لم يتم إعلان كيان واضح باسم الإخوان المسلمين باليمن، وإن تأسس فرع التنظيم فيها قبل خمسة عقود، إلا أنه لم يمارس نشاطا جماهيريا أو سياسيا باسمه علنا حتى اليوم. تأسس حزب سياسي باسم “التجمع اليمني للإصلاح” عند إقرار التعددية السياسية دستوريا (1990) وكان خليطا من القيادات القبلية والدينية مع رموز إخوانية لم تتصدر المشهد إلا بعد إعادة تشكيل التجمع (1994). وقد رئسه منذ تأسيسه حتى العام 2007 الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، الذي كان رمزا قبليا وليس دينيا، وكان في الوقت نفسه قناة عبور لأي شخصية سياسية أو قبلية يمنية إلى الرياض. ووجدت الرياض فيه ذراعها القوية داخل اليمن، وخصوصا بسبب تحالفه المستمر مع قوى دينية وقبلية وعسكرية كبيرة.
وبقيام حركة “نوفمبر 1967” التي استلمت السلطة باسم هذه القوى، تكرست أعمق علاقة مع الرياض، تمخض عنها ما عرف بـ “المصالحة الوطنية” (1970) بين الإماميين (الذين دعمتهم الرياض على مدى 8 سنوات دون جدوى)، وبين الجمهوريين الذين اخترقتهم الرياض من الداخل.
وعمليا، كانت هذه المصالحة بين تيارين مقربين من الرياض، واعترض عليها الجمهوريون الذين كان قد تم إقصاؤهم التدريجي عن مواقع القرار بالعزل، أو القتل أحيانا، بحجة انتماءاتهم القومية واليسارية التي فسرت دينيا كعدوة للمجتمع اليمني المسلم. وكان هذا تقليدا أو توجهات سياسية بدأت بها الرياض لربط علاقتها باليمن في محاولة لجعله نسخة من نجد مذهبيا بعد فشلها في الحفاظ عليه كنسخة منها سياسيا، مع انتهاء الحكم الوراثي الملكي (في 26 أيلول/ سبتمبر 1962).. على الرغم من أنها أبدت مرونة برغماتية حتى على صعيد مذهبي، إذ دعمت الزيدية في مواجهة الإخوان المسلمين، في محاولة منها للحفاظ على الملَكية في البلاد.
فتش عن المدرسة
خلال تلك الفترة (1967-1974)، وضعت الرياض لبنة التغيير الأولى، طويل المدى، في البنية اليمنية، بالتعاون مع التيار الديني الذي كان ضمنيا يعني الإخوان المسلمين زائداً تحالفهم القبلي القوي. وتم تعيين عبد الملك الطيب، أحد أبرز قيادات هذا التيار وزيرا للتربية والتعليم، فحدثت تغييرات متوالية في المنهج الدراسي الذي كان ولم يزل مصريا. وتطور الأمر إلى صدور قانون للتعليم الديني (“الهيئة العامة للمعاهد العلمية”) كإطار مواز للتعليم العام (1974) بعد تجميده لمدة 10 سنوات، وتبنى القانون القاضي عبد الله الحجري أحد القيادات المرموقة في التحالف القبلي/الديني، الذي تعين رئيسا للوزراء في العام نفسه، بناء على رسالة من رئيس المخابرات السعودية حينها (كمال أدهم) للرئيس عبد الرحمن الإرياني.
وخلال عام (1973-1974) أرسلت السعودية 22 معلما سعوديا إلى اليمن رغم حاجتها الملحة للكادر التعليمي، واستقدامها لآلاف منهم من دول عربية أخرى. وتبنت المعاهد العلمية تلك منهجا دينيا سنيا/وهابيا صارما ومعاديا لكل الأفكار القومية أو اليسارية، وسهَّلت بعدها استقدام إخوان مصر وسوريا كمعلمين فيها، وكنوع من الحماية لهم ضد الملاحقات في بلدانهم، وللعمل على مسح آثار المعلمين الناصريين والبعثيين الذين سبق وأرسلتهم مصر وسوريا إلى اليمن لتأسيس نظامها التعليمي واستقطاب الشباب فكريا، وشكلت أيضا نواة ومصنعا لكوادر وشباب التجمع اليمني للإصلاح، الحزب الممثل للإخوان المسلمين اليمنيين بعد العام 1990.
