بالتزامن مع ما يثار حول طبيعة دور “جبهة النصرة” و”الدولة الإسلاميّة في العراق والشام” (داعش) الموالَين لتنظيم القاعدة في سوريا، قامت “القاعدة” في اليمن بتنفيذ مجزرة بشعة في ثلاث هجمات متفرّقة راح ضحيّتها عناصر من قوى الأمن اليمني جنوب البلاد. وعلى الرغم من أن البعض لا يرى في ذلك مؤشراً على ترابط الأحداث بين البلدَين على مستوى نشاط “القاعدة” ذاته، إلا أنه مع بداية قتال الفصائل المختلفة ضدّ نظام الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2011 كانت “القاعدة” في اليمن تحاول إحكام السيطرة على أكثر من منطقة لا بل أعلنت عن إقامة إمارتَين إسلاميّتَين في كلّ من أبين وشبوة جنوب البلاد قبل أن يستعيدها الجيش اليمني في ما بعد. وذلك، في محاولات لملء فراغ محتمل للدولة يجب استغلاله قبل الآخرين لتأسيس دولتها الإسلاميّة المنشودة.
في خلال الفترة الأخيرة عندما هدّدت الولايات المتّحدة وبريطانيا ودول أخرى بضرب دمشق، ظهرت ملامح جديدة في مواقف الشرائح اليمنيّة المختلفة تجاه ما يجري في سوريا. فقد انخرطت الفئة المعتدلة من الشارع اليمني أو اللامبالية، بشكل كبير في مجريات الأحداث في سوريا لتشكّل طرفاً ثالثاً. فبينما كانت الأطراف الأساسيّة تنقسم ما بين الإخوان المسلمين المؤيّدين للثوّار ضدّ الأسد وبين الحركة الحوثيّة صاحبة الموقف المناقض تماماً لموقف الإخوان، ظهر موقف الشارع العادي الذي يمقت التعصّب سواء مع هذا الطرف أو ذاك انطلاقاً من نظرة نابعة من الشعور القومي المشترك بين الدول العربيّة وعلى خلفيّة تاريخ العلاقات العربيّة-الغربيّة التي تأخذ في الاعتبار تحيّز الغرب وخصوصاً الولايات المتّحدة وبريطانيا لصالح إسرائيل في الصراع العربي-الإسرائيلي الذي ما زال يُعتبر القضيّة العربيّة المحوريّة حتى الآن. وفي الوقت نفسه، برز حديث الجماعات المتطرّفة الداعية إلى الجهاد في سوريا من على منابر المساجد، مذكّراً بالدعوات إلى الجهاد والدعاء للمجاهدين في أفغانستان في القرن الماضي ضدّ الاتحاد السوفياتي.
سوريا دولة المواجهة الأولى
في أحد مقاهي شارع فرعيّ ضيّق من شوارع صنعاء، يذكّر أحد روّاده بأن سفارتَي سوريا والصين في صنعاء هما السفارتان الوحيدتان اللتان لم تغلقا أبوابهما أثناء حصار صنعاء في ستينيّات القرن الماضي. ثم يسأل “هل يمكن لأي عاقل المقارنة ما بين موقف سوريا ودولة أخرى كالسعوديّة مثلاً؟”.
يضيف صديقه الذي يجلس بالقرب منه، “لا نحتاج إلى الذهاب بعيداً. يكفي أن نرمّم هذه الذاكرة العربيّة المثقوبة لنعيد قراءة ما جرى في العراق.. هو السيناريو نفسه الذي يدور حالياً في سوريا. ألم تدمّر أميركا جيش العراق بذرائع وهميّة ومزوّرة؟”.
بالنسبة إلى بعض اليمنيّين، سوريا هي دولة المواجهة الأولى مع إسرائيل. فجيشها بعد سقوط الجيش العراقي وحياد الجيش المصري المبنيّ على اتفاقيّة “كامب ديفيد”، هو الجيش الوحيد الذي يتمتّع بعقيدة قتاليّة قوميّة ويحظى بتدريب جيّد حتى لو لم يصبح بمقدرة الجيش الإسرائيلي. ويرى هؤلاء أن سوريا تُستهدَف من أجل تدمير هذا الجيش “لا أكثر ولا أقلّ”، والدليل على ذلك هو دعم الغرب للمعارضة بما فيها “القاعدة” (جبهة النصرة) وضرب إسرائيل دمشق قبل أشهر (أيار/مايو 2013). أما بالنسبة إلى بعض آخر من اليمنيّين، فإن سوريا هي نظام دكتاتوري متحالف مع إيران تحت مظلّة المقاومة وتيار ممانعة لم يمنع إلا الحريّة عن السوريّين.
