شكلت زيارة وفد من جماعة الحوثيين إلى الرياض في 14 سبتمبر/ أيلول، انفراجة في الملف اليمني، بعد تسع سنوات من مرارة الحرب في اليمن. أحتُفي بالمفاوضات الثنائية بين أعضاء الوفد والأمير خالد بن سلمان على نطاق واسع، وحظيت بتشجيع كبير رغم وجود أسباب لا تعد ولا تحصى تدعو للتشاؤم والتشكيك في مآلها. إلاّ أن اللحظة لها أهميتها ورمزيتها – فهي بمثابة إخماد للغرور والكبرياء الخطير والمدمر الذي أشعل شرارة الصراع المأساوي في اليمن وساهم في استدامته.
أعادت قرابة عَقد كامل من حَرب حصدت أرواح مئات الآلاف من اليمنيين عقارب التنمية والتقدم المحرز سنوات إلى الوراء لتعود البلاد قرنا كاملا إلى الخلف على الأقل. تتعدّد أسباب اندلاع الحرب، ليس أقلها فشل مؤتمر الحوار الوطني عقب سقوط نظام الرئيس علي عبد الله صالح، والأجندة المذهبية للحوثيين وانقلابهم على الدستور عام 2014، والتنافس الإقليمي بين السعودية وإيران، والفشل المخزي للنخب السياسية في تبنّي أو حتى القدرة على تصور التغيير الذي طال انتظاره. إلاً أن السبب الجوهري والأقل وضوحاً وراء اندلاع الصراع هو الغرور والكبرياء البشري الذي كان سبباً أيضا في استمرار الحرب لسنوات طويلة وبَخسائر جسيمة.
في سياق ما، كان غرور وكبرياء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هو ما دفعه آخر المطاف إلى خوض غمار حرب يستحيل أن يحقق انتصاراً فيها، بصرف النظر عما في جعبته من أموال أو أسلحة متطورة. في نهاية المطاف، ستبقى حرب اليمن وصمة عار على إرثه لأمد طويل، وتهديداً لحُكمه الحالي ورؤيته المستقبلية للمملكة. بُنيت شرعية بن سلمان السياسية إلى حد كبير على إجبار أمثال بايدن وأردوغان وتميم وغيرهم من قادة العالم ممن حجوا – لأسباب ولو غير دينية دائماَ- إلى المملكة الساعية لإعادة تصدير صورتها ، حيث تود أن تعرف كقِبْلة للفعاليات الرياضية والثقافية، مع كل ما يرتبط بذلك من بريق المشاهير والأضواء.
في العالم العربي، تُمارَس السياسة والعلاقات الدولية من منظور شخصي للغاية، فَالثأر القبلي في اليمن مثلاً– وفي شبه الجزيرة العربية ككُل – هو خير مثال على ذلك: قد يندلع صراع مُعين نتيجة شجار بين رجلين على مسألة تافهة، لتبدأ حلقة مفرغة من الحروب تستمر سنوات. تبرُز مفاهيم “الشرف” و “الكبرياء” أيضاً على الساحة الدولية حيث جاءت الأزمة مع قطر لتذكرنا بأسلوب عجيب، كيف للغرور والكبرياء لشباب الأنظمة الملكية و الأنظمة الأوتوقراطية عندما يشعرون بالمس بشخصياتهم، أن يحفز ردود فعل مدمرة بِتداعيات وخيمة.
في يناير/كانون الثاني 2015، وقبل أسابيع من بدء حملتها العسكرية المتهورة والمدمرة في اليمن، دعت المملكة العربية السعودية جماعة الحوثيين إلى طاولة حوار في الرياض.جاء رفض الحوثيين حينها للدعوة السعودية كَإهانة شخصية لمحمد بن سلمان، الذي لم يستطع مضغ فكرة أن يرفض الحوثيون – محدثو النعمة “الغُبر” القادمون من الجبال- الحضور، وكان من تداعيات تلك السياسات أن تدفع صاحبها لتقديم التنازلات لاحقا لهؤلاء (“الغُبر” القادمون من الكهوف).
