابلس وجدت نفسها بلا موارد للدفاع عن المدينة. فقررت حفر الخنادق ولكنها لم تملك الحفارات. فتذكرت الرجل الثري ، عوني الأحدب. ذهبت إلى منزله بعد منتصف الليل لتعرف بنفسها وطلبها بطريقة جافة وملخصة: “اسمي نهلة الشهال، وأريد حفر الخنادق حول المدينة. معي شباب، بدنا بس حفار. وإذا قلق عليهن، أنا باسوقه”.
تستحضر نهلة كيف استنفر مشهدها كفتاة عشرينية تحمل بنادق على كتفها وهي تحاضر مقاولاً، لماذا عليه أن يثق بها ويعطيها معداته لتدافع عن مدينته بينما هو يعود إلى النوم، وكيف استخرج كل رجولة الرجل الذي خرج ليتحدث معها بـ”بيجامة” نومه بعدما أوقظ من النوم ليقول “أنت بدك تدافعي عن المدينة؟ وكأنه ما فينا نفعل اشي؟ مش رجال؟ خذي، خذي الحفارات اللي هون كلهن. وخذي الشباب معهن كمان يسوقوهن”.
كيف قاتلت نهلة الشهال وانخرطت في الحرب الأهلية مطولاً ولم تتعافَ من الحرب وحسب، بل حافظت على سويتها وإنسانيتها المطلقة إلى درجة مغيظة ومرهقة من هذا المزيج الإنساني المختلف؟
أقول لنفسي هي دكتورة سوسولوجيا، لربما فهمت الإنسان جيداً، أو ربما ورثت هذا من أمها العراقية التي افتتحت أول مدرسة للفتيات في طرابلس، ولا تزال كثيرات – على رغم أن نهلة الآن في الستينات- يقلن لها حينما يصادفنها في المدينة أنهن درسن عند تلك الأم العظيمة.
كيف لمن اعتادت أنامله على الزناد أن يكتب بذلك التماسك والنفس والقوة التي تتميز بها نهلة؟ لربما كان ذلك أثر الكتب التي قرأتها. لا أدري لكن تلك هي نهلة الشهال، مزيج من كل شيء. المرأة التي نرتبك ونحن نرسل إليها نصوصنا، وحينما نغضبها نستخدم بعضنا – بسبب حبها اللا مشروط- للنجاة والتشفع من عقوبات سخطها. السلام لبيروت وطرابلس وعيون نهلة الشهال.