صراع يمني بمعطيات سوريّة
بخلاف الموقف الشعبي الذي قد ينطلق من تأييد سوريا بحدّ ذاتها وليس نظام الأسد أو معارضيه، ثمّة انقسام حاد بين طرفَين رئيسيَّين في المعادلة اليمنيّة، وهو يتصاعد بتصاعد الأحداث المرتبطة بسوريا.
فيأتي الإخوان المسلمون وهم الطرف الأوّل، كجزء من حلف إقليمي يشمل أنقرة والدوحة والقاهرة (قاهرة مرسي) وغزّة وصنعاء. وهؤلاء يحتفظون بذكرى سيّئة عن الأسد ونظامه وعن حزب البعث. فلا يتاونى أي منهم عن تذكيرك بمجزرة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بحقّ إخوان سوريا مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وإذا أردت، بإمكانهم أن يعدّدوا سقطات نظام الأسد العلماني الذي “شجّع الفجور والإباحيّة” في أوساط المجتمع السوري، ليصلوا من ثمّ إلى حصيلة تقدّر بعشرات الآلاف من القتلى الذين سقطوا في خلال العامَين الماضيَين نتيجة “دمويّة بشّار الأسد” ضدّ معارضيه إلى حدّ استهدافهم بالأسلحة الكيميائيّة، ودائماً بحسب ما يرى هؤلاء.
من جهتهم، يأتي الحوثيّون وهم الطرف الآخر، كامتداد لتحالف طهران-دمشق-حزب الله. ويذهب هؤلاء إلى أن الأسد هو الرئيس العربي الأخير المناهض للولايات المتّحدة ولإسرائيل العدو الأوّل للإسلام والمسلمين، ويعتبرون ما يجري في سوريا مؤامرة طرفها الداخلي إخوان سوريا وإرهابيّو “القاعدة” التي هي “صناعة أميركيّة”. أما وطرفها الإقليمي فيضمّ قطر والسعوديّة وتركيا بالإضافة إلى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. وكلّ هؤلاء يدورون في فلك الولايات المتّحدة وينفّذون خططها التي تقول بالسيطرة على العرب وبتقسيم بلدانهم وبإضعافهم أمام إسرائيل. وبالتالي فإن السوريّين المعارضين للأسد “يستحقّون القتل”، وانتصار الجيش السوري عليهم دفع بالولايات المتّحدة إلى الدفاع عنهم بذريعة الأسلحة الكيميائيّة التي فبركتها – برأيهم- الاستخبارات الأميركيّة كي تقوم بضرب الجيش السوري النظامي.إلى هذَين الطرفَين، ثمّة أطراف أخرى موالية لواحد منهما أو لآخر وذلك فقط في ما خصّ الموقف من سوريا. وكنتيجة للصراعات الداخليّة في ما بين تلك الأطراف في اليمن، قام رئيس أركان الأمن المركزي اليمني السابق يحيى صالح وهو نجل شقيق الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، بزيارة إلى دمشق وأعلن تأييده لنظام الأسد. ويحيى صالح معروف بموقفه المناهض للإخوان المسلمين بخاصة بعد حركة الإطاحة بعمّه في العام 2011. كذلك قام القيادي البعثي نائف القانص وهو الناطق السابق باسم تكتّل اللقاء المشترك في اليمن (كممثّل عن حزب البعث) الذي يعدّ الإخوان المسلمون (حزب الإصلاح) أكبر مكوّناته، بزيارة إلى دمشق لتأييد الأسد وذلك على النقيض من موقف حلفائه من الإخوان.
يمكن القول أن الإخوان إلى جانب شريحة مستقلّة، يقفون مع ضرب الولايات المتّحدة سوريا. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحوثيّين يشعرون بأنهم حقّقوا انتصاراً على الإخوان في معركة الاستقطاب الممنهج التي يخوضها كلّ طرف منهما. وقد تمثّل ذلك الانتصار في رفض الشارع اليمني ضرب سوريا، مهما كانت دوافع هذا الرفض.
