بدأ البث التجريبي للقناة السلفية الثانية في اليمن منتصف آذار/ مارس من العام الماضي، بعد أيام قليلة من إقرار لجنة شؤون الأحزاب اليمنية حزب “السلم والتنمية”، كثاني حزب سلفي في البلاد.قبل اندلاع الانتفاضات العربية، كانت البنية العقائدية للجماعات السلفية التقليدية في مصر واليمن تعتبر مشاهدة التلفاز من المحظورات الشرعية السائدة في ذهنية التحريم السلفية.
ولذا فانطلاق القناة السلفية في اليمن مؤشر جديد على التغيرات التي عصفت بأيديولوجية هذه الجماعات. وكصحافي في اليمن، فأسهل عليك التوصل الى إجراء مقابلة مع الرئيس الأميركي باراك أوباما من ملاحقة الشيخ محمد بن عبد الله الإمام الذي يدير مركز دار “الحديث” في منطقة معبر بمحافظة ذمار، التي تقع على بعد مئة كيلومتر فحسب جنوب العاصمة صنعاء.
فكأي شيخ سلفي في اليمن، يرفض بن عبد الله الإدلاء بأي حديث صحافي. كان ذلك قبل “الربيع العربي” وبعده. أما الصورة الفوتوغرافية الشخصية فهي من المحظورات الدينية، على الرغم من عدم وجود أية فتوى دينية لدى هذه الجماعات تبرر رفض الحديث إلى وسائل الإعلام.
سيرة سلفية ذاتية
دخلت السلفية الدينية إلى اليمن مطلع ثمانينات القرن الماضي. ويعد الشيخ مقبل بن هادي الوادعي الأب الروحي للحركة السلفية. فيما بعد، تشظت الحركة، وفي غضون فترة وجيزة انقسمت إلى تيارات عدة تحت المظلة السلفية ذاتها، وهي مظلة لم تمنع حصول اصطدام فيما بينها عند منعطفات كثيرة، تنوعت بين خلافات على مسائل شرعية وأحكام فقهية وأحيانا مواقف سياسية ووصل بعضها حد القطيعة والتكفير. ظلت الجماعات السلفية منغلقة على ذاتها خارج دائرة الفعل الاجتماعي، ولم تؤد خلال مسيرتها العلمية (بالمعنى الشرعي للعلم) أي دور تنموي يذكر.
وخلال أكثر من ربع قرن استنزفت كل طاقاتها وأموالا طائلة في تأليف الكتب وتسجيل الخطب المنبرية التي تستعيد – كغيرها من التيارات الدينية – نبش القبور بفتاوى فقهية ومجلدات عن أحكام السواك والحيض والنفاس والجماع والثياب.كانت حرمة العمل السياسي أمراً متفقاً عليه لدى مختلف الجماعات السلفية. لكن العامين الماضيين والتغييرات التي وقعت خلالهما، وضعت السلفيين على محك تحول مباغت يصفه بعض المهتمين بشؤون الجماعات الدينية في اليمن بالطفرة السلفية القافزة فوق كل التوقعات.
كان حزب “إتحاد الرشاد” أول حزب سلفي ينخرط في الحياة السياسية بقوة منذ تأسيسه منتصف تموز/ يوليو 2012. وقد رافقت فترة انطلاقته أول قناة فضائية ذات مرجعية سلفية هي قناة “يسر”. إلا أن “الرشاد” لم يعلن بشكل واضح بأن “يسر” هي قناته الخاصة، وهي التي غلب على برامجها الطابع الديني والدعوي والفقهي واتسمت بنوع من الراديكالية الدينية.
بدا “الرشاد” منفتحاً على السياسة منذ بروزه بكل ثقله الحزبي، فقوبل بمناهضة وفتاوى تتبرأ منه من قبل عدة تيارات سلفية في البلاد. كما واجه في إطاره الهيكلي خلافات مبكرة كادت تطيح به في مهده. شارك “الرشاد”، الذي يترأسه الشخصية السلفية المعروفة الدكتور محمد بن موسى العامري، بقوة في فعاليات مؤتمر الحوار الوطني (الذي انعقد في صنعاء منذ 18 آذار /مارس 2013). ولم يترك حدثاً سياسياً إلا وأبدى موقفه منه من خلال بيانات عدة.
