خطوط الصدع الإقليمية والجغرافية القديمة تظهر مجدداً مقوِّضةً وحدة اليمن، من دون تقديم أي بديل واقعي عن الحدود الحالية.

في حين يواصل التحالف الدولي بقيادة المملكة العربية السعودية هجماته الجوية على اليمن، مستهدِفاً مجموعة الإسلاميين الزيديين الشيعة المدعومة من إيران والمعروفة بالحوثيين والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح، لاتلوح في الأفق أي نهاية للحرب. وتردّ القوات الحوثية وتلك الموالية لصالح على الهجمات داخل الأراضي السعودية، قائلةً مؤخراً إنها استهدفت قاعدة خميس مشيط الجوية في جنوب السعودية بصواريخ من طراز سكود.

تتقطّع أوصال اليمن بفعل التدخّل الخارجي والميليشيات المتصارعة والانهيار الاقتصادي. فخطوط الصدع الإقليمية والجغرافية القديمة تظهر مجدداً مقوِّضةً وحدة اليمن، من دون تقديم أي بديل واقعي عن الحدود الحالية.

تاريخ الانفصال في جنوب اليمن

تاريخيّاً، كان الانقسام الجغرافي الرئيس في اليمن مابين شمال البلاد وجنوبها. والبلاد لم تتوحّد إلا مؤخّراً، بعد أن كان الشمال والجنوب كيانين منفصلين في السابق.

منذ العام 1978، كان شمال اليمن خاضعاً إلى حكم صالح، وفق خطوط شعبوية وقومية عربية. في المقابل، كان جنوب اليمن الدولة الشيوعية الوحيدة في العالم العربي. ومع أن كلا الحكومتَين جهدتا لدمج اليمن في أمّة واحدة، كانت العلاقات متوتّرة والمناوشات الحدودية سائدة. ولم يمكن ممكناً تخطّي الخصومة إلا بعد أن دفع انهيارُ الاتحاد السوفياتي جنوب اليمن إلى شفير الانهيار الاقتصادي.

في العام 1990، وضع البلدان اتفاقية وحدة كجزء من صفقة بين قائدَيهما، علي صالح وعلي سالم البيض. وقد حظيت الاتفاقية بدعم واسع النظاق آنذاك، إلا أنها ارتُجِلَت على عجل، وكانت أقصر من نص عقد زواج إذ لم يتجاوز نص الاتفاقية الصفحة ونصف الصفحة.

غداة التوحيد، اشتكى بعض الجنوبيين السابقين من أن الوحدة صبّت لصالح الشمال، الذي كان عدد سكّانه أكبر بثلاث مرات تقريباً من عدد سكان الجنوب. وقد سيطر الأطراف الشماليون على الانتخابات البرلمانية للعام 1993 – وهي أول انتخابات متعددة الأحزاب في شبه الجزيرة العربية. وفي العام 1994، أحبطت القوات العسكرية الشمالية والميليشيات الإسلامية، بمساعدةٍ من بعض المجموعات في الجنوب، محاولةً يمنية جنوبية للانفصال. وهذا الأمر أدّى إلى تجذّر أكبر لنظام صالح الشمالي، الذي اضطهد الجنوبيين الانفصاليين فيما بعد.

في أوائل القرن الحادي والعشرين، تنامت المعارضة ضد صالح في كلٍّ من الشمال والجنوب، في مناخٍ من التدهور الاقتصادي والقمع السياسي الحادّ. فشهد الشمال نشوء التمرّد الحوثي في العامَين 2003 و2004، في حين تنامى الشعور الانفصالي مجدداً في الجنوب، وأدّى إلى تشكيل الحراك الجنوبي في العام 2007. بدأت هذه المجموعة الأخيرة تنشط عندما تحرّك ضباط عسكريون جنوبيون أُجبِروا على التقاعد مبكراً للمطالبة بحقوقهم ورواتبهم التقاعدية. ثم تطرّفت هذه الحركة لاحقاً وانقسمت إلى مجموعات عدة نادت بجعل جنوب اليمن مجدداً دولة مستقلة.

في العام 2011، عُلِّقَت الآمال على أن هذه الدعوات إلى الانفصال سيجري التخلّي عنها لصالح انفتاح سياسي جديد في اليمن. وفي العام 2012، أُطيح صالح أخيراً وحلّ مكانه نائبه عبد ربه منصور هادي. والجدير ذكره أن الرئيس الجديد هو نفسه جنوبي من محافظة أبين، لكن بما أنه وقف إلى جانب صالح والشماليين في العام 1994، لم يكن لتعيينه أثر يُذكَر لتهدئة الحراك الانفصالي. يُضاف إلى ذلك أن مؤتمر الحوار الوطني الذي بدأ في العام 2013 برعاية هادي والمبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، جمال بنعمر، قوطِع من جانب العديد من القادة الجنوبيين، الأمر الذي قوّض أكثر الأمل في التوصّل إلى تسوية للقضية الجنوبية.

