في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، وقّع الرئيس السابق علي عبدالله صالح ومعه ممثلو المعارضة على المبادرة الخليجيّة لنقل السلطة في اليمن. وبينما كانت كاميرات العالم تنقل المشهد وتتوالى البيانات المبشّرة بمستقبل جديد في اليمن، كان عبد المنعم أبو غانم وعشرات من رفاقه يزيلون خيامهم في موقع اعتصامهم الذي دام لشهور في ساحة التغيير في صنعاء للمطالبة برحيل صالح ونظامه. لم يكن هؤلاء الفتية يرفعون خيامهم للاحتفال برحيل صالح عبر مغادرة الساحة والعودة إلى بيوتهم، وإنما للسفر إلى أبين والانضمام إلى تنظيم “أنصار الشريعة” المتفرّع من تنظيم “القاعدة” في جزيرة العرب والذي كان يسيطر على محافظة أبين حينها
ويقول أبو غانم إن سبب مغادرته إلى أبين حينها والانضمام إلى “القاعدة”، هو أن المجتمع الدولي والإقليمي وقفا ضدّ العدالة التي كان هو ومن معه من شباب الساحات ينشدونها وقد أمضوا أشهر عدّة يحلمون بها برفقة بعض من رفاقهم الذين استشهدوا برصاص قوات صالح. بالنسبة إليهم، الحصانة التي تضمّنتها المبادرة الخليجيّة هي أسوأ ما يمكن أن يتعرّضوا له، ذلك أنها أنهت فكرة العدالة التي كانوا ينشدونها.
ويروي أبو غانم وهو يخوض نقاشاً حاداً مع رفاقه الذين قبلوا بالمبادرة الخليجيّة، أن الأمن اليمني قبض عليه وأدخله السجن لأشهر قبل أن تتدخل قبيلته القويّة “أرحب” لإطلاق سراحه. ويتابع قائلاً إنه بالنسبة إليه وإلى رفاقه، فإن “أنصار الشريعة” حينها كان الكيان الوحيد الذي ينصر فكرة العدالة التي يبحثون عنها، وهو أكثر نزاهة وشفافيّة من الحكومة اليمنيّة.
وأبو غانم ليس وحده الذي يتحدّث لساعات عن الغبن الذي يعيشه كمواطن يمني بعد أن أعادت القوى الإقليميّة والدوليّة تلك القوى التي ثاروا ضدّها، بشرعيّة جديدة إلى الساحة السياسيّة. وقد عادت متمتّعة بحصانة قانونيّة، ضمن مبادرة تبناها المجتمع الدولي بالإجماع وأطلق عليها اسم “المبادرة الخليجيّة”.
وذلك ليس السياق الوحيد الذي وفّرته المبادرة الدوليّة والذي يمنح الجماعات المتطرفة كـ”القاعدة” وغيرها، الشرعيّة والجاذبيّة والبريق التي كانت تفتقده من قبل. كذلك، فإنه ليس السياق الوحيد الذي تمكنت فيه المبادرة من تقويض فكرة العدالة التي بحث عنها الملايين من اليمنيّين، ومن منح الجاذبيّة والشرعيّة لأشخاص وكيانات أخرى بعضها يندرج ضمن إطار الجماعات الإرهابيّة محلياً وإقليمياً ودولياً، بل إن تداعيات أخرى جدّدت هذا البريق من حين إلى آخر ولو بتفاصيل مختلفة تماماً.
في أواخر كانون الأول/ديسمبر المنصرم، أعلنت وزارة الخزانة الأميركيّة عن إدراج اسم أمين عام حزب الرشاد السلفي وعضو مؤتمر الحوار الوطني عبد الوهاب الحميقاني على قائمة الراعين للإرهاب، ونشرت لائحة من الأنشطة قالت إن الحميقاني قام بها بالاتفاق مع تنظيم “القاعدة” في جزيرة العرب.
