بعد نحو ثلاثة أشهر على انطلاقة مؤتمر الحوار الوطني في اليمن، لا تزال التساؤلات تُطرَح حول قدرته على تسوية المشاكل الكثيرة التي تعاني منها البلاد.


تجري الاستعدادات حالياً لبدء الجلسة العامة الثانية من مؤتمر الحوار الوطني الشامل في اليمن، بعد انتهاء لجان المؤتمر من إعداد تقاريرها الأولى، استعداداً لمناقشتها معاً والعودة مجدداً إلى فرق العمل لاستكمال خططها حتى يتم الاتفاق على الخطوط العريضة للدستور المقبل للبلاد.

ومع تقدّم بعض لجان المؤتمر في عملها وتسليمها تقاريرها، لا تزال تعصف ببعض لجانه المحورية، مثل لجنتَي العدالة الانتقالية وصعدة، خلافات حادة وتأخّر في إنجاز أعمالها، إضافة إلى معاناة لجان أخرى من نقصٍ في قدراتها وخلفيتها عن الموضوعات التي تناقشها. في الواقع، تُهدّد مسائل كثيرة نجاح الحوار الوطني، وربما أشدّها خطورة هو القضية الجنوبية.

وقد زادت الظروف الإقليمية من الضغوط – على الأطراف كافة – لإنجاح الحوار. فنظراً إلى فشل المجتمع الدولي في التحرّك في الشأن السوري، يسعى إلى تصوير اليمن على أنه النموذج الناجح لتدخلّه الدبلوماسي في دول الربيع العربي. وهكذا يقدّم المجتمع الدولي  بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركيّة ودول مجلس التعاون الخليجي والأمم المتحدة – الراعي لمؤتمر الحوار الوطني (الذي يُعَدّ أيضاً أحد البنود الرئيسة للمبادرة الخليجية غير الفاعلة) – الحوارَ على أنه الفرصة الأبرز التي يمتلكها اليمن بمساعدة العالم لإحراز تقدّم حقيقي في قضايا أغفلتها المبادرة الخليجية، كالقضية الجنوبية، والنزاع الحوثي في صعدة، وصياغة الدستور، وصولاً إلى وضعٍ مستقرٍّ في اليمن. وهو أيضاً فرصة لإشراك أطراف قوية في الشارع لم تكن جزءاً من المبادرة مثل الحراك، والحوثيين، والشباب.

لكن على الرغم من الطابع النقاشي التفاوضي لمؤتمر الحوار الوطني، واستيعابه أغلب الأطراف التي لم توقّع/تقرّ المبادرة الخليجية كحلّ للوضع اليمني، أدرج في قائمة القضايا التسع (القضية الجنوبية، قضية صعدة، القضايا الوطنية، بناء الدولة، الحكم الرشيد، القضايا العسكرية والأمنية، الكيانات الخاصة، الحقوق والحريات، التنمية) التي يناقشها قضايا لا طابع حوارياً لها. إذا كانت قضيّتا الجنوب وصعدة تحتاجان إلى حوار وطني مثلاً، فالقضية الجنوبية ستتداخل مع قضايا بناء الدولة والعدالة الانتقالية والحكم الرشيد، ومن الصعب حتى التفكير في شكلها وطبيعتها قبل أن تُحَلّ القضية الجنوبية ويُتَّفَق على مستقبل الجنوب.

وصحيح أن مؤتمر الحوار الوطني أكثر تمثيلاً لفئات المجتمع اليمني من أيّ كيان سياسي آخر، بما في ذلك مجلسا النواب والشورى والحكومة وحتى الأحزاب السياسية، إلا أن اقتصار تمثيل القضية الجنوبية على بعض فصائل الحراك الجنوبي، مؤشرٌّ سلبيٌّ يشكّك بحقيقية تمثيلها ويقوّض من فرص تطبيق ما اتُّفِق عليه بعد المؤتمر.

