«الجهادي الإسلامي» في اليمن إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، أثناء موجة المواجهات مع ما سمي حينها بالشيوعية في أفغانستان، التي كان لها حرب موازية في اليمن بين امتدادات التيارين ذاتهما.
وفي مطلع الثمانينيات، بدأت طلائع «جماعة التكفير والهجرة» المصرية بنشر فكرها في اليمن، كما فعل المصري محمد البواب بمحافظة إب وسط البلاد. وفي الفترة نفسها، عاد إليها قادماً من السعودية مؤسس الحركة السلفية الحديثة مقبل الوادعي، الذي أنشأ مركز «دماج» في صِعدة لنشر الفكر الجهادي والسلفية الوهابية التي تدعمهما الرياض بقوة.
إعادة توجيه بوصلة الجهاد
في العقد الأخير من القرن العشرين، حدث التحول الفكري والتكتيكي لأنصار «الجهاد الإسلامي»، إذ استمر «الجهاديون» بتوجيه أسهمهم ضد ما أسموه «ذيول الشيوعية» في اليمن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ويقيت الحال كذلك حتى منتصف التسعينيات، عندما رحّلت صنعاء ما يقدر بين 14 و20 ألفا منهم إلى بلدانهم الأصلية، وهم كانوا قدموا إلى اليمن من أفغانستان، حسب تصريحات رئيس الوزراء الأسبق عبد القادر باجمال.
ووفقاً لتقرير أصدره المرصد اليمني لحقوق الإنسان، فقد شهدت الفترة (1990-1994) 154 حالة اغتيال معظمها لقيادات وكوادر من الحزب الاشتراكي. كما شهد فندق «الساحل الذهبي» بعدن ليلة رأس السنة 1992 أول تفجير يستهدف أجانب في اليمن. وشكلت حرب صيف 1994 فرصة سانحة لأنصار أسامة بن لادن العائدين من أفغانستان، لتصفية حساباتهم مع «ذيول الشيوعية» (والمقصود الحزب الاشتراكي اليمني) حسب وصفهم، حيث كان رجل الدين عبد المجيد الزنداني يواصل خطبه في معسكرات صالح، وطارق الفضلي يقود رجاله في أبين ولحج ضد عدوهما الاشتراكي، بمباركة من بن لادن لهذا التوجه قبل إعلانه تأسيس تنظيم القاعدة. وفي العام 1994 كانت اليمن محطة لأيمن الظواهري وهو بقي فيها حتى 1995 حين توجه إلى باكستان.
وبعد نجاح صالح وحلفائه من الإسلاميين المتشددين بإزاحة الاشتراكيين من السلطة، وتحويلهم إلى مجرد حزب ضعيف مغضوب عليه، اتجهت بوصلة الجهاد إلى أميركا، حليفهم السابق ضد الشيوعية، بل وصانع فكرة «الجهاد الإسلامي» ضد موسكو بتمويل سعودي باذخ.
القاعدة بنسختين
في العام 1998، أعلن بن لادن تأسيس قاعدة جهاده «ضد اليهود والصليبيين»، وفي العام ذاته أعلن أحد أنصاره (أبو حسن المحضار) تأسيس جيش عدن – أبين الإسلامي، الذي بدأ نشاطه بخطف عدد من السياح الأجانب. لكن الحكومة وجهت حملة قوية نجحت في اعتقال المحضار ومحاكمته وإعدامه بعد أقل من عام.
أسامة بن لادن، عند عودته لأفغانستان بعد خلافه مع الرياض وواشنطن، وتحوله من حليف لهما إلى مجاهد ضدهما، صرح بأن جبال اليمن هي محطته القادمة للجهاد. وهكذا كان، فقد شهد شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2000 أكبر عملية نوعية ضد مصالح أميركا في اليمن باستهداف المدمرة إس.إس.كول في ساحل عدن، ليبدأ فصل جديد من الجهاد والجهاديين، وحرب السجال بينهم وبين الدولة اليمنية.
قاعدة الجيل الثالث
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، ودخول المنطقة برمتها مرحلة الحرب الدولية ضد الإرهاب، تحولت اليمن إلى واحدة من أبرز وأخطر فروع القاعدة في العالم، مع وصول الموجة الثانية من العائدين من أفغانستان، ومن ضمنهم ناصر الوحيشي، قائد تنظيم القاعدة الحالي في جزيرة العرب. وافتتح القرن الجديد بأول ضربة جوية أميركية على عناصر القاعدة داخل اليمن، استهدفت أبو علي الحارثي في مأرب.
