السيارات في اليمن أداة قتل عارض بقدر ما هي وسيلة مواصلات ,ومليون سيارة تقريبا تجوب طرقات اليمن ,أخطر من 60 مليون قطعة سلاح – في أوقات السلم طبعا- ، وفي بلد كاليمن تنشط فيه خلايا القاعدة التي توزع الموت بين المدنيين والعسكريين ، وتنهشه حروب دامية في شمال الشمال وفي الجنوب أيضا، وتقصف الطائرات من دون طيار الأمريكية أراضيه متى وأينما شاءت ، فإن أكبر خطر ممكن أن تتعرض له حياتك هو حادث مروري في الطريق العام.

في حوادث العبث بالسلاح- لا تشمل القتل العمد-  باعتبار حوادث المرور غير عمدية ولا تهدف إلى القتل أيضا – لقي 26 شخصاً مصرعهم في شهر أبريل الماضي وأصيب 78آخرين في تلك الحوادث, بالمقابل لقي 42 شخص من ضمنهم 9 من مستخدمي الدراجات النارية مصرعهم في حوادث سير وقعت فقط خلال الأسبوع الأول من شهر أبريل الماضي ذاته, فيما أصيب 146 آخرين من مختلف الفئات العمرية في تلك الحوادث.

يبدوا الأمر إذا وكأنه منافسة غير منظمة بين السلاح والسيارات في اليمن للفوز بلقب “قاتل العام “, على أرض الواقع ,رغم عدم وجود رابط حقيقي بين وظيفة الأداتين في مصدرهما الأول ,إلا أن السيارات تنتزع المركز الأول بشكل دائم ,فقرابة 60 مليون قطعة سلاح في اليمن ,لا ترتكب جرائم قتل كتلك التي تتسبب فيها فقط  قرابة مليون سيارة في أرجاء البلاد ، مع أن هذه المقاربة لا تشمل فترات الحروب.

تقول التصريحات والتقارير الرسمية أن مليون سيارة تجوب طرقات اليمن ينتج عنها أكثر من (2300) حالة وفاة سنويا في المتوسط وهذا يعني أنه يحصل حالة وفاة لكل 400 سيارة.

كما أن الإحصائية الرسمية للسلطات اليمنية لضحايا حوادث السير خلال الخمس السنوات الماضية مفجع للغاية، ووفقا لها فقد أدت هذه الحوادث إلى وفاة 13 ألف و 360 شخصاً من مختلف الفئات العمرية ، وأصيب فيها 76 ألف و 74 شخصا,وهذا الرقم لا يشبه سواه من الأرقام حتى تلك التي سقطت في الاشتباكات المسلحة عام 2011,والتي لم تتعد 2000 ضحية من شباب الثورة ,وأنصارها.

ومنذ مطلع الألفية  حتى مطلع العقد الحالي، لقي ما يقارب 30000 يمني مصرعهم وأصيب ما يقارب مائتي ألف مواطن نتيجة لحوادث الطرقات.

لكن وزارة الداخلية اليمنية غالبا ما تعيد هذه الحوادث إلى السرعة الزائدة وعدم التزام السائقين والمارة بقواعد المرور، ومع أن ذلك صحيح جزئيا إلا انه بالتأكيد حقيقة ناقصة جدا, ذلك أن هلاك الطرقات وضيقها وعدم صيانتها وسوء إنشائها ، هو ايضا أهم أسباب حوادث السيارات في اليمن

في العاصمة صنعاء مثلا ، وعلى مسافة أمتار من دار الرئاسة ، أطلق المواطنون اسم “مثلث الموت” على أحد التقاطعات الرئيسية التي تربط 5 شوارع مختلفة. حظي التقاطع باسم “مثلث الموت” نتيجة لعدد الحوادث التي تسبب بها غياب التخطيط للتقاطع أو حتى وجود “دوار” للسيارات تستطيع أن تنظم حركتها حوله بدلا من تدافعها ببعضها, حيث ظلت حوادث المرور تحدث بشكل شبه يومي في هذا التقاطع حتى سنوات قليلة ماضية حينما تم تخطيط التقاطع وبناء دوار من قبل الجهات المختصة مما أدى إلى تناقص لافت لعدد الحوادث في هذا التقاطع المميت.

مثلث الموت ليس حالة فريدة ، فهناك مناطق معينة تتكرر فيها حوادث السير بشكل مستمر ,دون أن تقوم السلطات المختصة حتى بدراسة أسباب هذا التكرار الذي يكون غالبا واضح للعيان ,ولا يحتاج أكثر من إصلاح ذلك الجزء من الطريق, لكن ذلك بحاجة سلطة مسئولة ليحدث ,وهذه لم تتوفر بعد.