لكن الأمر لم يتوقّف على التناقض المجرّد في المواقف، فثمّة ثلاث جبهات قتال بين الأطراف التي تختلف في مواقفها تجاه سوريا. فهي ما تكاد تهدأ حتى تثور من جديد، وأبطالها في العادة هم الحوثيّون من جهة والإخوان من جهة أخرى مع اختلاف الذرائع. فقد استمرّ القتال لأسابيع في مناطق من محافظة عمران التي يتقاسم الطرفان السيطرة عليها، في ظلّ حضور ضعيف للدولة فيها. وقد وصل القتال إلى ذروته مع إعلان الولايات المتّحدة نيّتها ضرب دمشق، ولم تنجح الوساطات بينهما في التوصّل إلى هدنة إلا بعد اتفاق واشنطن وموسكو بشأن سلاح دمشق الكيميائي. ولا ننسى الاتهامات المتبادلة بين الطرفين المتعلّقة بإرسال مقاتلين يمنيّين إلى سوريا، والتي تقول بأن الإخوان أرسلوا مجاهدين لنصرة الجيش السوري الحرّبينما الحوثيّون أرسلوا مجاهديهم لنصرة الأسد. وهي اتّهامات لا تخلو من شواهد للتأكيد على صدقيّتها، وكانت الصحف المحليّة قد نشرت تقارير عدّة عنها قبل أشهر. وباستثناء المبالغة في توجيه كلّ طرف التهم إلى الطرف الآخر من باب الخصومة، فإن تلك تُعتبَر مؤشّرات مقنعة إلى حدّ كبير.
روسيا والولايات المتّحدة
يرى بعض اليمنيّين أن تفرّد الولايات المتّحدة بقيادة العالم بعد تنحّي الاتحاد السوفياتي، قد عرّض المنطقة العربيّة لأكبر الخسائر والحروب وسفك الدماء. وبالتالي، فإن موقف موسكو الأخير من ضرب دمشق أعاد انبعاث الشعور بقرب روسيا -الصديق القديم للعرب- من العرب أكثر من الولايات المتّحدة وبريطانيا، لا بل كمعادل موضوعي لتفرّدهما بإدارة ملفات المنطقة وتوجيهها بحسب مصالحهما.
في الوقت ذاته لا يجد كثيرون تفسيراً منطقياً لمواقف الولايات المتّحدة في سوريا، تحديداً حيث تقف مع “القاعدة” في خندق واحد في وجه الأسد، بينما تقود في خارجها حرباً دوليّة على الإرهاب. وكانت اليمن قد تعرّضت إلى ضربات متعدّدة شنّتها طائرات من دون طيار بحجّة محاربة “القاعدة”.
وتبقى الولايات المتّحدة في كلّ الأحوال متّهمة (كنظام) من قبل كلّ طرف بموالاة الطرف الآخر، حتى لو من باب تجريم هذا الآخر وإثبات ولائه لقائد العالم المتغطرس الذي يسخّر كلّ شيء في طريقه لخدمة أهدافه الغامضة غموض تحالفاته ومواقفه. أما روسيا، فأسهمها الجماهيريّة في تصاعد بناءً على موقفها تجاه سوريا ولعدم مشاركتها في أي معركة ضدّ الدول العربيّة. ولا يقف في وجهها سوى الإخوان الذين هم ضدّها في الأساس منذ حقبة الجهاد الأفغاني ضدّ “قائدة الإلحاد والشيوعيّة” حينها بحسب رأيهم.
تأثّر اليمن بسوريا
ما زال الموقف اليمني الرسمي حذراً للغاية في ما خصّ أحداث سوريا، وما زالت سفارة دمشق ومركزها الثقافي في صنعاء يعملان بشكل طبيعي، كذلك فإن اليمن تستقبل اللاجئين السوريّين من طرفّي الصراع في سوريا على حدّ سواء.
وتجدر الإِشارة إلى أن تغيّر موازين القوى في سوريا قد يؤدّي إلى اشتداد التنافس لتوسيع النفوذ في اليمن ما بين محورَي طهران وأنقرة وامتداداتهما المحليّة والإقليميّة. لكنه على الأرض لن يغيّر كثيراً في موازين القوى المحليّة من حيث القوّة، بينما قد يكسب الطرف الموالي لنظام الأسد تعاطفاً أوسع ليس تجاه الأسد بحدّ ذاته وإنما تجاه سوريا التي عرفها عدد كبير من اليمنيّين وتخرّج المئات منهم من جامعاتها، بمن فيهم طلاب من الإخوان المسلمين. ويبقى أنه طالما وقفت الدوحة والرياض في صفّ واحد في وجه دمشق، فإن خارطة الصراعات المحليّة في اليمن لن تتغيّر بشكل جوهري.