في الوقت ذاته، تحدث المحللون عن إجراء تغييرات هامة في استراتيجيات العدوين (القاعدة وأميركا) تجاه بعضهما، لكن اليمن كانت العامل المشترك/الضحية لهذه التغيرات التي تمثلت في سعي كل منهما إلى استدراج خصمه الى الميدان نفسه وهو اليمن. فالقاعدة ستكون أقوى وأحصن في اليمن بحكم وعورة تضاريسه وضعف قبضة الدولة وتعاطف بعض رجال القبائل معها، وأميركا تفضل الحرب في ميدان أضيق وواضح الحدود مع شريك محلي بلا ثمن مرتفع.
بموجب ذلك، رفعت القاعدة وتيرة أنشطتها في اليمن وتهديداتها لأميركا والغرب ومصالحهم فيها، ولو إعلامياً، لجذب الخصم إلى الميدان الذي اختارته. كما ضيقت السعودية شريك أميركا الأساسي – الخناق على بعض أبنائها المنتمين للقاعدة، مجبرة إياهم على المغادرة إلى اليمن، مما سهل جمعهم في جبهة واحدة مع أعضاء القاعدة اليمنيين.
ورغم عمل السلطات اليمنية على ملاحقة واعتقال المئات من عناصر القاعدة، فلم تكن أجهزتها الأمنية قادرة على الانجاز، ولا راغبة به أحياناً. وبانت ثغراتها بسرعة بعد نجاح 23 معتقلا من القاعدة في الهرب من سجون الأمن السياسي في 2006، لتعزز القاعدة قوتها في البلاد بدمج فرعي اليمن والسعودية في تنظيم واحد هو»تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» الذي دشن جهاده بمحاولة فاشلة لاغتيال الأمير السعودي محمد بن نايف.
القاعدة والربيع اليمني
عملت القاعدة على استغلال الأوضاع المضطربة في اليمن أثناء انتفاضة الشباب ضد نظام صالح في 2011، وانشغال قواته بقمع المتظاهرين السلميين في صنعاء. ففتحت جبهة قتال شرسة في جنوب البلاد، ونجحت في إعلان كل من منطقتي عزان بمحافظة شبوة، وجعار بمحافظة أبين إمارتين إسلاميتين، قبل أن يتمكن الجيش اليمني من استعادة المنطقتين خلال 2012. ولكنه لم يتمكن من القضاء على عناصر القاعدة فيهما، لتظلان حتى اليوم من أهم بؤر نشاط هذا التنظيم.
تكثفت هجمات القاعدة خلال العامين الأخيرين ضد رجال الأمن اليمني، وضباط الاستخبارات والقوات الجوية اليمنية. كما أصبحت المنشآت النفطية والغازية مهددة من قبلها بشكل دائم. وقبل شهرين، أعلنت أميركا ومعها دول غربية أخرى إغلاق سفاراتها بصنعاء لأيام تحسباً لهجمات القاعدة، وبعد وقت قصير على تهديد الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي للقاعدة ومطاردتها حتى تسلّم أسلحتها للدولة، وهو ما جرى بالتزامن مع محاكمة عدد من عناصرها بتهمة محاولة اغتيال هادي قبل أشهر.
جاء رد القاعدة على خطاب الرئيس عنيفاً، واصفاً إياه بتاجر حروب. ومنتصف أيلول/ سبتمبر الفائت، شنت القاعدة في يوم واحد ثلاث هجمات ضد نقاط أمن ومعسكرات بشبوة جنوب البلاد، وقتلت وأسرت العشرات من الجنود، ثم اختتمت الشهر نفسه باحتلال مقر المنطقة العسكرية الثانية لأيام.
مؤشرات ختامية
نجحت بعض الدول بالإفراج عن مختطفين من مواطنيها لدى القاعدة في اليمن من دون إشعار السلطات اليمنية، كما حدث مع كل من قطر والسعودية، ما يدل على وجود علاقات بين التنظيم وأطراف مرتبطة بهذه الدول، أو على الأقل اختراقات خطيرة من قبل الدولتين لليمن، من دون علم سلطاتها. وقد كشف الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح عن توسط كل من أمير قطر السابق خليفة بن حمد والعقيد القذافي للصلح بينه وبين القاعدة، بغاية الحد من هجماته ضدها، مبررين ذلك بأن القاعدة لا تستهدفه، وأن لها أهدافا أخرى، في إشارة للسعودية. وبدا ذلك وكأنه تأكيد على دعم حكام قطر وليبيا السابقين للقاعدة، ككيان محلي يقوم بأنشطته تحقيقاً لأهداف الخصومات الإقليمية.
