اليمنيّون من أبرع شعوب العالم في التواصل الاجتماعي. فهم يقضون في مجالس جماعيّة شبه يوميّة ما بين أربع وثماني ساعات يمضغون القات ويتبادلون الأحاديث حول كلّ شيء تقريباً، وللسياسة نصيب الأسد في جلسات التخزين تلك. ويعود ذلك إلى أن الدوام الرسمي ينتهي في الأغلب عند الساعة الواحدة من بعد الظهر، وما من مجالات للأنشطة العامة يمكن قضاء الوقت فيها، والأهمّ أن تخزين القات عادة يوميّة يمارسها ملايين من المواطنين تقتضي الجلوس في غرف مغلقة
في السنوات الأخيرة أصبحت النقاشات المتبادلة في مجالس القات تتضاءل بفعل ارتباط من يشتركون الجلوس في غرفة واحدة بالعالم الافتراضي خارج هذه الغرفة. وقد علّق أحدهم مرّة ممازحاً رفاقه “عفواً، سأخرج إلى أقرب مقهى إنترنت للتواصل معكم”، وذلك لانهماك كلّ واحد منهم بحاسوبه الخاص أو هاتفه الجوّال مبحراً في عالم الشبكة العنكبوتيّة لا يلتفت إلى من حوله. فقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي (“فيسبوك” بدرجة أساسيّة) من أكثر المواقع ولوجاً. وإذا ما ألقيت نظرة على صفحة خاصة مثل صفحة الكاتب فتحي أبو النصر، تلاحظ أن الفارق الزمني بين كلّ عمليّة نشر وأخرى قد لا يتجاوز أحياناً الساعتَين.
ولأن المجتمع اليمني مجتمع ذكوري مغلق مع تسجيل استثناءات قليلة، فإن الأسماء المستعارة والحسابات الوهميّة على موقع “فيسبوك” تنتشر بكثرة، بعضها للمتعة بعيداً عن رقابة المجتمع سواء للذكور أو للإناث وبعضها ترتبط وظيفتها بالدعابة وإيقاع الأصدقاء في مقالب مثل التعرّف إلى إحدى الجميلات في العالم الافتراضي. فتلك “الجميلة” غالباً ما تكون صديقه الذي يجلس بالقرب منه. ثم يقوم بفضحه لمجرّد تسجيل نقطة فكاهيّة وضحكة عابرة، فيكشف بذلك شخصيّة صديقه المختبئة تحت قناع الرجل الملتزم من وجهة نظر محيطه.
هذا في ما يتعلّق بالجانب البريء لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي. أما الاستخدام الموجّه، فقد ارتفعت وتيرته بشكل كبير مع أحداث الربيع العربي منذ العام 2011، إذ أصبح أعضاء الجماعات والأحزاب السياسيّة يمارسون دور الدعاية والدعاية المضادة ونشر فضائح الطرف المنافس والإيقاع به، بالإضافة إلى نشر أفكار متعصّبة أحياناً تؤدّي إلى رفع وتيرة الانقسام الاجتماعي والاصطفاف الفكري والمناطقي اللذَين يتركان آثاراً سلبيّة بدأت بالانعكاس على الواقع.
في مقابل ذلك، ثمّة نشاط مدني وترويج لحملات مناهضة لبعض الظواهر والقرارات السياسيّة، مثل ظاهرة تخزين القات وزواج الفتيات الصغيرات وأخبار الفساد والقرارات الحكوميّة غير الصائبة التي تم إيقاف بعضها بعد حملات غير منظّمة على “فيسبوك”. كذلك فإن العمل التطوّعي وخدمة الفئات المحتاجة لها أيضاً حضورها في العالم الافتراضي عن طريق حملات التبرّع لمساعدة أحد المرضى أو المحتاجين، ولو بين الأصدقاء الفعليّين في الواقع.
لم يستطع موقع تواصل آخر مثل “تويتر” منافسة “فيسبوك” على الساحة اليمنيّة، لأن إمكانياته محدودة في ما خصّ التواصل المفتوح على شكل مجموعات ولأن تغريداته تأتي محدودة الحروف وطابع نقاشاته شبه نخبوي. لكن “تويتر” أكثر استخداماً من قبل اليمنيّين الذين يتقنون لغات أجنبيّة بهدف التواصل مع العالم الخارجي ومتابعة مستجدّاته، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك لم يتحوّل إلى ظاهرة اجتماعيّة بعد كما هي الحال بالنسبة إلى “فيسبوك”.فمرتادو مجالس تخزين القات يقضون ساعات طويلة وهم يناقشون تعليقات ومواد منشورة من قبل الأصدقاء أو تلك الخاصة بالنخب المعروفة إعلامياً أو تلك التي تتناول أصداء سلوك حكومي معيّن أو شخصيّة عامة في عالم “فيسبوك”.
