الجهود التي تبذلها سلطنة عُمان لتجنّب الانحياز لطرف معيّن في منطقة تعاني من الاستقطاب، تسبّبت لها بالمتاعب، إنما أيضاً بتحقيق مكاسب.

التقيتُ بالصدفة مؤخراً بالأكاديمية الأميركية ستايسي فيلبريك ياداف في ردهة أحد الفنادق في مسقط، عاصمة سلطنة عُمان. خلال تبادلنا أطراف الحديث، بدا واضحاً أن كلَينا موجودان هناك لإلقاء نظرة عن كثب إلى بلادٍ لم تتورّط في النزاعات التي تُسبِّب الانقسامات في الخليج والمنطقة.

لقد أصبحت العاصمة العُمانية وجهةً أساسية لمَن يحاولون فهم الدور الذي تؤدّيه السلطنة في محيط غير مستقر – إنه دور دولةٍ حافظت على حيادها وتُبقي على اتصالات مع الأطراف كافة. منذ بدء التحالف الذي تقوده السعودية بتنفيذ عمليات عسكرية في اليمن في آذار/مارس 2015، كانت سلطنة عُمان هي البلد العربي الخليجي الوحيد الذي لم يشارك في التحالف، متجنِّباً التورط في حربٍ تبيّن أنها أكثر كلفة ودموية إلى حد كبير مما كان متوقَّعاً في البداية. في الوقت نفسه، سعت عُمان إلى المساعدة على تسوية النزاع اليمني والأزمة الأخيرة مع قطر، في موقفٍ سياسي يعكس ميلاً إلى أداء دور الوساطة، كما في المرحلة التي أمّن فيها العُمانيون “قناة خلفية” في المحادثات حول الاتفاق النووي مع إيران بدءاً من العام 2009.

ارتسمت الخطوط العريضة للسياسة الخارجية العُمانية خلال المقاطعة العربية لمصر، بعد قيامها بتوقيع اتفاقات كامب ديفيد مع إسرائيل في العام 1978، وتبلورت أثناء حرب الخليج 1980-1988، عندما رفضت مسقط المشاركة في الاصطفاف العربي ضد إيران. حتى في المرحلة التي سبقت حرب اليمن في صيف 1994، استضاف العُمانيون الاجتماع الأخير بين الزعيمَين الخصمين علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض في محاولة أخيرة للتوسّط بين الاثنين.

يبلغ عدد سكان سلطنة عُمان أربعة ملايين نسمة فقط، لكنها ثاني أكبر دولة عربية خليجية من حيث المساحة. يحكمها السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، الذي كان آخر ظهور له في العلن في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، إثر غياب طويل، في لقاء مع وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري. يُقال إن السلطان مريض، بعد عقود من وجوده في سدّة الحكم. لقد تسلّم السلطان قابوس الحكم في انقلاب ضد والده في العام 1970، وأطلق نهوضاً استثنائياً أفادت منه السلطنة على امتداد عقود.

بنَتْ سلطنة عُمان علاقات مستقرة ودائمة ومتينة مع مختلف الدول المجاورة لها، بتسهيلٍ من التسامح الذي يتمتع به تقليدياً المذهب الإباضي المسيطِر في البلاد. وقد خلّف ذلك، إلى جانب غياب الأحزاب السياسية، أثراً عميقاً في الطبيعة السياسية للسلطنة. تنعم البلاد بالهدوء في شكل عام، كما أنها ميّالة إلى الإصغاء، ومتّزنة. غالباً ماتستمدّ مؤسساتها الإلهام من تقليدَي التكتّم والصبر اللذين تتميز بهما المملكة المتحدة، في حين أنه يمكن أيضاً أن نلمس اليد البريطانية في تلك المؤسسات. قد تكون سلطنة عُمان الدولة الوحيدة التي لم تشهد معارضة واضحة ومنظّمة ضد الحكومة منذ أواخر السبعينيات، عندما أنهى النظام في جنوب اليمن آنذاك دعمه لجبهة تحرير ظفار بعدما قامت عُمان بالقضاء عليها بمساعدة بريطانية وإيرانية.

عدم الانحياز في النزاع اليمني

منذ اندلاع الحرب الأخيرة في اليمن، أدّت عُمان دوراً تيسيرياً أساسياً. فقد استضافت قياديين من التيار الحوثي وممثّلين عن الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ماأتاح لها، إلى جانب علاقاتها الجيدة مع إيران، حجز موقع وسطي لنفسها سمح لها بالانخراط في عملية سياسية للمساهمة في تسوية النزاع. مع قيام التحالف الخليجي بتضييق الخناق حول الحوثيين وصالح، أصبحت الرحلات من عُمان وإليها شريان حياة أساسياً بالنسبة إلى السلطات في صنعاء، مفسحةً في المجال أمام المفاوضين الذين يمثّلون الحوثيين وصالح للسفر إلى خارج اليمن.

