في بداية شهر مارس المنصرم ، حذر ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة ( اليونسيف ) في صنعاء من أن أكثر من مليوني طفل من الفئة العمرية بين السادسة والتاسعة خارج المدارس, وقبل ذلك بأشهر ، كان المدير التنفيذي للمنظمة نفسها قد قال بأن نسبة الأطفال اليمنيين الذين يعانوا من توقف في النمو ومشكلة التقزم تصل إلى 60 %.
اليمن ليس أحد البلدان الجيدة لكي تكون طفلاُ, ليس ذلك فقط لأن الحياة إجمالا صعبة ، وإنما لأن المدارس عاجزة عن التحول لكي تكون بيئة حاضنة وجاذبة للتلاميذ ، وذلك أحد أسباب تدني أعداد الطلاب الملتحقين بالمدارس ، إضافة إلى السبب الأبرز وهو المعيشة الاقتصادية الصعبة وتدني المستوى الثقافي من حيث إدراك أهمية التعليم.
من أصل 8 ملايين طفل يمني في سن التعليم ، هناك فقط 6 ملايين تقريبا ملتحقون بالمدارس ، كما أن نسبة التسرب من المدارس قبل الصف الثامن (14 عاما) تصل إلى أكثر من 40 % عند الفتيات وأكثر من 25 % لدى الفتيان. لم يعد مفاجئاً مشهد طلاب يرتدون الزي المدرسي في مقاهي الانترنت ومحلات البلايستيشن في أوقات المدرسة ، بل إن بعض هذه المحلات بدأت تعلق لافتات تقول “ممنوع دخول المقهى لمن يرتدي الزي المدرسي” بعد أن واجهت انتقادات وشكاوى من الأسر والجهات الرسمية كون التلاميذ يلجؤون إليها بدلا من الذهاب إلى المدرسة,لكن هذه اللافتات ليست أكثر من إسقاط للمسئولية فزيارة صباحية لأي مقهى أنترنت كفيلة بمعرفة حجم الانفلات في الضبط المدرسي ,وفي المسئولية الاجتماعية تجاه الأطفال من قبل الآخرين.
لا يشكل التعليم في اليمن أولوية رسمية على أرض الواقع ، وإن أشارت بعض خطابات الساسة إلى ذلك ، فقطاع التعليم مثلا يدار عبر خمس سياسات عامة(استراتيجيات) مختلفة لم تحقق أي منها أهدافها القصيرة أو المتوسطة حتى الآن, ولم تصل نسبة الإنفاق على التعليم سوى 13 % حاليا من نفقات الدولة ، بعد أن كانت قد وصلت إلى 20 % في موازنات سابقة وتذهب أغلب الموازنة الى الأجور والمؤسسات الأمنية والعسكرية التي حتى لا تستطيع حماية مراكز امتحانات الثانوية من الغش في مرات كثيرة.
تصل نسبة الأمية القرائية في اليمن إلى 48% ,غالبية هذا العدد من الإناث الريفيات تحديدا,فأكثر من 16 مليون يمني تقريبا يعيشون في المناطق الريفية من أصل قرابة 25 مليون نسمة,أكثر من 50% منهم تحت سن 18 عاما ,وتصنف اليمن في تقارير منظمة اليونيسف في مجموعة التنمية البشرية المنخفضة إلى جانب السودان وجيبوتي فقط من بلدان العالم العربي,وهي أيضا من أشد هذه البلدان فقرا وجفافا,وتعيش نسبة كبيرة منهم تحت خط الفقر تقترب كثيرا من رقم الواقعين تحت طائلة الأمية القرائية (42%) ويعاني أطفال اليمن من مشاكل مرتفعة تتعلق بسوء التغذية الحاد والتقزم.
لا يعود السبب فقط إلى ضعف جهود الحكومة أو جهودها غير المدروسة ,أو تلك التي يحول المال دون تحقيقها وإن كانت هذه عوامل رئيسية فهناك قرابة 94% من المدارس اليمنية بدون مكتبات ,وعدد مشابه من المدارس بدون مختبرات, و85 % لا تتوافر فيها غرف للمدرسين، أما الكهرباء فلا تتوفر إلا في 49 % من المدارس الأساسية، و23 % من المدارس الثانوية, ولا زال الكثير من تلاميذ المناطق الريفية يدرسون تحت أشعة الشمس في العراء المجاور لبعض الأبنية المدرسية الضيقة ,أو تلك التي تتكون مبانيها أساسا من مبان سكنية قديمة وبعضها أيل للسقوط.