على الرغم من أن الكهرباء في خلال الأيام والأسابيع الفائتة لم تكن تتوفّر إلا لبضع ساعات قد لا تتجاوز أحياناً ساعتَين متواصلتَين الأمر الذي أعاق أي نشاط مرتبط بالتيار الكهربائي، وعلى الرغم من البطء الشديد في خدمة الإنترنت في اليمن وارتفاع قيمة رسومها مقارنة بالدول الأخرى ومستوى دخل الفرد، إلا أن ذلك يُستغلّ لصبّ غضب المرتبطين بالشبكة في خلال تلك الساعات على الحكومة وأدائها وانتقاد سفر قرابة نصف أعضائها إلى خارج اليمن لقضاء إجازة عيد الأضحى (13-21 تشرين الأول/أكتوبر) مثلاً. فدفع ذلك مكتب رئيس الحكومة إلى تبرير سفره إلى ألمانيا أمام الرأي العام قائلاً إنه بهدف العلاج وليس للاستجمام. وقد تكون ردود فعل المجتمع الإلكتروني هذه التي تناولت سلوك الحكومة، هي التي دفعت بالأخيرة إلى ردّ فعل إيجابي غير معهود لأنها في العادة لا تهتم كثيراً بتبرير أخطائها للناس.
إلى ذلك يشعر المواطن البسيط بالقدرة على منافسة/نقاش أرفع الشخصيات السياسيّة التي أصبحت تستجدي إعجابه بصفحاتها على موقع “فيسبوك”، فمعظم رؤساء الأحزاب يملكون حسابات شخصيّة على الموقع تُعتبر أحياناً مصادر أخبار صحف اليوم التالي.
كذلك، امتدّ ميدان الصراع الواقعي أيضاً إلى العالم الافتراضي. فمؤيّدو الرئيس السابق علي عبدالله صالح مثلاً وبعد أن يبدوا إعجابهم بصفحته ويروّجوا لها، يقومون بالتعليق المضاد على صفحات معارضيه وخصومه. والعكس صحيح بالطبع.من جهة أخرى أصبح “فيسبوك” خياراً لبعض الصحافيّين والكتّاب الذين لا يروق لهم نشر كتاباتهم في بعض الصحف أو المواقع الإلكترونيّة أو الذين يرغبون بمعرفة أصداء كتاباتهم تلك وردود القراء عليها من دون غربلة أو تدخّل. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من كتابات الحقوقي البارز هائل سلام أو فتحي أبو النصر مثلاً، تعيد الصحف نشرها نقلاً عن صفحتيهما الشخصيّتَين على “فيسبوك”. وأكثر من ذلك، عمد بعض الباحثين في خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى الاستعانة بشبكة أصدقائهم على “فيسبوك” لنشر استبياناتهم، ما يعني المزيد من الانتفاع من مميّزات مواقع التواصل التي تتحوّل إغراءاتها أحياناً إلى سلبيّة تترجم بهدر الوقت. ويحدث أن يتأخّر عدد كبير من الموظفين عن دوامهم نتيجة سهرهم بشكل حصري لتبادل التعليقات على “فيسبوك”، بخاصة إن تناولت قضيّة خلاف فكري يُعتبر الانسحاب منها اعترافاً بصوابيّة الآخر.
ونظراً لخصوصيّة المجتمع اليمني المحافظ فإن ما تنشره الإناث على “فيسبوك” يتداخل مع ما ينشره الرجال. ويتبادل الجميع الآراء حول تلك المواد المنشورة من دون معوّقات كتلك التي يفرضها النوع الاجتماعي في الواقع. في المقابل، في مطلع الألفيّة، كان عدد النساء المنقبات في الأرياف اليمنيّة أقلّ مما هو عليه اليوم وكان من المعتاد رؤية النساء والفتيات على حدّ سواء وهن يرتدين الملابس التقليديّة الملوّنة في المزارع خارج البيوت. لكن مع الطفرة التي شهدتها الهواتف المحمولة التي وصلت حتى الأرياف، بدأت بعض العائلات تلزم فتياتها ونساءها بارتداء النقاب بدعوى أن ثمّة هواتف مزوّدة بـ”كاميرات” وبإمكانها التقاط صوراً للنساء وهن “كاشفات” عن أنفسهنّ في الحقل والجبل. وهذا إن حدث يشكّل كارثة اجتماعيّة قد تؤدي إلى ما لا تُحمد عقباه.
من المخيف -والمثير للسخرية في الوقت نفسه- أن يكون اتصال الأرياف اليمنيّة بالعالم الخارجي من خلال الهواتف المحمولة، سبباً آخراً وجديداً للدفع باتجاه إجبار النساء على ارتداء النقاب والعودة بهن إلى الوراء ولو خطوة واحدة. ومن الممكن أن تكون شبكات التواصل الاجتماعي هي أيضاً “نقاباً”، ولو من نوع آخر ولفئات اجتماعيّة أشمل. فهل يمكن أن يتحوّل “جسر التواصل” في العالم الافتراضي إلى “جدار عازل” مستجدّ في حياة اليمنيّين؟
سؤال، قد تكون السنوات المقبلة كفيلة بالإجابة عنه.