محاربة الشيوعية
التقت أفكار وأهداف التيار الديني/القبلي أواخر سبعينات القرن الماضي مع الرياض فيما عُرف بـ “محاربة الشيوعية” التي مثَّلها نظام عدن (عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطية حتى وحدة الشطرين 1990). وقد تبنت السعودية تمويل ودعم “الجبهة الإسلامية” التي شكلها إسلاميو الشمال ونظام صنعاء حينها لمحاربة “الجبهة الوطنية الديمقراطية” اليسارية المدعومة من عدن. وبُني على الجبهة الإسلامية استحقاقات كبيرة للإسلاميين الذين قادوا جبهات القتال، فتعينوا في مناصب رفيعة، أمنية وسياسية.
بعد ذلك، لم تنفصل قيادات ذلك التحالف في أهدافها ورؤيتها للحياة العامة والعلاقات الدولية عن الرياض، إذ توسعت دوائر “الجهاد ضد الشيوعية” من المناطق الوسطى في اليمن إلى جبال أفغانستان حيث كان عبد المجيد الزنداني، القيادي البارز في حزب الإصلاح لاحقا، أحد معلمي أسامة بن لادن. وعندما عاد إلى اليمن من السعودية (بعد عودته إليها من أفغانستان)، كان هو الأب الروحي لمشروع محاربة الشيوعية، والمنظِّر الأول ضد الحزب الاشتراكي اليمني، الشريك في الوحدة اليمنية، وأبرز مناهضي دستور دولة الوحدة لأنه لم يُقر الإسلام مصدرا وحيدا للتشريع.
وقد سجل خطبه على أشرطة كاسيت أرسلت من السعودية حينها إلى أن أصبح عضوا في مجلس الرئاسة كاستحقاق شخصي وتنظيمي لدوره البارز في حرب 1994، حيث كان مشاركا في غرف عمليات الحرب وراعيا دينيا لها. وتلك كانت الحرب الوحيدة التي خاضها إخوان اليمن بالضد من رغبة الرياض التي وقفت إلى جانب خصمها التقليدي (الحزب الاشتراكي اليمني) نكاية بموقف حليفها التقليدي أيضا (علي عبد الله صالح) المؤيد لغزو صدام حسين للكويت.
لكن العلاقات بين صنعاء والرياض عادت مرة أخرى عبر الشيخ الأحمر، رئيس حزب الإصلاح، وهو بقي الخيط المستمر لعلاقة الرياض بصنعاء منذ الستينات حتى وفاته في 2007.
وفي مفارقة لم تُدرس بعناية حتى الآن، تزامنت عودة كل من الزنداني والوادعي إلى اليمن (قيادات دينية سنية اقرب للوهابية قبل أن يصبح الزنداني قياديا في الإصلاح) مع عودة كل من بدر الدين الحوثي ومجد الدين المؤيدي (قيادات دينية زيدية كانت تقيم في نجران).
والأربعة عادوا من السعودية ذاتها مطلع الثمانينات، فأسس الوادعي “مركز دماج العلمي” الذي استقطب آلاف الدارسين من مختلف الأقطار العربية والإسلامية لتدريس أصول الحديث وفقا للمدرسة الوهابية في عمق البيئة الدينية والجغرافية الزيدية (صعدة)، وهي المحافظة ذاتها التي انطلقت منها حركة دينية مضادة مذهبيا للوادعي ومركزه (“الشباب المؤمن” الذي تحول إلى “جماعة الحوثيين”) على يد بدر الدين الحوثي ونجله حسين. ونجحت هذه الأخيرة بطرد جماعة الوادعي أواخر 2013 وتهجير طلاب مركز دماج ومعلميه على يد النجل الأصغر لبدر الدين وزعيم جماعته حاليا (عبد الملك الحوثي)، في إطار حرب مفتوحة مع الإخوان والسلفيين الموالين مذهبيا للسعودية، قبل أن تتحول إلى حرب مباشرة مع السعودية منذ 26 آذار/مارس الماضي.
بعد الربيع اليمني
بعد الربيع العربي، عاش إخوان اليمن أسوء مراحل علاقتهم بالرياض، التي كانت قد شهدت أسوأ منحنياتها نتيجة موقف الرياض من إخوان مصر ودعم السيسي ضدهم، وعلى خلفية تحول إخوان اليمن باتجاه الدوحة كحليف بديل عن الرياض، بعد أن وجدوها أكثر سخاء واستعدادا للذهاب معهم في عداء صالح ونظامه إلى نقطة اللاعودة، وهو ما لم تكن الرياض تفكر فيه. وخلال السنوات التي تلت 2011 ، وصل إخوان اليمن الى أعلى مراتب الجفاء مع السعودية، إلى درجة أن قيادات من حزب الإصلاح، كرئيس الهيئة العليا فيه، محمد اليدومي، حاولت لأكثر من مرة خلال العام 20144 الالتقاء بالقادة السعوديين، ولم يستجب هؤلاء لذلك الا بعد سقوط صنعاء بيد الحوثيين. والأمر كان أيضا مرتبطاً بالقيادة السعودية السابقة التي كانت تمتلك رؤية مختلفة، أكثر توجسا من الحالية تجاه إخوان اليمن.