ويلاحظ أن القاعدة تزداد نشاطاً في اليمن عند كل منحنى جديد في العملية السياسية الانتقالية، ما يعد دليلا على توظيف ولو غير مباشر وغير منسق من قبل بعض الأطراف والقوى لعناصر القاعدة خدمة لأجنداتهم السياسية. ويكفي كأمثلة خوضها الحرب ضد الجيش مع بداية التغيير في 2011، وحصولها على أسلحة متوسطة وثقيلة بتواطؤ من قيادات عسكرية حينها (أكده اتهام كل من الطرفين المتصارعين وقتها، أي السلطة والمعارضة، للآخر بالتواطؤ وإمداد القاعدة بالسلاح)، بل وإخلاء معسكرات لتسهيل سيطرة القاعدة عليها ونهب أسلحتها.
وحالياً وسعت القاعدة من هجماتها شبه اليومية ضد معسكرات ونقاط أمن وأشخاص ومؤسسات إلخ… وضاعفت من جبهات نشاطها في أكثر من منطقة مع نهاية مؤتمر الحوار الوطني وبدء إقرار وتفعيل مخرجاته على الأرض، لتعارضها مع توجهات أكثر من طرف من المشاركين في الحوار. ومن المؤشرات الأخرى على توظيفها لأنشطتها سياسياً، البيان الذي شنت فيه مؤخراً هجوماً غير مسبوق على الرئيس هادي شخصياً، بالتزامن مع محاكمة متهمين من التنظيم بمحاولة اغتياله.
الرئيس المؤقت خصم لكثيرين وهو لا/لم يمتلك فصيلاً قاعدياً حليفاَ له. ويقودنا هذا الى نقطة هامة تتعلق بوجود عدة تشكيلات من «القاعدة» على الأرض، إحداها فقط تتبع التنظيم العالمي بقيادة الظواهري، بينما القواعد الأخرى تستغل سطوة القاعدة وخوف السلطة والناس منها، لتمارس أنشطتها التدميرية للبلاد، مدفوعة باجندات أخرى، وإن اختبأت تحت مظلة القاعدة الدولية.
ورغم عدم وجود معلومات دقيقة حول هذا الأمر، إلا أن جيش عدن ـ أبين وقائده المحضار، كانا ينسقان مع الرئيس السابق صالح. ولحرص هذا الأخير على نفي ذلك حينها، قام بالقبض على المحضار ومحاكمته وإعدامه. من جهة أخرى، فإن القيادي الحالي في الحراك الجنوبي طارق الفضلي، وهو جهادي سابق في أفغانستان، شارك بعد عودته الى اليمن مع صالح في حرب 94 ضد الحزب الاشتراكي كعدو مشترك، ثم استقطبه اللواء علي محسن، ذراع صالح اليمنى حينها، عن طريق إقامة علاقة نسب بينهما وترشيحه كعضو في اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام (حزب صالح). أي أنه، وكما ذهب الكثيرون حينها، أصبح أداة بيد علي محسن للتأثير والتواصل مع القاعدة سابقاً، ثم لاختراق الحراك الجنوبي مؤخراً.
يصعب تخيل السيناريو المستقبلي لعلاقة الدولة بالقاعدة/القواعد على الأرض، في ظل تزايد تهديداتها، رغم كثافة ضربات الطائرات الأميركية واليمنية ضدها، التي تأتي غالباً بنتائج عكسية إذ تجلب تعاطف العامة مع القاعدة، ليس لذاتها ولكن لكراهية الناس للتدخل الأجنبي وللأخطاء التي ترتكبها ويسقط معها الأبرياء من المواطنين. ولكن تظل القاعدة في اليمن سكيناً حادة تذبح حيناً لحسابها، ويُذبح بها حيناً آخر: يذبح بها التنظيم العالمي للقاعدة مرات، ويذبح بها ذوو النفوذ المحلي مرات اكثر، سواء كأداة لحلب نقود البقرة الاميركية، أو لتسجيل وتيسير مصالح شديدة المحلية والشخصية.