من جهته، نفى الحميقاني هذه الاتهامات وقال إنها مكايدة من أطراف محليّة أمدّت الولايات المتحدة بمعلومات خاطئة لتوريطها باتخاذ قرار من هذا النوع. ورفض مؤتمر الحوار ورئيس الجمهوريّة إدراج الحميقاني على هذه اللائحة، مطالبين الولايات المتحدة بحذف اسمه منها.
وسواء كان الحميقاني مرتبطاً بالقاعدة أم لم يكن، إلا أن السياقات التي أوصلته إلى ما هو عليه كوجه بارز في الشأن العام اليمني، مثيرة للاهتمام والاستغراب في الوقت نفسه. فقد عُرف عنه خطابه الديني المعتدل كشخص، وهو قدّم باسم حزبه بعض الرؤى والحلول للقضايا الوطنيّة محلّ الخلاف، التي أثارت اهتمام وإعجاب المتابع اليمني وعكست انفتاحاً على الآخر لم يصدر من قبل عن أحد قيادات التيار السلفي في اليمن.
وكانت المبادرة الخليجيّة قد نصّت في نسختها الأخيرة على إجراء مؤتمر حوار وطني شامل يجمع كل اليمنيّين لمناقشة مستقبل البلاد وتقرير مصير القضايا العالقة وصياغة دستور جديد يقدّم تشريعات تتناسب مع وضع اليمن الجديد وتطوراته. ولأكثر من تسعة أشهر، انعقد المؤتمر بدعم فني ومالي وسياسي غربي وأميركي وبإشراف مباشر من قبل ممثل خاص لأمين عام الأمم المتحدة وفريقه المساعد. كذلك تقاسمت تكاليف المؤتمر الحكومة اليمنيّة والمانحين الدوليّين، وقد تراوحت المبالغ الماليّة المخصّصة لأعضاء المؤتمر ما بين 100 و 180 دولاراً أميركياً كبدل يومي بالإضافة إلى النفقات المصاحبة.
وكان الحميقاني كممثل لحزب “الرشاد” في مؤتمر الحوار، أحد أبرز أعضاء المؤتمر. وتمتّعت رؤية حزبه السلفي بشعبيّة فاقت التوقعات، في حين أثبت نفسه كقائد حزبي ذكي ومرن طيلة فترة المؤتمر.
لذلك وسواء كان الحميقاني مرتبطاً حقيقة بـ”القاعدة” كما تقول وزارة الخزانة الأميركيّة أم لا، فإن السياقات التي وفّرت له عبر المؤتمر تطرح أسئلة في غاية الحساسيّة وتخلق معضلات ترتبط جميعها بالمبادرة الخليجيّة المدعومة دولياً. فعلى سبيل المثال، هل كان الحميقاني مثلاً ولفترة تسعة أشهر في خلال مؤتمر الحوار الوطني، يستلم مخصصاته الماليّة من أموال دافعي الضرائب الغربيّين؟ وهل دعمت الولايات المتحدة ورعت مالياً وفنياً وسياسياً لفترة قاربت العام، كياناً سياسياً يضمّ أعضاء مرتبطين بـ”القاعدة” قاموا ببعض العمليات الإرهابيّة بحسب ما تقول لائحة الاتهام؟
وفي حال عدم ارتباط الحميقاني بـ”القاعدة”، فإن تلك أيضاً معضلة أخرى لا تقلّ حجماً عن سابقتها (في حال كان فعلاً مرتبطاً بالقاعدة). ذلك أن الحميقاني يتمتّع بشعبيّة لا يمكن تجاهلها حتى من خارج إطار أعضاء وأنصار حزبه والحركة السلفيّة عموماً، بل وعلى مستوى بعض الليبراليّين المعروفين بموقفهم الرافض للتشدّد الديني ولـ”القاعدة” بشكل مطلق. وقد خلقت تلك الشعبيّة رؤيته التجديديّة في ما خصّ المشهد السياسي، كرجل دين في المقام الأول. وقد نجح عبر منبر الحوار في إقناع الكثيرين بمساره الديمقراطي. ولطالما كرّر أنه ليس مع تنظيم “القاعدة”، ليلاحظ حالياً انتشار صور الحميقاني تتضمّن شعارات تضامن معه في العاصمة صنعاء، حتى في أسواق القات الشعبيّة. علاوة على ذلك، فإنه وفي حال ارتباطه بـ”القاعدة” أيضاً، تكون الحكومة الأميركيّة قد رفعت اسهمه في بورصة الجمهور مرّة أخرى عبر إعلانه رجلاً خطراً، بينما هو يتمتّع بشعبيّة جيّدة محلياً كان قد بناها وروّج لها عبر دوره النشط في مؤتمر الحوار الوطني الشامل.