تؤكّد جميع الأطراف اليمنية – حتى تنظيم القاعدة نفسه وجماعات متطرفة أخرى – على رغبتها في الحوار لكن بعضها – الأكثر أهمية بعض التيارات الجنوبية – رفض الدخول في مؤتمر الحوار الوطني لأسباب تتعلّق بشكله الحالي أو بعدم التهيئة المسبقة له. ويُعَدّ عدم تنفيذ النقاط العشرين – التي يتعلّق معظمها بالجنوب والتي قدّمتها سابقاً اللجنة الفنية للتحضير لمؤتمر الحوار – أهمّ المسبِّبات التي تقوِّض مصداقية الحوار جنوباً وجدّية الأطراف المنضوية فيه لحلّ قضايا الجنوب. وتزداد هشاشةُ الثقة بتواجد شخصيات جنوبية كانت من أشدّ حلفاء صالح سابقاً وتتحدث في الحوار باسم الحراك الجنوبي والقضية الجنوبية. كما شكّل انسحاب قادة جنوبيين من الحوار على غرار أحمد الصريمة، الذي كان نائباً لهيئة رئاسة الحوار، ضربةً قويةً لشرعية الحوار. ومع ذلك، حتى إن نجح المؤتمر في الإتيان بالأطراف الجنوبية كافة إلى طاولته، فذلك لا يعني بالضرورة أنه سينجح في حلّ القضية الجنوبية، لأن قضايا الجنوب الحساسة، خصوصاً تلك المتعلقة بالأراضي والممتلكات المنهوبة والتسريح القسري للموظفين بعد حرب صيف 1994، هي قضايا ذات بُعد حقوقي أو تنفيذي لا تحتاج إلى حوار وطني، بل إلى قرارات حكومية تنفيذية، وإلى وقت أوسع لتتحوّل إلى حلول ملموسة على الأرض.

ويُسجَّل على مؤتمر الحوار إتاحة تمثيل أكبر لبعض الأطراف التي أسمعت صوتها بقوة السلاح لا بحجة قضاياها، خصوصاً مع تغييب قضايا ذات بُعد تاريخي أعمق وأكثر مظلومية كالحراك التهامي. وتهامة هي منطقة تعاني من الفقر الشديد وكانت فيها نزاعات عقارية، في ظل تعتيم تام وغياب لأي محاولة لإصلاح وضعها. وقد أدّى ذلك إلى نموذج غير سلمي لإيصال أصوات الأطراف الأخرى بغض النظر عن مدى عدالة القضية التي ترفعها.

ويزيد مؤتمر الحوار شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي وشعبيته، ولا سيما أنه مُرافِق لإحداثه أكبر هزة تغيير قيادية في تاريخ الجيش اليمني لاقت دعماً شعبياً غير مسبوق، بعد أن كانت صورته على المحك إذ لم يصعد إلى السلطة عبر انتخابات تنافسية، بل تلبية لمبادرة لم تكن غالبية الأطراف التي في الحوار الآن جزءاً منها. لكن ازدياد شعبيته يحمل مخاطر جمة، منها احتمال تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، الأمر الذي من شأنه أن يسيء إلى الثقة بالعملية الانتقالية، خصوصاً إذا استمرت حكومة الوفاق الوطني الحالية التي تقلّ شعبيتها.

يحتاج المؤتمر ليكون ناجحاً إلى أن يصيغ من الحلول ما تستسيغه مختلف فئات المجتمع اليمني بما فيها أيضاً تلك التي لم تشارك في الحوار. ويجب أن يضع اليمن سيناريوهات أخرى لمستقبله تحتمل فشل الحوار كما تحتمل نجاحه. كما ينبغي وضع إجراءات لاسترضاء الخاسرين في الحوار. لكن ربما أهم ما يجدر بالحكومة فعله هو وضع آلية محكمة ودقيقة وواضحة للجهات المخوّلة بالتنفيذ، وقابلة للتنفيذ الفعلي أيضاً، لأن وضع الحلول لا يعني بالضرورة تصالح الفرقاء، وخلو الساحة من الخلافات، قديمة النشأة كانت أم حديثة، محلية الصناعة أم إقليمية. وتحلّ لائحة المؤتمر جزئياً من هذه الإشكالية عبر تضمّنها “لجنة التوفيق” التي أصدر الرئيس هادي قراراً بتسمية أعضائها في بداية شهر يونيو/حزيران المُناط بها حلّ الخلافات داخل المؤتمر ومتابعة تنفيذ نتائجه.

وكي يؤخَذ مؤتمر الحوار بجدية أكبر، على الرئيس الاتجاه جنوباً والعمل بشكل أعمق وأكبر لحلّ القضية الجنوبية، وعلى لجان الحوار التنسيق أكثر في أعمالها وخططها مع لجنة القضية الجنوبية. وإذا ما رغِب المجتمع الدولي في التمديد لمؤتمر الحوار، الذي انقضى تقريباً نصف فترة الستة أشهر المخصصة له، وللولاية الرئاسية، فإنه سيتحتّم عليه الدفع نحو استبدال الحكومة الحالية بأخرى جديدة يعيّنها الرئيس وتحظى بشرعية مؤتمر الحوار بدلاً من مجلس النواب المُنتَهية ولايته والذي يُعتبَر منحازاً ضد الجنوب.

فارع المسلمي محلّل مقيم في صنعاء ومعلّق حول الشؤون اليمنية.

نشر هذا المقال في مركز كارنيغي

10