كان يوماً حزيناً وفاجعاً في اليمن. فهو كان اليوم التالي لمجزرة مستشفى “العرضي” الذي يقع في داخل وزارة الدفاع اليمنيّة، التي سقط ضحيّتها أكثر من 56 قتيلاً وجرح فيها أكثر من 150 شخصاً. في مساء ذلك اليوم،  كنت على مأدبة عشاء مع مسؤول عسكري كبير. لم أره بتلك الحالة من قبل، على الإطلاق.

كان يضع جانباً أحد هاتفَيه النقالَين، فقط ليجيب على اتصال يَرِد إلى الآخر. ربما كان ذلك طبيعياً، لكن إحدى المكالمات كانت أغرب محادثة سمعتها في حياتي.

كان يتحدّث إلى أحد آباء ضحايا مجزرة الأمس، محاولاً إقناعه بأنه لا يمكن دفن جثمان ابنته في المقبرة نفسها التي سيدفن فيها الضحايا الذكور أي “مقبرة الشهداء”.فلليمن مقبرة شهيرة يُطلَق عليها اسم مقبرة الشهداء، وفي تلك الليلة علمت للمرّة الأولى في حياتي أنه لا يوجد فيها ضريح لامرأة واحدة، على الرغم من عشرات الشهيدات اللواتي لقين حتفهنّ في اليمن على مدى الأعوام الماضية.

واليمن ليس بلداً تقضي نساؤه ويرفض الاعتراف بأدوارهنّ في الحياة العامة فحسب، وإنما حتى عندما يمتن لا يحصلن على قبر يليق بذاكرتهنّ وبالتضحيات التي قدّمنها في سبيل هذا البلد.

النساء في اليمن عادة، هنّ الأكثر عطاء والأقل حظوة في ما خصّ الاعتراف والاستحقاق. وقد يكون من الطبيعي أن تتفوّق النساء على الرجال في بلدان تتكافأ فيها الفرص بين الجنسَين في التعليم والعمل، لكن ذلك أمر غير اعتيادي في اليمن هذا البلد شديد الذكوريّة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الاعتراف بهنّ، بخاصة في المدن.

وتجدر الإشارة إلى أن الفتيات حللن الأُوَل في امتحانات الثانوية العامة قبل أشهر عدّة، وقد احتكرن كلّ قائمة أوائل القسم الأدبي وثلثَي قائمة أوائل القسمَين العلمي والإنكليزي على الرغم من أنهنّ لا يشكلن إلا نسبة 35% تقريباً من إجمالي عدد التلامذة.

والفارق بين عدد الذكور وعدد الإناث إجمالاً لا يتجاوز 1% بحسب آخر إحصاءات سكانيّة في اليمن، لكن إقبال الفتيات على التعليم أقلّ من الذكور بخاصة في المناطق الريفيّة حيث المجتمع الأكثر إقصاءً للمرأة في الحياة العامة.

في المدن اليمنيّة، لدى الفتاة –المقصيّة من الحياة الاجتماعيّة والامتيازات الإنسانيّة الطبيعيّة- وقت فائض أكثر من الولد وتترتّب عليها التزامات أسريّة تعلمها الانضباط المبكروذلك لتحظى بسمعة طيبة في أوساط محيطها الاجتماعي، ما يؤهلها للحصول على زوج مناسب. لذلك تكون الإناث في العادة أكثر جديّة تجاه أعمالهنّ وتعليمهنّ، بالطبع على حساب أشياء أخرى.

قد يكون معدّل الفتاة المرتفع في ما يتعلّق بنتائجها الدراسيّة، شرطاً أسرياً لتمكينها من مواصلة تعليمها، ما لم تُحرم منه وتتحوّل واحدة من ربات البيوت الصغيرات اللواتي يتزوجن قبل أن يبلغن 18 عاماً. وأكثر من 42% من نسبة المتزوجات في اليمن تأهّلن وهنّ لم يبلغن بعد 18 عاماً، و8% منهنّ تقريباً يتزوّجن في عمر 12 عاماً.

