تحتاج بريطانيا إلى بدائل بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، أكبر شركائها التجاريين. السوقان الروسية والصينية مغلقتان أمامها. وتبدو دول الخليج ملائمة لها تماماً، حيث القدرة الشرائية الأكبر، وسوق الأسلحة التي لا تتوقف. ولذا فهي ستتبنى سردية هذه الدول – وتحديداً السعودية والإمارات – بخصوص اليمن بشكل أكبر حتى مما فعلت حتى الآن.
هناك مجموعة من العوامل والتغيرات التي ستنتج عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وستتأثر بها حرب اليمن، حتى وإن بطريقة غير مباشرة، وستنعكس إسقاطاتها بالفعل على هذا الملف المتداخل بالأساس.
بشكل عام، وليس فقط نحو اليمن، سيكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تبعات محلية ودولية مهمة، خاصة على صعيد سياسة بريطانيا الخارجية، إذ ستخلع نصف القبعة الأوروبية التي كانت ترتديها في السابق، لتعيد تشكيل مصالحها وعلاقاتها مع العالم من زاوية بريطانية بحتة. وسيكون لذلك أثر على أغلب الملفات السياسية الدولية، والحروب المنخرطة فيها بريطانيا بشكل أو بآخر، بما في ذلك الحرب في اليمن، والتي تلعب بريطانيا فيها دوراً ثقيلاً وهائلاً بشكل مباشر وغير مباشر، كصفقات الأسلحة لدول التحالف العربي، والدور المباشر والجوهري لها في مجلس الأمن الدولي بصفتها “حاملة القلم” (المسؤولة عن الملف) في مجلس الأمن. ومن وزارة خارجيتها تحديداً أتى المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفثث، وكذلك تتوفر من بريطانيا أهم موازنات مكتبه اليوم.
بشكل عام، تعد بريطانيا واحدة من أكثر الدول انخراطاً في اليمن، في الحرب والسلام. فإضافة إلى استعمارها لجنوب اليمن في السابق، وتكوينها بنية معرفية ومعلوماتية وإحصائية وأرشيفية شاسعة عن اليمن، لا تكاد تنافسها دولة غربية أخرى فيها، فقد كانت فاعلة بقوة في الملف اليمني عموماً منذ ترسيمها حدود الشطرين مع تركيا عام 1904، وكانت الأخيرة بدورها تحتل شمال اليمن حينها، وربما كان ذلك من أهم تحولات اليمن في التاريخ المعاصر. ثم وقّعت مع الإمام يحيى الاتفاق نفسه عام 1934، وكانت فاعلاً رئيسياً في حرب السنوات الثمان بعد “ثورة 26 سبتمبر 1962” في شمال اليمن، إلى جانب السعودية. وحتى قبل الحرب الأخيرة وقبل انتفاضة 2011، عبر استضافتها لمؤتمرات أصدقاء اليمن منذ العام 2008.
أواخر العام 2019، كان السفير البريطاني إلى اليمن، مايكل آرون، هو من هندس أول لقاء حوثي – سعودي مباشر رفيع المستوى، إذ تمخض اللقاء السري في العاصمة الأردنية عمان بين نائب وزير خارجية الحوثيين حسين العزي، ورئيس الاستخبارات السعودية علي الحميدان عن زيارة غير معلنة للعزي، قام بها لاحقاً إلى السعودية، وأيضا زيارة وفد سعودي لصنعاء. لاحقاً، أدت هذه اللقاءات إلى إعلان الهدنة في جبهات الحدود بين الحوثيين والسعودية، وتعليق هجمات الحوثيين الصاروخية على المملكة لفترة قبل أن تعود مؤخراً وتنهار نتائج التواصلات القديمة تلك.
بريطانيا منخرطة في اليمن، في الحرب والسلام. فإضافة إلى استعمارها لجنوب اليمن في السابق، وتكوينها بنية معرفية ومعلوماتية وإحصائية وأرشيفية شاسعة عن البلاد، فقد كانت فاعلة بقوة في الملف اليمني عموماً منذ ترسيمها حدود الشطرين مع تركيا عام 1904، وكانت الأخيرة بدورها تحتل شمال اليمن حينها. وربما كان ذلك الترسيم من أهم تحولات اليمن في التاريخ المعاصر.
بشكل عام لا تتغير السياسة البريطانية تجاه اليمن كثيراً، حتى مع تغير الحكومات ووزراء الخارجية والسفراء، باستثناء ذلك التغير غير السياساتي، ولكن السلوكي المحدود، المتعلق عادة بشخصيات السفراء والسفيرات أنفسهم وسماتهم الشخصية ودرجة اهتمامهم/ن باليمن والمنطقة، وأهم من ذلك خلفياتهم المعرفية عن اليمن عادة. منذ استقالة اليستر بيرت من وزارة شؤون الشرق الأدنى، لم يعد هناك من مسؤول بريطاني عالي المستوى على معرفة ضليعة باليمن. كان بيرت واحداً من أبرز المسؤولين البريطانيين، وأكثرهم فهما في الملف اليمني، وهو من مواليد عدن اليمنية ومتابع كثيف لتفاصيل اليمن وتعقيداته. ومع انخفاض عدد الدبلوماسيين والمسؤولين السياسيين المختصين باليمن مؤخراً، يصبح النظر إلى الملف اليمني في بريطانيا منحصراً بزاوية أمنية أو عسكرية – في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب خصوصاً – أكثر من أي وقت مضى، ولكن كالعادة عبر عيون السعودية، ومؤخراً وبشكل متصاعد، عبر عيون الإمارات العربية المتحدة.
