في نوفمبر 2011م وقعت الأطراف اليمنية المتصارعة على مبادرة دولية لإخراج البلاد من أزمتها, والتي عرفت لاحقا بالمبادرة الخليجية لتبني دول مجلس التعاون الخليجي لها (باستثناء قطر التي انسحبت لرفض الرئيس السابق علي عبدالله صالح تدخلها).

تفاءل الجميع حينها بأن تعمل هذه المبادرة على تجنيب البلاد حرب أهلية أكثر من تعويلهم على أي مخرجات أخرى ,وسرعان ما بدأت الأطراف المعنية بتنفيذ بنود المبادرة فاجتمع البرلمان لإقرار قانون يمنح الحصانة للرئيس السابق وأركان نظامه من المساءلة والملاحقة القانونية على خلفية ما اتخذه من قرارات أثناء فترة حكمه,ثم تشكلت حكومة وفاق وطني بالتقاسم بين حزب المؤتمر (الحاكم حينها) وبين الأحزاب المعارضة له في ديسمبر من العام نفسه, وتم إجراء انتخاب شكلي(بدون منافس) للرئيس الحالي عبدربه منصور هادي في فبراير 2012.

بعد استلام هادي رسميا للسلطة بدأت مرحلة محورية من الانتقال السياسي تمثلت بإقالة عدد من القيادات العليا للجيش,وتعيين بدلاء لهم

لكن  شرارة إنذار بن المبادرة الخليجية تعمل على تأجيل اشتعال الوضع اليمني وليس على حل مشاكله كليا كما كان متوقعا  لم تتاخر كثيرا,وبدا الرئيس هادي الذي توافق عليه الجميع تقريبا لا يملك القرار الأعلى ,أو على الأقل قوة فرضه على الأرض إلا بخيارين أفضلهما التدخل الدولي ,أما الآخر فإشعال حرب أتت المبادرة لإخماد دوافعها,لكن هذا الانطباع تلاشى نسبيا عند اقالة هادي لرأسيي الجيش الأساسيين ,وأبرز وجوه الرعب العسكري وهما قائدي الحرس الجمهوري والفرقة الأولى مدرع اللذان انقسم الجيش إلى جزئين حسب الولاء لكل منهما ,فتمت تنحيتهما من موقعيهما وإعادة توزيع فرق ومكونات الجيش اليمني بنمط مغاير,وإن لم ينته الانقسام كليا حتى الآن.

الحوار الوطني:

أما الآلية التي وضعتها المبادرة لإخراج اليمن من تعقيدات مشاكلها المتشابكة (ويبدو أنها أضيفت على المبادرة الأصلية) فكانت الاختراع الأشد هلامية وضبابية المسمى بـ “الحوار الوطني الشامل” حيث يجلس أطراف النزاع ويتحاورون حول مشاكل البلد والحلول التي يرونها مناسبة لها.

وكما تطورت المبادرة تطورت فكرة الحوار ذاتها ,وبدلا من اقتصارها على المشاكل الجوهرية التي تحتاج إلى توافق الفرقاء ,توسعت لتتدخل في تفاصيل مشهد المستقبل ,وتتداخل اختصاصات مكونات وفرق الحوار حول رسمه .

وانطلق المؤتمر بعد تأجيله لأشهر في 18 مارس 2013م ,على أن ينتهي في 18 سبتمبر من نفس العام ,لكن الأمر لم يجري كذلك وأثناء تحرير هذه المادة وصل الحوار إلى شهره الثالث بعد انتهاء فترته الزمنية بتجاوز نسبته 50% ,ولم يخرج بعد بما ينتظره منه الشارع اليمني ,حيث بين فترة وأخرى تصعد خلافات المؤتمرين إلى السطح ,وتشكل عبئا إضافيا على حياة المواطن الذي لديه ما يفيض عن قدرته من الأعباء والهموم الحياتية التي لم يغير منها الحوار ,ولا حكومة الوفاق أيضا إلا ربما ظهور وجوه جديدة في حياته العامة ووسائل إعلامه.

وهكذا كما الوحدة اليمنية عام 1990 وكما ثورات اليمن المتكررة ، بدا الحوار الوطني كفرصة يحل اليمنيين مشاكلهم عبرها ، ثم ما لبث ان تحول الى مشكلة بحد ذاته. ذلك ان السؤال الاكبر والاكثر قلقا في اليمن حاليا هو “كيف ينتهي الحوار؟ ، كيف ينتهي دون ان يشعل حرباً اهلية؟”.

حلول بلا مشكلات:

حسب توزيع فرق واهتمامات الحوار الوطني, أصبح من المعتاد أن تسمع عن التوصل لحلول (كمخرجات نظرية) معينة, دون أن تكون هناك مشكلة حقيقية تستدعي وضع هذه الحلول,أو على الأقل لم تكن إحدى أولويات الحوار, كنسبة (كوتا) مشاركة المرأة ,أو كيفية الحفاظ على الموروث الشعبي,أو المادة الدستورية الخاصة بمصدر التشريعات في البلاد.