وإذا كانت الرقابة المشدّدة على حياة الفتيات وحرمانهنّ من حقهنّ في اللعب واللهو في مرحلة الطفولة تؤدّي إلى نتائج إيجابيّة على الصعيد التعليمي، إلا أنها تجعلهنّ في الغالب أيضاً فتيات مطيعات لا يملكن حتى حقّ الجدال والنقاش في شؤون حقوقهنّ الأساسيّة.

وقد تنبّهت السلطات التعليميّة لحجم الفجوة بين الجنسَين في معدّلات الالتحاق بالتعليم العام، فوضعت إستراتيجيّة طويلة الأمد لرفع معدلات الالتحاق وردم تلك الفجوة، لتصل نسبة معدّل الالتحاق إلى 95% في العام 2015. لكن عدم الجديّة في تنفيذ هذه الإستراتيجيّة لم يحقّق النجاح المطلوب لأنشطتها وأهدافها. وعن تكافؤ الفرص بين الجنسَين في التعليم، ذكرت منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة-اليونسكو في تقريرها السنوي (قبل عامَين)، أن اليمن لن ينجح في تحقيق هذا التكافؤ في العام 2015 ولا حتى في العام 2025.

التفوّق الأنثوي

من جهة أخرى، ما زال أرباب العمل يفضّلون توظيف الإناث، أقلّه في القطاع الخاص لعدم إمكانيّة ذلك عملياً في القطاع الحكومي. فهنّ يملكن سمعة طيّبة في الانضباط والالتزام بالإنجاز ودقّة تنفيذ التعليمات، بالإضافة إلى أنهنّ يخفن من العقوبات أو من الخصم من المستحقات الماليّة، كذلك فإنهنّ لا يشترطن مرتبات مرتفعة كما يفعل الذكور، وكل هذا يجعلهنّ أكثر تفضيلاً لدى رؤسائهنّ.

وإقصاء النساء ليس أمراً دوافعه اجتماعيّة وثقافية بحتة بحسب ما يروَّج عادة، وإنما هو أيضاً مرتهن بالإرادة السياسيّة.

قبل نحو عقد من الآن، شرعت السلطات اليمنيّة في إعلان استقطابها للنساء في السلك العسكري. وأثار ذلك جدلاً واسعاً وصوّت البرلمان اليمني بغالبيّته ضدّ القرار، بدافع الالتزام بالعادات والتقاليد. مع ذلك مضت الجهات المختصة في توجّهها، وصدر قرار جمهوري بإنشاء سلك عسكري نسائي –ولو محدود جداً- ومرّ الأمر بسلام كامل وتقبّله المجتمع وسط صمت من قبل البرلمان.

لكن مستوى الانضباط والأداء الدقيق للمهام لا يؤديان دائماً إلى النجاح، كلما ارتفع مستوى المسؤوليّة. فالعدد القليل من الإناث اللواتي تسلمن قيادة بعض الوزارات مؤخراً، لم يترك مؤشراً واضحاً على تميّز أداء أولئك النساء بطريقة تؤدّي إلى نجاح أكبر مقارنة مع نظرائهنّ من الوزراء الذكور. والوزارات الثلاث التي تقودهنّ نساء في الحكومة الحاليّة، لا تندرج أي منهنّ في قائمة المقارنة للأداء الممتاز أو المتدني، كون هذه الوزارات أساساً ليست خدميّة لتحظى بمتابعة الرأي العام ولأن الأداء فيها عادياً وروتينياً يتميّز أكثر من أي شيء آخر بالحضور المبكر للوزيرات إلى مقار أعمالهنّ.