انعكاسات بريكست خارج أوروبا
أولاً، مع خروجها من أكبر شريك تجاري لها في العالم (الاتحاد الأوروبي)، ستعمل بريطانيا على تأمين أسواق تجارية، وشركاء تجاريين آخرين. وفي الحالتين، فهي تواجه صعوبة سياسية واقتصادية في اختراق السوق الروسية، واستحالة بنيوية، ربما، في اختراق السوق الصينية. لذا فإنها ستتوجه لتوزيع – أو للدقة لتعميق – علاقاتها التجارية والاقتصادية والمصيرية بالدول الخليجية، حيث القدرة الشرائية الأكبر، وسوق الأسلحة التي لا تتوقف. وحاجة بريطانيا لهذا التنويع الاقتصادي والتعدد التجاري، هي من ضمن الأخبار السارّة لدول الخليج، ذلك أن حليفاً مهماً تعمق أكثر مما مضى في المربع المريح الذي تجيده هذه الدول: الأرقام والصفقات. ولذلك ستتبنى في نهاية المطاف سردية الخليج – تحديداً السعودية والإمارات – بخصوص اليمن بشكل أكبر حتى مما هي عليه في الوقت الحالي.
في مجلس الأمن، ستستمر بريطانيا في موقعها كحامل قلم اليمن في مجلس الأمن الدولي. على الرغم من التلويح الروسي مؤخراً بإمكانية تداول “حمل القلم” من بريطانيا الذي تحمله في مجلس الأمن منذ العام 2011، إلا أنه تلويح لحظي، ذلك أن لا أحد – بالفعل – في مجلس الأمن راغب في تسلّم ملف اليمن. و”حمل القلم” بخصوص دولة ما في مجلس الأمن، يعني أن هذه الدولة هي من تدعو إلى عقد الجلسات بخصوص البلد، وتصيغ مسودات بيانات المجلس بخصوصه.
منذ استقالة أليستر بيرت من وزارة شؤون الشرق الأدنى، لم يعد هناك مسؤول بريطاني عالي المستوى على معرفة ضليعة باليمن. كان بيرت عميق الفهم للملف اليمني، وهو من مواليد عدن، ومتابع لتفاصيل البلاد وتعقيداتها. ومع انخفاض عدد الدبلوماسيين والمسؤولين السياسيين المختصين باليمن مؤخراً، فقد أصبح النظر إلى الملف اليمني في بريطانيا منحصراً بوجهة نظر أمنية أو عسكرية.
منذ تراجع الحضور الأمريكي السياسي المباشر في اليمن بدءاً من عام 2015 – سوى الاستفاقة القصيرة لجون كيري في آخر أسابيع أوباما في البيت الأبيض عبر ما عرف بـ “مبادرة كيري” -، تركت أمريكا الدفة تماماً للملكة المتحدة، واكتفت بدعم السعودية عسكرياً، باستثناء محاولة ترامب أكثر من مرة توظيف اليمن في حديثه عن دور إيران في المنطقة.
انعكاسات ضمن أوروبا
منذ بدء خروج بريطانيا التدريجي من الاتحاد الأوروبي، بدأت – تدريجياً أيضاً – تتضاءل بين الطرفين عملية تبادل المعلومات المتعلقة بكل الملفات الخارجية. فقد تم تقليص دائرة نفوذ بريطانيا داخل الاتحاد في بروكسل باستبعادها من اجتماعات الاتحاد المهمة أو الحساسة والمغلقة. وانعكس الحال على جميع مستويات الدبلوماسية والبيروقراطية الأوروبية، إذ، وعلى سبيل المثال، لم يعد السفير البريطاني إلى اليمن يحضر الاجتماعات الشهرية الرسمية لسفراء الاتحاد الأوروبي إلى اليمن منذ منتصف 2019.
منذ العام 2015، وحتى خروجها من الاتحاد الأوروبي، لعبت بريطانيا دوراً متناسقاً مع دور الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق باليمن، وفي الوقت نفسه مناقضاً له في جوهره. من ناحية، وقعت بريطانيا بيانات البرلمان الأوروبي المتعلقة باليمن ودعت معه للسلام. كما كانت رابع أكبر مانح في المؤتمرات الإنسانية لليمن التي دعت إليها دول أوروبية. من ناحية أخرى، لم تلتزم بريطانيا بالدعوات لحظر تصدير الأسلحة، وتبنت سردية السعودية للقرار 2216 في مجلس الأمن (1)، لشن الحرب في اليمن، وقوضت كل محاولات استصدار قرار من دول أوروبية أخرى لاستبداله. كما عطلت لثلاث سنوات متتالية عملية تشكيل لجنة تقصي حقائق في انتهاكات جرائم حرب اليمن في مجلس حقوق الإنسان، ضداً من رغبة أغلب دول الاتحاد الأوروبي.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيمنح بريطانيا الفرصة للتحرك مجدداً بأجندة الكومونولث في السياسة الخارجية، متخففة من الالتزامات السياسية للاتحاد الأوروبي. كما سيمنح الاتحاد الأوروبي فرصة لتشكيل فرضيته ورؤيته السياسية الخاصة في اليمن، دون ثقل الكرش الإنجليزي البدين جداً، وسيسمح لدول أوروبية أخرى، كالسويد وهولندا وألمانيا، بلعب أدوار ريادية أكثر في الملف اليمني، والتي كانت قد توجت دورها باستضافة المفاوضات التي توصلت إلى “اتفاق ستوكهولم” (2) بين الأطراف اليمنية في السويد.