من الصعب أن يقال عنه فتى في أية مرحلة عمرية، فقد أصبح رهينة بعد مولده بخمس سنوات (1944) كأصغر رهائن الإمام حينها. فلأنه من أسرة مشايخ عريقة، ووالده كان معتقلاً بدوره في سجن حجة الشهير، بعد عمل عمه (مطيع دماج) على مناهضة الإمام كفرد، والإمامة كمبدأ، من مدينة عدن جنوب البلاد، تحول أحمد قاسم إلى ورقة ضغط على أسرته، اختطفها الإمام يحيى لتعيش خلف أسواره تحت رحمته في حال قيام أسرته بسلوكيات تهدد نظامه بشكل أكبر، وهي سياسة مشهورة لنظام الأئمة في اليمن حتى ثورة أيلول/ سبتمبر 1962. تجربته كرهينة عندما نقلها إلى ابن عمه (زيد مطيع دماج) وعايشها هذا الأخير خلال زياراته له في قلعة القاهرة بتعز، تحولت إلى أشهر رواية يمنية (“الرهينة”) وطبعت ضمن مشروع قومي لأهم مئة رواية عربية في القرن العشرين.
رحل أبوه المعتقل لدى الإمام إلى السماء فتكفل عمه بإعادة تأهيله وتعليمه وتثقيفه بشكل مكثف، ليس فقط حتى لا يكون في موقع أقل من أقرانه وليتمكن من مفاتيح العمل في الشأن العام لاحقاً، ولكن أيضاً ليتخلص من شخصيته كرهينة لدى الإمام. فقد عاش التجربة في وقت مبكر جداً، ما كان يمكن أن يجعله قابلاً للتحول إلى شخص آخر. لكنه بدلاً من ذلك تشرب بنزعة إنسانية أقوى تجاه الآخرين، بعد أن عاش في معقل التمييز والاستعلاء الإمامي. وعمل بقوة على تخليص اليمن من ثقافة الطبقات المخملية والطبقات الخادمة والمستضعفة.
عائلة مشائخية ولكن عروبية يسارية
ألقت أسرة دمّاج عصا المشيخة وثقافتها بعيداً عن أفرادها، كظاهرة متميزة طبعتها. فعلى الرغم من انحدارها من منطقة برط، معقل أكبر قبائل اليمن (بكيل) التي شكلت إحدى أهم ركائز حكم الإمام، وتمده تاريخياً بالمقاتلين من أفرادها، وعلى الرغم من تمتعها بامتيازات الأسر المشائخية الأخرى، إلا أنها قاتلت كأسرة في صف الجمهورية، برؤية مختلفة عن باقي الأسر المشائخية التي كانت تقاتل من أجل نفوذ أكبر في السلطة الجديدة. إذ قاتل أحمد قاسم دماج وعمه مطيع في سبيل تأسيس دولة المساواة والمدنية والعدالة الاجتماعية. وبينما حازت الأسر التي هاجرت إلى إب، وبسطت نفوذها بالقوة والبطش، على نقمة الأهالي، تمتع بيت دماج دون سواهم باحترام الآخرين لهم، بامتزاجهم التام مع محيطهم وتعايشهم مع البسطاء دون أية فوارق. وبعد مرورهم بعمليات تشذيب مستمرة لنزعة المشيخة والسلطة على الصعيد الاجتماعي، نالوا إنسانيتهم وحب الآخرين واحترامهم، وتمتعوا بحس اجتماعي رفيع عبر الثقافة، مما حماهم من الوقوع في الورطة الطبقية على أي مستوى.
تجربته كرهينة تحولت إلى أشهر رواية يمنية (“الرهينة”) وطبعت ضمن مشروع قومي لأهم مئة رواية عربية في القرن العشرين
في سن العشرين كان أحمد قاسم دماج أحد مؤسسي حركة القوميين العرب في اليمن (1959)، ثم الحزب الديمقراطي الثوري، واستمر في العمل كيساري قومي شارك في كل عمليات النضال بالقلم والبندقية. وهو نأى بنفسه عن كل مسببات الخصومات والصراع في صفوف الحركة، حيث لم يكن يقترب من أي تنظيم بدوافع المصلحة الذاتية التي أوقعت الكثيرين من رفاقه في شباكها. فظل حلقة وصل للفرقاء، وشوكة ميزان لتحديد الصواب والخطأ وملامح النجاح والفشل في مسيرة النضال الوطني. وعند افتتاح وكالة التنمية الأمريكية مكتبها في تعز (“النقطة الرابعة”) شارك في تأسيس نقابة سرية للعمال الذين يعملون في مشاريعها باليمن يومها، نتج عنها تنظيم أول إضراب عمالي في شمال البلاد عشية ثورة أيلول / سبتمبر 1962.
المثقف الثوري
حرص دائماً دماج أو “الأستاذ” كما يناديه كل من عرفه، على تقديم حقائق هامة عن تلك الثورات التي توارت في سيل الروايات الرسمية لاحقاً. فبينما تكاد كل روايات المرحلة تقدم الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر كقائد لقبيلة حاشد في حرب الثورة إلى جانب الشيخ مجاهد أبو شوارب، يقول دماج أن عبد الله كان مسجوناً يوم قيام الثورة، وأن أول من قاد جماعة مسلحة من قبيلة حاشد للدفاع عن الجمهورية كان شاعراً وليس شيخا (الشاعر يحيى البشاري) وأن “أبو شوراب” كان جندياً تحت قيادة البشاري يومها.