إن التشظّي الحادّ للمشهد السياسي الجنوبي يجعل استعادة دولة جنوب اليمن أمراً مستبعداً إلى حدّ كبير، لكن مسألة الوحدة تبقى مثيرة للخلاف سياسياً وقابلة للاستغلال من اللاعبين الخارجيين. فطوال السنوات القليلة الماضية، حاول كلٌّ من إيران والسعودية لعب الورقة الجنوبية.

المملكة العربية السعودية وإيران والحراك الجنوبي

كانت السعودية، الجار الشمالي لليمن، مُعاديةً للجمهورية الشيوعية في جنوب اليمن، وفضّلت العمل مع القوى القبَلية والإسلامية المحافِظة المسانِدة لحكم صالح في الشمال. بيد أن اتفاق وحدة العام 1990 غيّر الحسابات السعودية: فاليمن أصبح بحجم السعودية تقريباً من حيث عدد السكان. وفي العام 1994، دعم السعوديون فعلياً الانفصاليين الشيوعيين سابقاً التابعين لعلي سالم البيض في نزاعهم مع صالح، الذي كان أعلن عن دعمه لصدام حسين في حرب الخليج في العامَين 1990 و1991. لكن عقب الانتصار الشمالي، تخلّت الرياض عن غزلها مع الانفصالية اليمنية الجنوبية، وركّزت بدلاً من ذلك على بناء النفوذ عبر وكلائها التقليديين في الشمال وحتى في الجنوب.

شهدت الأعوام التي امتدّت مابين صعود الحراك الجنوبي في العام 2007 وإطلاق مؤتمر الحوار الوطني في العام 2013، تكاثراً للنشاط السياسي في جنوب اليمن السابق. فانفتح بعض اللاعبين في ذلك الجزء من البلاد على إيران، واستطاعوا الحصول على التمويل من أجل أنشطتهم السياسية والإعلامية. وكان البيض من بين هؤلاء اللاعبين، وقد أدار أنشطته السياسية ومحطةً تلفزيونيةً من بيروت. واستطاع البيض، عن طريق تقرّبه من إيران، أن يحصل على الدعم العسكري والمالي المحدود لحلفائه في الداخل، فكانت المجموعة التابعة له أفضل تنظيماً من معظم نظيراتها ضمن الحراك الجنوبي.

لكن مع بروز المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران بصفتهم القوة المُهيمِنة في شمال اليمن في أوائل العام الفائت، ابتعد الحراك الجنوبي ببطء عن إيران واستدار نحو دول الخليج العربي. وفي ذلك الوقت تقريباً، رفض الجنوبيون، بمَن فيهم المتحالفون مع إيران، طلباً إيرانياً بدعم الانتصارات متسارعة الوتيرة للحوثيين. بالتزامن مع ذلك، غادر البيض، الذي اعُتبِر حليف طهران الأقرب، بيروت إلى فيينا – في دلالةٍ على تراجع نفوذ إيران في جنوب اليمن سابقاً.

يبدو دعم إيران المالي لحلفائها في اليمن، بمَن فيهم الحوثيون، محدوداً. لذا، لم يكن للمجموعات الجنوبية شيئٌ يُذكر تخسره من طهران، خاصة أنها أدركت بشكل متزايد الغضب الذي قد تصبّه عليها السعودية، الجار الأهم لجماعات الحراك الجنوبي.

في منتصف العام 2014، انزعجت السعودية ودول الخليج العربي الأخرى بشكل متزايد من تقدّم الحوثيين في شمال اليمن، غير أنها أدركت حينها أن استرداد الشمال سيكون مشروعاً صعباً ومكلفاً. عندئذ غيّرت السعودية موقفها للحؤول دون وقوع الجنوب تحت النفوذ الإيراني، واستدعت القادة الجنوبيين بسرعة إلى الرياض. هذا التغيير في الموقف السعودي – وفقاً لمصادر يمنية وسعودية عدة – جاء أيضاً نتيجة الضغط الذي مارسه رجال أعمال يمنيون يتحدّرون من منطقة حضرموت الجنوبية الشرقية ويقيمون في السعودية. بنى الحضارم امبراطورية أعمال ونفوذ ضخمة في المملكة العربية السعودية.

وحين استولى الحوثيون على السلطة في صنعاء، في أيلول/سبتمبر 2014، واصل السعوديون محاولة الحصول على النفوذ في الجزء الجنوبي من البلاد. بيد أن أولويات الرياض تغيّرت بشكل جذري عندما أطاح الحوثيون والقوات الموالية لصالح حكومة الرئيس هادي الانتقالية، التي كانت مدعومة من السعوديين والأمم المتحدة والمجتمع الدولي. لجأ هادي إلى عاصمة دولة جنوب اليمن السابقة عدن، في شباط/فبراير 2015، ولكن مع زحف الحوثيين نحو الجنوب، فرّ إلى المملكة العربية السعودية.

أدركت المملكة أن القتال تحت راية الجنوب من شأنه أن يدفع الشمال إلى التوحّد حول صالح والحوثيين، فألغت مشروعها الذي يركّز على الجنوب وبدّلت استراتيجيتها. وهكذا، انطلقت الهجمات الجوية الداعمة للرئيس هادي في آذار/مارس، ثم سرعان ماتلتها مهام تدريب وتجهيز المقاتلين اليمنيين.

التوسّط بين المجموعات العسكرية الجنوبية

مع أن السعودية تسعى إلى التشديد على دعمها لحكومة يمنية موحّدة يقودها هادي، إلا أنها تبقى منخرطةً مع مجموعات ذات ميول انفصالية في الجنوب، خاصة أن هذه المجموعات لاتزال تشكلّ القوة الأكثر نفوذاً عسكرياً ضد الحوثيين في الجنوب، ولاسيما بعد انشقاق الجيش الوطني التابع لهادي. كما جنّدت السعودية مقاتلين جنوبيين – كان بعضهم قد أفاد من التدريب الإيراني المحدود – للتصدّي للقوات الموالية لصالح والمتمردين الحوثيين. وقد برهنت هذه المجموعات فعاليتها في أماكن مثل محافظة الضالع الجنوبية – حيث اندلعت معارك كبرى في نيسان/أبريل – مع تحقيقها انتصارات مفاجئة حتى للسعوديين أنفسهم.

بيد أن للسعودية أولويات مختلفة عن أولويات الجنوبيين، الذين لايشكّلون حلفاءها الوحيدين على الأرض. الواقع أن تضارباً للمصالح نشأ عندما حقّقت مجموعات تتحالف بشكل رئيس مع الحراك الجنوبي الانتصارَ في الضالع، باسم حكومة الرئيس هادي المنفية في السعودية. عندئذ أصرّ هادي على تعيين قادة جدد موالين له خاصة محافظ المحافظة، ما أربك قادة الحراك الجنوبي. وفي نهاية المطاف، تدخّلت السعودية وجرى تعيين قادة محليين، في 6 حزيران/يونيو، بموجب مرسوم رئاسي لتهدئة الحراك الجنوبي.

تفكّك في كلٍّ من الشمال والجنوب

صحيح أن السعودية تفضّل من دون شكّ أن يعمل حلفاؤها جميعهم بشكل موحّد، إلا أن الحقيقة هي أن الهجمات الضارية ضد المحافظات الجنوبية من قبل قوات متحالفة مع الحوثيين وصالح، وكلها تقريباً مؤلّفة من شماليين، وَسَّعَت الشرخ الاجتماعي بين الشمال والجنوب. ففي نظر العديد من الجنوبيين، هذه كانت المرة الثانية، في أقل من خمسة وعشرين عاماً، التي يتعرّض فيها الجنوب إلى اجتياح يشنّه تحالف مجموعات من الشمال.

لكن في نهاية المطاف، لم تَعُد وحدة اليمن مسألة شمال وجنوب، كما أنها ليست مسألة عودةٍ إلى الأوضاع التي كانت سائدة ماقبل العام 1990. فالتطورات منذ العام 2013، ولاسيما مع الدعوة المخطَّط لها بشكل سيّئ التي أطلقها مؤتمر الحوار الوطني حول تقسيم اليمن إلى ست مناطق فدرالية، أعادت رسم الخريطة وحثّت القادة المحليين على التفكير في مصالحهم بموجب هذا النظام الفدرالي. هذا الأمر قوّض وحدة الشمال كما الجنوب.

والحال أن جنوب شرق اليمن أكثر تفكّكاً بفعل السمات المُميِّزة للمنطقة الشاسعة المعروفة بحضرموت، حيث استولى تنظيم القاعدة على مساحات واسعة من الأراضي هناك، كما بفعل صراعات تقليدية مابين نخب من حضرموت وأبين والضالع، تعود إلى ستَينيات القرن الماضي. بعبارة أخرى، مع أن الشعور الانفصالي متأجّج في جنوب اليمن السابق، والحكومة المركزية انهارت تقريباً، إلا أن جنوب يمن مستقلاً لايبدو في هذه المرحلة ممكناً أو مستقرّاً.

لقد تعدّت مشكلة الوحدة اليمنية الخلافات بين شمال اليمن وجنوبه، ومع ذلك لابد من معالجة جذور الاستياء الجنوبي في مرحلة ما. لاتستطيع السعودية أن تؤجّل هذه المسائل إلى ما لانهاية وهي عملياً الآن القوة النافذة الرئيسة في اليمن.

نشر هذا المقال في مركز كارنيغي

10