بمسار مشابه وإن بدا مختلف، سمح الرئيس السابق صالح أيضا لكبريائه الجريح بإغرائه لخوض غمار معركة لاحقة في إطار تحالف أحمق مع الحوثيين، سعياً للانتقام ممن أطاحوا به، وكلفه هذا الطريق المتهور حياته بعد أن اختلف مجددا مع أعدائه القدامى، الذين أصبحوا فجأة حلفاء مصلحة. من ناحية أخرى، يتجذّر كبرياء وغرور الحوثيين في أيديولوجيتهم المتشددة والتي تمنح – من وجهة نظرهم – المتحدرين من سلالة النبي محمد مكانة مميزة كطبقة حاكمة. كان هذا هو المعتقد الذي غذى حماسهم للاستيلاء بالقوة، أو بالأحرى سيطرتهم على شمال اليمن، وإنشاء نظام حُكم قمعي في تلك المناطق. تحدّ عقدة التفوق الايديولوجية التي غذت أيضاً نجاحاتهم العسكرية حتى الآن من قدرتهم على ممارسة الحُكم ومن رغبتهم في التفاوض، وبسبب كبريائهم وتعنتهم، أصبح الحوثيون اليوم مستعدين لقبول صفقة بشروط أسوء مما عُرض عليهم قبل عام ونصف.
لا تقتصر هذه المعضلة (المتعلقة بلعنة الكبرياء) على الأطراف المتورطة في حرب اليمن فحسب، ففي السنوات الأولى لتوليه منصبه كمبعوث خاص للأمم المتحدة إلى اليمن، أدى جمال بن عمر عمله بشكل مذهل. إلاّ أن ثقته المفرطة بنفسه لاحقاً ورفضه تغيير المسار قاده إلى فشل ذريع. ثمة دروس يمكن أن نستخلصها من ذلك أيضاً، وهي أهمية أن يزيح الوسطاء غرورهم وكبريائهم – أيضاً- جانبا، وليس فقط غرور وكبرياء الأطراف التي يتعاطون معها. وبعيدا عن الحسابات العقلانية والمنطقية، يتعين على المبعوثين والدبلوماسيين والمفاوضين أيضاً تذكّر أن مهمتهم أولا وقبل كل شيء هي لعب دور المعالج النفسي، وأن يفهموا بتعمّق النفسية البشرية. وكما علّقت كبيرة المفاوضين الأميركيين روز جوتيمولر، في المحادثات عن روسيا عام 2009 المتعلقة بمعاهدة “ستارت الجديدة” للحد من الأسلحة النووية ، فالأمر (في المفاوضات) “يشبه في نهاية المطاف محاولة إقناع طفل في الثالثة من عمره لماذا هو جيد بالنسبة له أن يلبس حذاء ( قبل أن يخرج من المنزل)”.
مهما بدت الانفراجة الدبلوماسية الأخيرة المتعلقة باليمن طبيعية، ما هي سوى جزء من صرح كبير ومُعقد صمم للاستجابة للأطراف المتحاربة. فبِالنسبة للسعوديين، حضر الحوثيون أخيرا إلى الرياض – وعبر رحلة مباشرة من صنعاء – وهي مسألة فاقت مُخيلة المراقبين الخارجيين. أما بالنسبة للحوثيين، فهي تُمثل اعترافا سياسيا بسلطتهم على أعلى مستوى، حيث رُحّب بهم في السعودية قبل الذكرى التاسعة لاستيلائهم على صنعاء. بالنسبة لليمنيين، يراقب معظمهم بتخوّف المحادثات الثنائية آملين أن تفسح المجال أمام نهج عمليّ لحلّ الأزمة الحالية في اليمن والتحديات المستقبلية. على الأقل بعد كَبْح الغرور والكبرياء في الحسابات السياسية وإزاحته جانبا.
نشر هذا المقال في مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية