يندر أن تحضر فعالية في اليمن وتجدها قد بدأت في الوقت المحدد,وإن حدث ذلك ستجد أن عددا من المشاركين لم يصل بعد ,فقد تتأخر فعالية افتتاح ندوة ما لأكثر من ساعة لأن شخص الراعي للفعالية لا زال كرسيه على المنصة شاغرا.
عادة يمقتها اليمنيون ,ويمارسونها بنفس قدر انتقادهم لها,لتجد أحدهم يؤكد على أهمية الحضور في الموعد بقوله “وعد انجليزي,,مش يمني”,فمواعيد العمل الرسمي ,واللقاءات المرتبطة به تخضع غالبا لترتيبات اللحظة الأخيرة.
لتلك القاعدة استثناءات كثيرة لكنها محصورة تقريبا في نخب التعليم المتقدم ,وأولئك الذين لهم تجارب سابقة في الاحتكاك بالثقافات الأخرى,لكن على الصعيد الاجتماعي العام ,تجد المسنين أكثر التزاما ودقة دون أي أجندة لمواعيدهم اليومية التي لا تتغير إلا بشكل نادر,ولا حتى قدرة على فك رموز الأبجدية الكتابية.
كان ذلك المسن ينظم طابورا لطالبي وجبات السفري في إحدى مطاعم صنعاء ,وبشكل طوعي ويردد:
“تعلموا النظام يا شباب, عيب عليكم تتجاوزوا بعض”
لكن شاب من المنتظرين تجاوز مرة أخرى دون الالتفات إلى محاولات العجوز ترتيب الأمر ليصرخ الأخير بحدة:
“اللعنة على من علمكم ,يا جهلة ,تعلموا مني وأنا لم أمسك كتابا في حياتي,اللعنة ,قتلتم أملنا فيكم”
ثم نثر كروت وجبته المنتظرة في وجوههم ,وغادر المطعم ,دون أن يسترجع ثمنها ,ولم يلتفت للخلف,ولم يتوقف عن الشتم.
جيل هذا العجوز النظامي ,أكثر انضباطا من ساعة بج بن ,ينامون قبل التاسعة ,ويستيقظون قبل بزوغ الفجر ,لا جهاز تنبيه ,ولا حتى ساعة يد في الغالب, لكنها عادة المجتمع الزراعي الريفي عميقة الجذور والأثر, والمستعصية على التغيير.
في الارياف ، يستيقظ المزارعين مع اشعاعات الفجر الاولى وعلى اصوات الديكة ، بشكل طبيعي ويومي من دون اي من تكنولوجيات الايقاظ.
لكن جيل موظفي المكاتب الحكومية ,من حملة الشهادات التعليمية ,ذوي الثقافة الضحلة ,تركوا احترام هذا الإرث الحضاري الحقيقي ,ولم يصلوا بعد إلى عتبات المجتمع المديني ذي الامتيازات المعلوماتية والتقنية.
إن دفعتك الحاجة لمراجعة دائرة حكومية في صنعاء أو سواها من المدن اليمنية فعليك ألا تتأخر عن ال12 ظهرا ,وإلا فالموعد تلقائيا سيرحل إلى أجندتك لليوم التالي, ذلك أنك لن تجد الموظف المختص في مكتبه بعد ذلك ,وقد تلحق به على باب المكتب ,فلا تحاول إعادته إليه حيث ستتلقى إجابة آلية محتواها :
“تعال بكرة بدري ,هل علينا أن نعلم أنك ستأتي متأخرا لننتظرك ,ونؤجل مواعيدنا من أجلك؟”
لا تسأله أيضا عن مواعيده التي يقصد ,لأنك ستقابله ببساطة في سوق القات ,أو في الطريق إلى مطعم ما ليرتب وقت الذروة الشخصية مع أصدقائه الذين سيتناول معهم القات اليوم(القات نبتة عشبية يمضغها أغلب اليمنيون فترة المساء والليل ,وهي منبه عصبي يؤدي للشعور بالنشوة).
قد تفكر أن تشتكي هذا الموظف المستهتر لمديره ,لا عليك ,لن تجده في مكتبه ,وإن وجدته سيشرح لك أن هذا هو السائد الذي يصعب تغييره ,لكن عليك أن تكن مرنا لتقبله.
في أحيان أخرى تحتاج لأشهر من المتابعة حتى تحظى بمقابلة الموظف المختص بإنجاز معاملتك ,خاصة إن كانت متعلقة بأمور مالية ,فموظفوا الشئون المالية أصحاب حظوة استثنائية لدى رؤسائهم.
تقديرات الهدر الزمني:
في أفضل التقديرات يهدر الموظف الحكومي اليمني 3 ساعات عمل يوميا من ساعات الدوام الـ7 المقرة في قوانين الخدمة المدنية حيث تكون المكاتب الرسمية أقرب للوضع الطبيعي بين الـ9 صباحا ,الـ1 ظهرا ,مع استقطاع وقت الإفطار منها بالطبع.