إحدى الطرقات الطويلة التي تتردد منها أخبار الموت بكثرة مثلا ، هي تلك التي تربط شمال اليمن بجنوبه بين صنعاء وعدن. في منتصف الطريق ، بإمكانك كسائق أن تستمتع بأجمل منظر سندسي طبيعي وأنت تعبر جبل “سُمارة” الشهير ، لكن من النادر أن تعبر هذا الجبل من دون أن تمر بمشهد وفيات أو جرحى نتيجة حادثة وقعت للتو , فبالرغم من جمالية هذا الجبل وسحره وصفاء الإطلالة التي يمنحها إياك ، إلا أنه يمتلك طريقاً في غاية الضيق والخطورة ,ولا يتمتع بما يجب من مصدات وجدران حماية وإشارات مرورية ,ليحصد الأرواح بشكل شبه يومي.

مؤخرا أعلن البنك الدولي بدء تمويل أكبر مشروع بنية تحتية من الطرقات في اليمن ، وهو طريق يربط محافظة عمران شمالا بمحافظة عدن جنوبا وقد يشكل بديلا أفضل للطريق الحالية المزدحمة بالسيارات والحوادث.

وحينما أطلقت وزارة الداخلية تقريرها الأخير عن حوادث الطرقات في اليمن ، أشارت إلى أن أحد أهم أسباب الحوادث هو “هطول الأمطار على الطرقات” ، وبينما يبدوا التفسير من حيث المبدأ منطقيا, إلا أن الخلل الحقيقي فعلا هو رداءة هذه الطرقات وغياب حتى مجاري تصريف المياه منها ورداءة بنائها مما يجعلها مستحيلة الصمود حينما تهطل الأمطار.

في حارات صنعاء ، تشتهر نكتة ساخرة من رداءة اسفلت الطرق تشير إلى أن اسفلت الطرقات “مُلصق بتفال”( لعاب) ، أي انه قشرة خفيفة مظللة ومغشوشة تزول بمجرد أن يدوس أحدهم على “بريك” سيارته فجأة في الشارع.

ليست مجرد مزحة تداول اليمنيين مقولة “السواقة في اليمن ، دفاع عن النفس” ، فهي فعلا دفاع عن النفس وأحد أخطر ما يمكن أن يواجهه أحدهم في اليمن ، أخذا بعين الاعتبار كل تلك المخاطر المتمثلة في تهالك الطرقات وضيقها واستهتار السائقين بقواعد المرور وتهالك المركبات التي لا تزال تعمل على أية حال ، وقيادة صغار السن للسيارات  ، ومخاطر أخرى جل ما تعمله هو الاستمرار في تصدر آلات حصاد الأرواح اليمنية.

ليس الخطأ دائما مرتبط بالمركبة أو السائق أو حتى الطرقات فقط. فالراجلون في الطرقات اليمنية لا يكترثون كثيرا من جهة أخرى ,فرغم وجود أنفاق وجسور لتسهيل الانتقال بين جانبي الطريق تجنبا لمخاطر عبورها المباشر كشارع الستين في العاصمة صنعاء مثلا – تقريبا الخط السريع الوحيد في العاصمة صنعاء- , إلا أن استخدامها نادر جدا ، وعلى عكس العالم كله بدلاً من أن تزيد السرعة في الخطوط السريعة لغياب المشاة منها ، فإنك في اليمن تحتاج أن تظل متيقظا لأي راجل سيحاول عبور الخط السريع فجأة من حيث لا تعلم.

كما وتتفاقم مشكلة حوادث السيارات ، مع غياب هائل لثقافة التأمين على السيارات ، فذلك لا يزال سلوك بلا أتباع في اليمن  باستثناء سيارات المؤسسات الحكومية,أو الشركات الكبرى والمنظمات الدولية ,وهذه لا تمثل إلا نسبة بسيطة من عدد السيارات الموجودة في البلد.

في المجمل ، يستمر الموت في التفنن والإبداع للوصول إلى حياة اليمنيين ,فمن نجا من كل أعمال العنف وأشكال الموت الرسمية والمؤسساتية للميليشيات والدول/(ة) فاليمني لا يستطيع الاطمئنان كثيرا مادام يمشي في الطرقات العامة أو يقود / يركب سيارة.

نشر هذا المقال في Al-Monitor

10