وعلى الرغم من تمرير بعض فرق أعمال مؤتمر الحوار الوطني قرارات بفرض كوتا نسائيّة، إلا أن ذلك ليس شرطاً يعزّز حضور المرأة في المناصب التنفيذيّة والتشريعيّة. ذلك أنه حتى الإنجازات التي تتحقّق باسم الشباب والمرأة في اليمن، هي أيضاً تبقى رهينة لحسابات وتقاسمات سياسيّة ونخبويّة تقليديّة. بمعنى آخر، قد يشكّل ذلك فرصة جديدة لنساء من النخب المرتبطة بالسلطة لاستمرارهنّ واستمرار أدوارهنّ –القائمة أصلاً- من دون الحاجة إلى بذل جهد حقيقي يؤدّي إلى انعكاس هذه الاستحقاقات (الكوتا) على المرأة اليمنيّة العاديّة، تلك المؤهلة والعصاميّة والمقصيّة عادة.

وقد صدرت قرارات بتعيين بعض النساء في مناصب رفيعة كرئاسة صندوق رعاية جرحى وأسر شهداء الثورة الشبابيّة السلميّة والحراك السلمي الجنوبي، ورئاسة الهيئة الوطنيّة العليا لمكافحة الفساد وهي هيئة عليا تحظى بسيادة كبيرة، كذلك حازت النساء أيضاً 30% من المناصب القياديّة فيها كـ”تدشين” غير رسمي لمبدأ الكوتا، وإن كانت أسماء نسائيّة معروفة من قبل.

قيادات مدنيّة

في منظمات المجتمع المدني، تجد المرأة مجالاً للمنافسة. فعشرات المنظمات تقودها نساء.بعضهنّ نجح فعلياً في حين ونجح البعض الآخر في تسويق أنفسهنّ، بفعل ضعف المنافسة النسائيّة واهتمام المانحين بقضايا المرأة. ومن هذه الحاضنة المدنيّة وصلت أسماء كثيرة إلى مؤتمر الحوار الوطني كوجوه مألوفة. كذلك فإن فرض المجتمع الدولي لكوتا النساء في مؤتمر الحوار الوطني، هو الأمر الوحيد الذي ألزم النخب التقليديّة المهنيّة باستيعاب النساء مهما بدا ذلك شكلياً ومبدئياً.

لدى اليمن تراثاً هائلاً من الأدوار القياديّة التي تقلّدتها المرأة. وما زال ذكر من حكم البلاد من النساء يتردّد بإعجاب وتقدير، من أمثال الملكة بلقيس (قبل الميلاد بنحو ثمانية قرون) والملكة أروى (القرن الثاني عشر). فأولئك النساء حكمن اليمن وشهدت عصورهنّ استقراراً وتنوّعاً وازدهاراً قلّ مثيله في تاريخ اليمن المضطرب. ويظلّ عرش بلقيس أحد أكثر الآثار التاريخيّة شهرة في مدينة مأرب، كصرح تاريخي يفخر به اليمن ورمز حضاري لعراقة هذا البلد والمرأة فيه. لكن الإشارة تجدر إلى أن محافظة مأرب اليوم تُعتبَر من المحافظات اليمنيّة التي تسجّل أدنى معدلات التحاق الإناث بالتعليم والعمل.

اليوم وبعيداً عن الكوتا، تصارع المرأة في اليمن من أجل مجرّد الحقّ في المساواة في الدفن وشرف الموت كشهيدة الواجب الوطني. ولعلّ أحد أبرز الأمثلة على ذلك، أن الدكتورة الشهيدة أسماء الثلايا دفنت في مقبرة خزيمة وليس في “مقبرة الشهداء”، بخلاف بقيّة شهداء مجزرة مستشفى العرضي. وتجدر الإشارة إلى أن والدتها محرومة من زيارة مرقد زوجها (شهيد سابق) في “مقبرة الشهداء”، لأكثر من مرّة واحدة في الأسبوع.

في كلّ الأحوال تظلّ المرأة موضوعاً يتردّد دائماً في خطابات السياسيّين والحزبيّين، لأنها تشكّل عنصراً حاسماً كصوت انتخابي يصبّ في مصلحتهم. ولم تستفد من تلك الأصوات الأنثويّة سوى امرأة واحدة فقط فازت في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، إلى جانب 300 عضو من الذكور.

Al-Monitor نشر هذا المقال في

10