لم يكن أحمد قاسم دماج في طليعة المقاتلين بالسلاح فحسب دفاعاً عن الثورة، بل وفي طليعة المقاتلين بالقلم أيضاً. فقد شارك بتأسيس صحيفة “الثورة” ونقابة الصحافيين اليمنيين لاحقاً مع رفيقه عبد الله الوصابي. كما تولى رئاسة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عدة دورات بعد رفيقه الراحل عبد الله البردوني، أول رئيس للاتحاد. لكنه لم يكن حريصاً على المصلحة الشخصية عندما تتعارض مع موقف مبدئي أو مصلحة عامة. فقد استقال من منصبه كأول أمين عام لمجلس الوزراء بعد “ثورة سبتمبر” لأن الحكومة وافقت على المشاركة في مؤتمر “حرض” الذي رأى فيه مساومة على مبادئ الجمهورية مع الملكيين (تشرين الثاني / نوفمبر 1965). وكما تعرض للاعتقال في عهد الأئمة، تعرض للاعتقال في عهد الجمهورية التي قاتل من أجلها وناضل في سبيلها بكل السبل. وفور خروجه من معتقل “حركة 5 نوفمبر1967” (“الانقلابية”)، توجه مباشرة إلى المقاومة الشعبية التي دافعت عن العاصمة صنعاء أثناء ما عرف بحصار السبعين يوماً.
ظل دماج يصنف نفسه كاشتراكي خارج إطار الحزب، يؤمن بالعدالة الاجتماعية باعتبارها أهم أهداف الثورة اليمنية. وكان يقدم رؤيته للمشهد الوطني اليمني كاختلال في صفوف السلطة والمعارضة، إذ رأى أن قوى الفساد والتخلف في اليمن هي الأكثر دقة ومثابرة وانتظاماً
وعلى الرغم من مشاركته في الدفاع عن العاصمة في صفوف القوى التقدمية حينها، فقد تعرض للاعتقال مرة أخرى إثر تأمين صنعاء من خطر الملكيين. فأثناء أحداث آب/ أغسطس 1968، تعرض لاعتقال مطول من القوى التي قال أنها خافت من شباب القوميين بقيادة عبد الرقيب عبد الوهاب (الملقب ببطل السبعين)، وتعاملت معهم بحس اجتماعي (طبقي) باعتبارهم لم يكونوا من شريحة النخب الاجتماعية بل من العموم، وتحقيقهم الانتصار في حصار السبعين جعل القوى التقليدية تعمل على استهدافهم للانفراد بالسلطة. وفي نقده لواقع البلاد في لقاء صحافي (2007)، قال واصفا النظام يومها “هذا نظام تجمعت فيه رواسب صراع أطراف الثورة اليمنية، إن صح التعبير، من أحداث أغسطس في صنعاء عام 1968، إلى أحداث يناير في عدن عام 1986.. تجمعت النفايات هذه كلها وشكلت هذا النظام”.
وعلى الرغم من تأييده لحركة يونيو التصحيحية التي تزعمها إبراهيم الحمدي (1974)، إلا أن نقده لأخطائها كان واضحاً، فهو لم يتصالح مع أي نظام لدرجة التماهي أو بشكل يمنعه عن قول ما يراه حقاً في النقد والتعبير.
مسألة الفساد
ظل دماج يصنف نفسه كاشتراكي خارج إطار الحزب، يؤمن بالعدالة الاجتماعية باعتبارها أهم أهداف الثورة اليمنية. وكان يقدّم رؤيته للمشهد الوطني اليمني كاختلالات في صفوف السلطة والمعارضة، إذ رأى أن قوى الفساد والتخلف في اليمن هي الأكثر دقة ومثابرة وانتظاماً، وأن القوى الأخرى – التي تدّعي أنها تقاوم الفساد – لم تبلغ حتى الحد الأدنى من ذلك الانتظام والدقة والمثابرة، متوقعاً ذات حديث قبل سنوات، أنه إذا لم تفطن المعارضة، سواء في “اللقاء المشترك” أو في غيره من الأحزاب السياسية، إلى أنهم مطالَبون بأن يحرزوا الحد الأدنى من تلك الخصال، فإن الواقع اليمني سيتمخض عن بديل لهم وللسلطة في وقت واحد. ولم يكن توقعه خاطئاً بل أثبتته الأحداث التي يمر بها اليمن منذ العام 2011.
قال أحمد قاسم دماج في رد على سؤال لصحيفة “الشارع” في 2007 حول احتمال توجه اليمن (الشمال والجنوب) نحو الانفصال والعودة لوضع ما قبل أيار/ مايو 1990 ” كل مطّلع على التاريخ اليمني يدرك أن الانحطاط والفساد حين يبلغ منتهاه في واقع اليمن، فإن البلد لا ينفصل، بل ينقسم ويتشظى. وهذا شيء خطير على مستقبل الناس وعلى حاضرهم”. وها هي اليمن على عتبة التشظي في الوقت الراهن وقد بلغ أقصى درجات الانحطاط التي توقعها دماج قبل كثير من السياسيين، بحكم خبرته الطويلة في العمل الوطني والنضال على مدى سبعة عقود من الزمن، صعد بعدها إلى السماء من منزل يسكنه بالإيجار ولا يملكه في العاصمة التي تبادل معها وضع الرهينة والتي دافع عنها بالقلم والبندقية والعمل المدني طيلة حياته، كرمز يمني يندر أن يتكرر، بكل ملامح الإصرار والنزاهة والصدق والتضحية والبساطة المتناهية.