ومع عدم وجود إحصائية مؤكدة لعدد موظفي الدولة هناك ,لاختلالات إدارية عميقة ,فإن الرقم 1 مليون هو الأكثر تداولا ,للسلكين المدني والعسكري ,وعلى اعتبار أن أيام العمل السنوية لكل موظف هي 302 يوما بعد استبعاد أيام الإجازات الأسبوعية ,والوطنية والدينية ,فإن 906 مليون ساعة عمل تهدر سنويا في القطاع الحكومي اليمني ,مع غياب أية معايير لتقييم الأداء وانجاز اليومي للموظفين باستثناء جداول الحصص الدراسية للمعلمين ,وجداول محاضرا ت الجامعات ,فحافظة الدوام الغير مضبوطة بالزمن ,والتي تكتفي بتوقيعين (حضور وانصراف) وهي في أحيان كثيرة توقع لمرة واحدة مزدوجة (حضور وانصراف ) بنفس الوقت.
البصمة الوظيفية:
بدأت اليمن برنامجا للإصلاح المالي والإداري عام 1995م, لكنها حتى الآن لم تنجح في تطبيق نظام البصمة الوظيفية على منتسبي القطاع العام, فقد حققت تقدما جزئيا في الوظائف المدنية ,بينما ظلت المؤسستين العسكرية والأمنية محميتين بنفوذ قاداتها وبتواطؤ القيادات العليا في البلاد التي لم تلزمها بذلك حتى اللحظة الراهنة .
أغلب حالات الازدواج الوظيفي ,والتوظيف الوهمي (توجد عشرات الآلاف من الأسماء المقيدة في الكشوفات المالية لمؤسسات عسكرية وأمنية لكنها غير موجودة عمليا)فقد جرت العادة أن تقوم الدولة بمنح شيخ قبلي أو قائد عسكري عشرات أو مئات من الدرجات الوظيفية تصرف بنظره ,ويستلم مستحقاتها المالية دون إخلاء عهدة لمن/كم صرف أو أبقى فالوظائف في الأساس هي عطية له لكسب ولائه ,وبالتالي لا زالت قضية هيكلة الجيش والأمن قضية عالقة وبالغة الحساسية , حتى بعد القياد بإسقاط النظام السابق منذ أكثر من عامين.
لا زالت هذه الآلية متبعة إلى الوقت الراهن ,بل وكشفت وسائل إعلام محلية عن مذكرات مرفوعة من شخصيات قبلية نافذة لرئيسي الجمهورية والحكومة ,بترشيح أسماء موالية لها لمناصب إدارية عليا (وكلاء وزارات ,ومحافظات) وتم الموافقة عليها كاستمرار للعبة الولاء ,والكسب ,في إطار تقاسم الوظيفة العامة,بل أنه تم توظيف 60 ألف موظف جديد في 2011,في السلك المدني ,وأكثر من ذلك بعدها في الجيش والشرطة , بناء على ضغوطات من قيادات عسكرية وأمنية أرادت ترجيح كفة الصراع التي شهدتها اليمن لصالحها ونجحت في ذلك ,في ظل تخوفات حقيقية من عجز الحكومة عن دفع رواتب موظفيها خلال أشهر.
وماذا أيضا؟:
لا توجد خطط توظيف حسب احتياج كل جهة حكومية ,وإنما بتقديرات نمو الطلب الاجتماعي , وسياسة وزارة المالية في إقرار موازنات مؤسسا ت الدولة ,فعل سبيل المثال تشكو وزارة التربية والتعليم من عجز في معلمي المواد العلمية ووجود فائض في المواد الاجتماعية والدينية ,لكن الدرجات الوظيفية الممنوحة لها لا زالت تراكم البضاعة الراكدة , ولا زال أكثر من 56% من موظفي الدولة حسب إحصاءات السكان في 2004 ,أميون ,في مفارقة عجيبة ,إذ تبلغ نسبة البطالة في أوساط حملة الشهادات الجامعية أيضا 54%.
إنه مزيج من الهدر الرسمي لمقدرات بلد شديد الفقر , و استمراء الأوساط الاجتماعية لذلك الهدر حتى لا تقتصر الوظيفة العامة على المؤهلين لها فتحل المصيبة على رؤوس تجار الوظيفة العامة التي أفسدوا أخلاقها بشكل مزمن.
قامت وزارة الخدمة المدنية قبل سنوات بإخضاع شغل إدارات ديوان الوزارة للمفاضلة التنافسية ,وظلت تجربة نجاح يتيمة ,إذ جربها محافظ تعز وبعد إعلان المستحقين لـ 3 مناصب إدارية هامة ,تدخلت الأحزاب السياسية المتضررة ,أيدتها قرارات الحكومة بتعيين بدلاء عنهم كما نشرت وسائل الإعلام المحلية قبل أشهر, وكأن الخروج عن دائرة المحسوبية الوظيفية محظور في كل الحكومات والأنظمة في اليمن.
مؤتمر الحوار الوطني هو الاخر نموذجاً لضياع الوقت وتمديده مع الخطط الرامية الى تمديد المرحلة الانتقالية ، هما فقط انعكاسا للذهنية السياسية اليمنية التي لا تلقي للوقت بالا او قيمة. الوقت في العالم من ذهب ، وفي اليمن من سياسة.
اليمن بلد لا ينضب منه النفط والماء والموارد فحسب ، وإنما ايضا بلداً ينضب منه الوقت.