أما في حال براءته ، فإن إدراجه على قائمة الإرهاب يمثّل صفعة قويّة للسلفيّين المؤمنين بالحزبيّة والانتخابات لصالح التيار الآخر الأكثر تشدداً والرافض للعمليّة الحزبيّة. كذلك فإنه يخلق اصطفافات عقائديّة جديدة، تستفيد منها القاعدة وجناحها المراهن على فشل الأدوات الديمقراطيّة والمدافع عن أدواته التقليديّة المتمثلة في العمليات الانتحاريّة والهجمات المسلحة.
إن تنظيم “القاعدة” ليس الكيان المسلح المتطرّف الوحيد الذي منحته المبادرة الخليجيّة فرصة أوسع لانتشار خطابه وتوسّع قاعدته، بل استفادت منها أيضاً جماعات مسلحة أخرى كجماعة الحوثيّين في صعدة.
والحوثيّون جماعة طائفيّة مسلحة خاضت ستّ حروب مع الدولة في عهد صالح، قبل أن تنجح في السيطرة التامة على محافظة صعدة وأجزاء من حجة والجوف وعمران لاحقاً. وقد خاضت حروباً قبليّة وطائفيّة مع السلفيّين وأنصارهم من القبائل في منطقة دماج وكتاف وحرض على الحدود السعوديّة، امتدّت إلى مشارف العاصمة صنعاء قبل أسابيع.
مثّل مؤتمر الحوار الوطني مظلة سياسيّة لجماعة الحوثي، قدّمت نفسها عبره كجماعة ملتزمة بالخيارات السلميّة والمدنيّة. لكن ذلك تمّ بينما هي تخوض معارك شرسة وغير متكافئة مع السلفيّين في صعدة، إلى درجة أن المؤتمر أصبح مجرّد شرعيّة سياسيّة تستخدمها الجماعة منبراً للدفاع عن وجهها الدموي في خارج قاعات المؤتمر.
ومع اكتفاء الدولة بلعب دور الوسيط، أعلن تنظيم “القاعدة” تعاطفه مع السلفيّين. وهو أمر يثير تساؤلات مرعبة حول المستقبل القريب للجماعات المتفرّقة واصطفافاتها الناتجة عن كل هذه السياقات التي تحظى برعاية دوليّة.
لقد ضرب إدراج الحميقاني على قائمة الإرهاب عدداً كبيراً من فرص انخراط السلفيّين في العمليّة السياسيّة والإيمان بها وبأدواتها. ومن ناحية أخرى، فإن إعلان القاعدة تضامنها مع سلفيّي دماج ضدّ الحوثيّين – بينما اكتفت الدولة بلعب دور الوسيط بين الطرفَين-، يزيد من بريقها لدى السلفيّين المناهضين للديمقراطيّة.
من يدري، ربما في المستقبل القريب ستنضمّ “القاعدة” إلى الحكومة اليمنيّة والأحزاب السياسيّة في مدح وتمجيد دور المجتمع الدولي في اليمن، مثنية على الفرصة التاريخيّة الهامة التي أتت بها المبادرة الخليجيّة!!!
بالنسبة إلى اليمني المتأذي من كل هذه الجماعات بخاصة “القاعدة”، فهو سيطلب منها (القاعدة) أن تقدّم وافر شكرها إلى الحكومة الأميركيّة ورعاة المبادرة الخليجيّة في اليمن على هذه الخدمات الجليلة. فمن يدري كم من آلاف المهجّرين السلفيين من صعدة سيحملون السلاح خلف راية “القاعدة” في خلال الأيام المقبلة.