أثارت تعاملات عُمان مع الحوثيين غضب السعودية وحلفائها. وأحد الأسباب هو أن وقوف مسقط على الحياد كان بمثابة إدانة ضمنية للحرب في اليمن، ضد الإجماع في الخليج. فتعرّضت السلطنة إلى انتقادات لاذعة من كتّاب وأكاديميين وسياسيين مرموقين في مختلف أنحاء المنطقة. كما أن هذا الغضب السعودي جاء في وقت كانت السعودية تأمل فيه بتظهير صورة جامعة وموحّدة خلف الجهود التي يبذلها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ووزير الدفاع السعودي وأحد الشخصيات الرئيسة خلف التدخّل في اليمن. وقد بلغ التوتر ذروته عندما أقدم التحالف الذي تقوده السعودية على قصف السفارة العُمانية في صنعاء في أيلول/سبتمبر 2015.

لكن مع تعثّر الحملة التي يشنّها التحالف الخليجي في اليمن، تبدّل الموقف السعودي. فالسعوديون الساعون إلى الحفاظ على قناة تواصل مع الحوثيين وصالح، رأوا فرصةً سانحة في العلاقات التي يقيمها هؤلاء مع سلطنة عُمان، الأمر الذي أتاح لمسقط استضافة مفاوضات سرّية بين الحوثيين والرياض في مطلع العام 2016، وبين المسؤولين الأميركيين والحوثيين في أيار/مايو 2015وتشرين الثاني/نوفمبر 2016. لقد اكتسبت عُمان احترام الحوثيين عبر مساعدتها لهم، وتمكّنت من إقناعهم بحضور المباحثات التي تمت برعاية الأمم المتحدة في الكويت في العام 2016، والحفاظ على انخراطهم فيها. ربما أخلّ الحوثيون بجميع الاتفاقات التي وقّعوا عليها تقريباً، غير أن التأثير الذي تمارسه سلطنة عُمان قد يُتيح لها دفعهم نحو الاعتدال في سلوكهم والالتزام بالاتفاقات التي يُبرمونها.

مع احتدام الحرب في اليمن، اتخذت عُمان خطوات أخرى تبقى ذات أهمية، ولو كانت صغيرة. فقد منحت اليمنيين تأشيرات مرور عبر أراضيها، واستقبلت مئات المصابين، وساعدت اليمنيين على الوصول إلى بلدان ثالثة عن طريق أراضيها. لايزال ممكناً أن نلتقي في مسقط أشخاصاً كانوا في عداد الضحايا الذين أصيبوا خلال قصف إحدى قاعات المآتم في صنعاء في العام 2016. في حين أن الإمارات العربية المتحدة وبعض حلفائها فرضوا قيوداً مشدّدة على منح تأشيرات دخول لليمنيين، عمدت سلطنة عُمان إلى التساهل أكثر في منح تأشيرات المرور.

الأزمة القطرية والعلاقات مع الخليج

عند اندلاع الأزمة الأخيرة مع قطر، ظهرت عُمان إلى الواجهة من جديد في دور الوسيط والميسِّرة للمساعدات الإنسانية. وقد بادرت فوراً إلى وضع طائراتها في الخدمة لنقل المواطنين القطريين العالقين داخل الدول التي فرضت حصاراً على الدوحة. في غضون ذلك، عمد وزير الخارجية والقيادات في عُمان إلى التنسيق مع الكويت التي تقود حالياً الجهود الآيلة إلى رأب الانقسامات في الخليج.

أتاحت هذه المقاربة لسلطنة عُمان تحقيق مكسبَين أساسيين من الأزمة. أولاً، كسبت حليفاً نافذاً في مجلس التعاون الخليجي، ألا وهو الكويت التي تبنّت إلى درجة معيّنة مقاربة شبيهة بالمقاربة العُمانية في الوقوف على مساحة واحدة من جميع الأطراف في المنطقة. وثانياً، وضعت الأزمة حداً للاتهامات بأن عُمان تعمل على تقسيم الخليج. فالغضب الرسمي والشعبي، الذي كان موجّهاً ضد السلطنة في السابق، بات ينصبّ الآن على قطر، وهكذا تحرّرت عُمان من دور النعجة السوداء في مجلس التعاون الخليجي.