تشير بعض الدراسات أن الفقر يتسبب في حرمان 15% من الأطفال في سن التعليم من الالتحاق بالمدارس, وكانت وزارة التربية قبل أعوام قد نفذت مبادرة أكدت المؤشرات أثرها الإيجابي في رفع نسبة الملتحقين بالتعليم,عندما أعفت تلاميذ الصفوف الأولى من الرسوم المدرسية (على بساطتها) لكنها عادت عن قرارها لعدم توفر موازنة تشغيلية للمدارس عدا تلك الرسوم, كما أن الزي المدرسي الذي لا يكلف بالمتوسط ما يقارب 10 دولارات للتلميذ يقف عائقا أمام كثير من التلاميذ للالتحاق بالتعليم.
العقاب البدني في مدارس اليمن لا زال يمارس على نطاق واسع رغم كل القرارات الوزارية بمنعه التي لا تتجاوز أوراق القرار,وهذا يؤدي إلى تسرب وفرار عدد من التلاميذ من بيئة تعليمية طاردة ومنفرة,والعض يلجأ للانتقام من معلمه كما أقدم أحد طلاب محافظة الضالع قبل أسابيع على حرق معلمه في حرم المدرسة بصب البنزين وإشعاله,وقبلها بأشهر أقدم تلميذ على الانتحار لعنف معلميه البدني ضده.
كل هذه التحديات لتي تواجه الأطفال والمدارس في اليمن ، ازدادت ازدهارا في الأعوام الماضية بسبب الحروب والنزوح والصراعات التي دمرت وأغلقت مئات المدارس وشردت آلاف الطلاب, وكانت الجماعات المتطرفة والمسلحة والسياسية المتصارعة تفتح أحضانها لاستقبال هؤلاء الأطفال واستقطابهم حتى للعمل المسلح ، إلى درجة أن مجلس الأمن الدولي في قراره الأخير بخصوص اليمن أشار إلى مشكلة استخدام الأطفال في الصراعات المسلحة من قبل الجماعات المتصارعة.
لم يعد الأطفال اليمنيون يتسربون من فصول الدراسة فقط إلى سوق العمل أو البطالة وإنما إلى الجيش والميليشيات المسلحة أيضا خاصة في السنوات الأخيرة,ولأن مستوى وعي أسرهم لا يرقى لإدراك عواقب هذا التسرب من التعليم ,فالأسر الفقيرة هي أيضا أمية ولا تحرص إلا القليل منها على استمرار أطفالها في قاعات الدراسة,وإلى جانب عدم وجود بيئة تعليمية جاذبة ,واقتصار جهود الحكومة على أنشطة صورية لإعادة المتسربين ,ورفع أعداد الملتحقين فإن الأمر يمضي نحو الأسوأ.
كما إن بنية تعليمية يصل فيها الطالب إلى التعليم الثانوي وهو فاقد لمهارتي القراءة والكتابة بشكل جيد ليس مغريا للبقاء,ويمثل دافعا أساسيا لانتشار ظاهرة الغش في امتحانات تلاميذه بشكل إجباري ,فكثير من التلاميذ يلجؤون للغش لأنهم لا يستطيعون مراجعة دروسهم ذاتيا في المنزل لصعوبة المنهج,ولافتقارهم لمهارتي القراءة والكتابة, ساعد على ذلك اعتماد نماذج الإجابات السريعة في الامتحانات التي تعفي الطالب من الكتابة إلا في أضيق الحدود,ليصدم في نهاية الصف التاسع بأن الامتحان المعد مركزيا يتطلب منه مهارات لا يمتلكها فيتحول إلى ناقم على البيئة الدراسية الهشة والمخادعة أيضا,وتستمر علاقته العدائية بها ,وأحيانا كثيرة تكون محطته النهائية في سلك التعليم.
يتفرغ اليمنيون لحروبهم وصراعاتهم ,وتنفق الحكومة على الجيش والأمن ما يفترض أن يوجه لأطفالها في المدارس,ليحصل بعض الصغار على نصيبهم من هذه النفقات على شكل مرتب جندي بائس في ظل انتشار ظاهرة تجنيد الأطفال, في ما يمكن النظر إليه كأحد أفظع الجرائم التي ترتكبها الجماعات المسلحة والجيش على حد سواء في حق الطفل اليمني.