على الطرف الآخر تربض المشكلات الحقيقية بصلابة وتراوح مكانها بدون تطور عملي, فالقضية الجنوبية وهي أم القضايا, تم اتخاذ بعض الحلول لجذور تشكلها (بعضها نفذ وقليلها طور التنفيذ) كمشكلة الأراضي والمسرحين قسريا من أعمالهم,لكن ثمار هذه القضية بصيغتها النهائية لم تتحول إلى وصف واضح ومتفق عليه,ولا زالت حلولها مجرد اقتراحات متضاربة حتى الآن ,مع هذا يصرح بعض المتحاورين بالتوصل إلى صيغة جديدة لشكل الدولة تتمثل في الفيدرالية.

هل ستمثل الفيدرالية فعلا حلا للقضية الجنوبية؟

ذلك أمر آخر فالفيدرالية مجرد مسكن هلامي لم يحدد بعد المرض الذي يعالجه ,ولا كيفية تناوله , ولا عدد جرعاته.

رفضت بعض المكونات الرئيسة في الحوار الفكرة من حيث المبدأ كالمؤتمر الشعبي العام,وحزب الإصلاح ,إلا أن التوجه الدولي الداعم للفيدرالية كما يبدو(أو على ألأقل بن عمر) حول الرفض إلى الاختلاف على الشكل الجديد الذي قد يمس بالوحدة الوطنية وهي خط أحمر بالنسبة لهذه الاطراف الرائية في الفيدرالية تهديدا للوحدة.

عمليا  قد تمثل الفيدرالية حلا لمشكلة كانت أساسا ناتجة عن ضعف الدولة المركزية وغياب العدالة الاجتماعية,استشراء الفساد ,فلم يكن شكل الدولة هو جوهر المشكلة,وفي الوقت نفسه لم يتم التوصل حتى إلى عدد الأقاليم التي ستتكون منها الدولة الاتحادية الجديدة ,أما كيفية تقسيم البلاد إلى أقاليم وعلى أي أساس ,اقتصادي أم جغرافي ,أم سكاني  أم مائي ( وهو اخطر مشكلة تواجه اليمن على المدى البعيد والقريب),,إلخ فتلك قضية تحتاج ربما إلى خبراء وفنيين أكثر من حاجتها إلى حوار الخصوم.

المشكلة الأخرى الماثلة بشدة هي عملية التوفيق بين اختراعين متضادين بغرض تحويلهما إلى وصفة طبية معقولة ,وإن كانت اقرب إلى العلاج الكيميائي ,فالعدالة الانتقالية الموضوعة كإحدى الحلول للمعضلة الوطنية تحولت إلى معضلة لذاتها ,فخلال العامين لم يتم التوصل إلى مجرد صيغة مكتملة لقانون العدالة الانتقالية, خاصة مع وجود قانون يمثل واحد من أركان المبادرة الخليجية هو قانون الحصانة الممنوح للرئيس السابق وأركان نظامه.

إلغاء قانون الحصانة يعطي حزب صالح (المؤتمر) فرصة ذهبية للتنصل من كل التزاماته المفروضة من المبادرة الخليجية,وبقاؤه يمثل فرصة مماثلة لعرقلة قانون العدالة الانتقالية .

بالتزامن كان هناك اختراع جديد سمي “قانون العزل السياسي” يعمل على إقصاء شخصيات كبيرة من المشاركة في الحياة السياسية كونها من وجوه النظام السابق (وهو اصطلاح غائم بدوره فمعظم الشخصيات الفاعلة سلبا وإيجابا كانت جزءا من هذا النظام ) كاجتهاد آخر للنجاة من ورطة الحصانة ,لكن هذا بدوره لاقى معارضة شديدة من حزب المؤتمر,وتحول على استحياء إلى شروط مفصلة بدقة على الشخصيات ذاتها تحج من فرصتها للترشح أو التعيين في مناصب عليا,وهذا بدوره لم يحسم بعد.

ماذا بعد؟

إذا الوضع القائم خاصة في شأن الحوار الوطني مجرد شماعة كبيرة علقت عليها ثياب متباينة منها جديد ومنها قديم ,ومنها متسخ ومنها نظيف ,منها رخيص ومنها ثمين ,وأصحاب هذه الثياب لهم أطماع في كل هذه الخلطة التي يصعب فرزها ,أو غسلها بنفس المحلول ,ولا ترقيعها بنفس آلة الخياطة,ولم يتم ابتكار حل جديد لذلك .

لهذا طرا ابتكار من خارج اللعبة وشروطها وقواعدها ,أن يتحول المتحاورون (المبتكرون) إلى جمعية تأسيسية تحل محل البرلمان ,ومجلس الشورى ,مع التمديد لهادي لفترة رئاسية جديدة (تنتهي فترته الحالية في فبراير القادم) , لكن حتى هذا الابتكار لا زال مرفوضا بشكل أساسي من حزب المؤتمر.

أما ماذا بعد ,إلى أين تتجه اليمن ؟سؤال لم يجب عليه المتحاورون ولم يكن ضمن ابتكاراتهم المتعددة حتى الآن.

ربما خلال ديسمبر الحالي تتضح الصورة أكثر بعد خروج ما يتم خلف الكواليس إلى العلن,إذ يبدو أن ثقافة الصفقات السياسية مستمرة ,ويصعب التنبؤ بأثمانها وبضاعتها وتجارها.

ولكن هل تمتلك اليمن الوقت للانتظار؟ على الارجح لا ، فهي بلد ينبض منها الماء والموارد والوقت ايضا.

Al-Monitor نشر هذا المقال في 

10