في حين أنه للسلطنة خلافات واضحة مع المملكة العربية السعودية، لاسيما في الموضوع الإيراني، لم تبلغ هذه التباينات، أقلّه حتى الآن، مرحلة المواجهة المباشرة. يقول المسؤولون العُمانيون إن سياستهم السابقة في التوسّط مع إيران ركّزت إلى حد كبير على تعزيز أمن الخليج. ويشيرون إلى أنه لولا الاتفاق النووي مع طهران، الذي ساهمت عُمان في وضع خطوطه العريضة الأولى، لكانت إيران، العدو اللدود للمملكة في المنطقة، تمتلك الآن برنامجاً كاملاً للأسلحة النووية.

الخلافات العُمانية مع الإمارات أكثر علنية ووضوحاً من الخلافات مع السعودية. والدولتان تتنافسان بطريقة غير مباشرة لتعزيز نفوذهما في الجزء الشرقي من اليمن. وقد أبدت الإمارات، لأول مرة، اهتمامها بجزيرة سقطرى اليمنية (التي تُعَدّ من أبرز المواقع الطبيعية في العالم)، حيث ظلّ النفوذ الأجنبي حكراً على عُمان لفترة طويلة، تماماً كما في محافظة المهرة شرق اليمن. وتشكّل الطموحات الإماراتية في جيب مسندم الواقع في الأراضي العُمانية والذي تحيط به أراضٍ إماراتية ويتوغّل في مضيق هرمز، سبباً إضافياً للخصومة بين البلدَين، مايُضفي مزيداً من الزخم على التحدّي الإماراتي للدور العُماني في اليمن.

في حين أن عُمان تؤدّي دوراً مهماً في اليمن، بموجب تفويض غير مكتوب من دول الخليج الأخرى، ليس واضحاً إذا كان ذلك التفويض ينطبق أيضاً على الأزمة مع قطر، لاسيما على ضوء الفتور الذي يسود في العلاقات بين مسقط والإمارات، الدولة الأكثر تشدداً في موقفها في المواجهة مع الدوحة. تقبع السلطنة راهناً في المقعد الخلفي تاركةً الدفّة للكويت، وربما يُرضيها أن تستمر في هذه الوضعية.

تحدّي التعاقب على السلطة

لدى السير في شوارع مسقط، تنجلي أمام عيوننا مدينةٌ حافظت على طابعها التاريخي. لقد فرضت السلطات قيوداً مشدّدة على المباني الجديدة. وقد أراني الدليل، بكل فخر واعتزاز، المبنيَين حيث يقع مقر البرلمان العُماني، قائلاً إن السلطان قابوس أشرف شخصياً على التصميم. على الرغم من جاذبية مثل هذه القيادة التي تتدخل في التفاصيل، ثمة شعور طاغٍ بأن السلطان يقف خلف كل شيء مشكلةً في عُمان، حيث لاتزال صناعة القرارات مركزية إلى أقصى الحدود. لهذا ترتدي آفاق التعاقب على السلطة أهمية بالغة.

للبلاد واحدة من أقدم المنظومات المدوَّنة لنقل السلطة في العالم. يتولّى مجلس يعيّنه السلطان تنفيذ الآلية. وفي حال عجز المجلس عن التوصل إلى اتفاق، ثمة تعليمات محفوظة في جامعة كامبريدج حول كيفية تعيين وريث للعرش. يجب العودة إلى هذه التعليمات لتسوية أي خلافات محتملة في حال وفاة السلطان قابوس. لم يجرِ اختبار هذه المنظومة بعد، وليس واضحاً إذا كانت كافية لتأمين انتقال سلس.

لكن ماهو أكيد بدرجة أكبر أن سلطنة عُمان تجنّبت حتى الآن الخطأ الذي ارتكبته كل الدول الأخرى التي اكتسبت تأثيراً في اليمن لتعود فتخسره لاحقاً. فهي لم تسعَ إلى تمويل فريق معيّن داخل البلاد. وأحد الأسباب هو أنه ليس هناك من بلد قادر على التفوّق على السعودية في إنفاق الأموال. بيد أن المبالغ الطائلة التي دفعتها المملكة لزعماء القبائل النافذين في اليمن لم تنجح في إقناعهم بالوقوف إلى جانب الرياض. بل على النقيض تماماً، تسبّبت باستفحال التشنجات. لهذا ينبغي على عُمان أن تعتمد مقاربتها الأكثر اتضاعاً، في اليمن وفي أماكن أخرى على السواء. لقد أظهرت السلطنة أن عدم الانحياز في منطقة متصدّعة سياسياً، يولّد فرصاً جديدة تترافق مع مستوى من السلطة والنفوذ. لقد تعلّمت عُمان كيف تزدهر وتنمو في المساحات الكثيرة التي تركتها المنطقة مفتوحة أمامها، مؤكّدةً بذلك فوائد الديبلوماسية الخفيّة والهادئة التي أمّنت لها أيضاً درجة من الأمن.

تم نشر هذا المقال في مركز كارنيغي

10