في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أدرجت الإدارة الأميركية الأمين العام لحزب الرشاد الدكتور عبد الوهاب الحميقاني ضمن قائمة الداعمين للإرهاب (إلى جانب الأكاديمي القطري عبد الرحمن بن عمير). قوبل القرار بسخط شعبي وتعاطف غير مسبوق مع الحميقاني الذي لم يكن ليحظى بكل هذا التضامن لو كان مجرد سلفي وليس أميناً عاماً لهذا الحزب.
سلفية بتيارات كثيرة
وتحت المظلة المذهبية للحركة السلفية في اليمن، والتي يمثل التيار “المقبلي الوادعي” الحامل الرئيسي لها، انقسمت الحركة السلفية إلى عدة جماعات وتيارات منها: التيار “المأربي” الذي أسسه الشيخ أبو الحسن المأربي (مصري الجنسية) في قرية فليفل بمحافظة مأرب شمال شرقي صنعاء. تيار “الإحسان”، وجماعة “الحكمة” التي تحولت أخيراً من جمعية خيرية دعوية إلى حزب هو حزب “السلم والتنمية”.
ومنذ تأسيسها في بداية تسعينيات القرن الماضي، اتسمت مواقف جماعة “الحكمة” بالتحولات والتغيرات. وبعد أن كان لها موقف محدد ورافض للمشاركة السياسية، أصبحت الآن من أقوى اللاعبين السياسيين في حلبة المنافسات الانتخابية النيابية والرئاسية في اليمن. وتجدر الإشارة الى أن جماعة الحكمة سابقاً (حزب السلم والتنمية حالياً) بقيت كجماعة أقرب التيارات السلفية إلى السلفية الحديثة أو السلفية السياسية بمعنى أدق.
ارتباط خارجي
وللحركة السلفية أكثر من ذاكرة مذهبية. يبدو ذلك واضحاً من خلال تعدد تياراتها، ويتوقع مراقبون- قياساً على القناتين والحزبين السلفيين حديثي المنشأ – أن تشهد السلفية السياسية انقسامات جديدة ومتسارعة، خاصة مع وجود استقطاب خليجي وتحديداً سعودي لهذه الجماعات، التي تمثل رأس حربة المملكة الجارة في مواجهة المد السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن بجناحها السياسي، حزب “التجمع اليمني للإصلاح”. هذا ما دفع بالشيخ يحيى بن علي الحجوري الذي خلف الشيخ الوادعي في رئاسة مركز “دار الحديث” السلفي في منطقة دماج في محافظة صعدة شمال غرب صنعاء، والتي شهدت عملية تهجير جماعي في كانون الثاني/ يناير الماضي – على يد الحوثيين- لإصدار بيان يوضح فيه أسباب زيارته الأخيرة للسعودية التي قال أنها للعلاج وأداء شعائر العمرة. وكانت تسريبات صحفية تحدثت عن استقطاب سعودي للشيخ الحجوري، أبرز شيوخ السلفية في اليمن، وأنه ثمة حزب سلفي سيظهر على الساحة اليمنية، على غرار حزب “النور” السلفي في مصر الذي ساند الانقلاب العسكري هناك.
لقد بقيت مواقف السلفيين منعزلة عن المشاركة السياسية الى أن دفع بهم التجاذب السياسي إلى مربع المؤتمر الشعبي العام (الحزب الحاكم سابقاً) قبيل ثورة شباط/ فبراير 2011 في اليمن. وإن كانت مواقف السلفيين تتسم بالغموض والتأرجح، فما هو مؤكد الآن أن الديمقراطية لم تعد كفراً، وأن السلفيين، أو بعضهم على الأقل، يدخلون معترك السياسة من أبواب متفرقة.