وبعد سقوط عمران، وفي مظاهرة لإخوان اليمن بالسعودية، رُفعت أعلام “شكرا ملك الإنسانية” لدعم الملك عبد الله اليمن بالمشتقات النفطية، وكان ذلك بمثابة عودة خجولة لتحالف الإخوان والرياض إلى سابق عهده، وإن استغرق ذلك عدة أشهر لإعادة “ضبط المصنع” والتحول لحقيقة ملموسة بعد هروب الجنرال علي محسن إلى السعودية عقب استيلاء الحوثيين على صنعاء (21 أيلول/سبتمبر2011)، وتحول شعار الحرب التي جمعت الطرفين إلى محاربة “الشيعية الاثنى عشرية” هذه المرة بدلا من “الشيوعية”، أي من الحرب الدينية الإسلامية ضد الإلحاد ــ كما سميت حينها ــ إلى الحرب الطائفية المذهبية كما تريد أجنحة في الرياض عنونة حربها بصبغتها الطائفية في اليمن كامتداد لصراعها مع إيران، التي ترى في الحوثيين ذراعا لها. ولأول مرة، لم يضم هذا التحالف الرئيس السابق (صالح)، بل صار خصماً إلى جانب الحوثيين، بينما حل محله هادي الذي لا يتمتع بالنفوذ ولا بخبرات سلفه لإدارة هكذا تحالفات.
لم يعلن الإخوان (حزب الإصلاح) رسميا خوضه حرباً ضد الحوثيين في الحرب الداخلية، لكنه أصدر بيانا أيد فيه ضربات طائرات التحالف الذي تقوده الرياض (“عاصفة الحزم”) ضد الحوثيين بعد أسبوع واحد من بدء القصف على صنعاء (26 آذار/مارس الماضي). كما أن قيادات إصلاحية تقود جبهات المواجهة ضد الحوثيين، كمحمود المخلافي في تعز حاليا. وبعد إصدار الاصلاح بيانه المؤيد ذاك، قام الحوثيون باعتقال أكثر من 120 من قياداته في يوم واحد واعتبروه الخصم رقم 1 داخليا. وتتواجد اغلب قياداته حاليا في الرياض، في علاقة مختلفة مع السعودية عن السنوات القليلة الماضية التي لم تطأ فيها قدما أي قيادي منه السعودية.
في ظل عودة العمل المشترك بين الرياض وإخوان صنعاء، لتحقيق مكاسب سياسية بغلاف ديني/طائفي، تتفوق فيه الرياض بالترويج للصراع ذي الطبيعة الطائفية على الإخوان الذين يرونه صراعا مع جماعة انقلابية إقصائية في خطابهم الرسمي الذي تكاد تغيب عنه التوصيفات الطائفية. وهذا “تحالف الضرورة”، وهو يندرج أيضاً في إطار إعادة ترتيب ملفات الإخوان على مستوى الإقليم. علاوة على ذلك، فإن وجودهم في الرياض هو ثمرة التواصل بين تركيا والسعودية اللتين تقفان في اليمن على أرضية موقف واحد، على عكس اختلافهما في مصر.
في نهاية المطاف، وفي الوقت الراهن على الأقل، فإن الرياض في تحالفها مع إخوان اليمن هي بالتأكيد مع الإخوان ضد الحوثيين، لكنها ليست مع الإخوان أبعد من ذلك، لاعتبارات عديدة وحسابات سعودية معقدة ومختلفة وبعضها أقل ارتباطا باليمن نفسه. فبالإضافة إلى ميل الإخوان للدوحة التي تربطها بالسعودية “خصومة مجمدة” أعمق من “التحالف السائل” الحالي، لم تعد الرياض تتعامل مع إخوان اليمن كجزء من تركيبة تقليدية يمنية ترتكز على القبيلة والدين وتلتقي أهدافها مع الرياض، بل كجزء من تنظيم سياسي/ديني عالمي لا تعد الوهابية السلفية التي تتبناها الرياض مرجعا له بالقدر الذي يبقيه جديرا بدعمها التاريخي.